Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما مصير سكك الحديد المتوقفة منذ عقود في لبنان؟

ضغط مجتمعي يعلق قرار تأجير سكته المهملة كـ"مرآب للشاحنات" ويدعو لإعادة إحيائه بعد عقود من الشلل

ملخص

بعد الحرب الأهلية تحولت محطات سكك الحديد في لبنان إلى أماكن مهجورة، فيما شهد بعضها تغييراً في وظيفته ليتحول إلى مطاعم ومنتزهات أو مواقف للسيارات، الأمر الذي يشكل تحدياً لأي تشغيل مستقبلي لسكة القطار في البلاد.

أحبطت الصدفة تحويل أجزاء من سكة القطار في طرابلس اللبنانية إلى مرآب موقت للشاحنات بموافقة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، ومن ثم إخراجها من وظيفتها الأساسية كمحطة لنقل الركاب والبضائع، والقضاء على حلم إعادة لبنان إلى خط حديد الشرق.

وبحسب الإيصال الصادر عن الصندوق المركزي للمصلحة، فقد تقاضت 102 مليون و355 ألف ليرة لبنانية من "شركة الكمال للتجارة العامة"، وذلك كـ"بدل اشتراك موقف موقت بأملاك المصلحة لـ15 شاحنة في طرابلس".

استفز الترخيص المهتمين بالحفاظ على تراث المدينة والمجتمع المدني الداعي إلى تفعيل خطط النقل العام، وأدى الضغط إلى تراجع المصلحة عن قرارها، وكان من إيجابيات هذه الحادثة إعادة فتح ملف سكك الحديد في لبنان والاعتداءات المتزايدة عليها من أقصى الشمال إلى الجنوب صعوداً نحو البقاع.

 

 

من ناحية أخرى، لفتت الحادثة إلى فجوة في قانون الشراء العام في لبنان، حيث ما زالت بعض المؤسسات العامة تحظى بهامش قانوني يسمح لها بتجاوز هيئة الشراء العام، التي تلعب إلى جانب ديوان المحاسبة دوراً أساسياً في مراقبة وضبط الأعمال التعاقدية للمؤسسات العامة والحكومية.

بالرجوع إلى رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، اتضح أن الهيئة لا تمتلك صلاحيات واسعة في مسألة التأجير الموقت لقطعة أرض تابعة لمصلحة سكك الحديد. إذ أشار إلى أن "هذا الموضوع انتهى، والمصلحة تراجعت عن الترخيص".

ورداً على سؤال حول وجوب عرض هذه الأعمال التعاقدية على هيئة الشراء العام، لفت إلى "وجوب الرجوع إلى قانون الشراء العام إلا في حال وجود نص خاص لدى الجهات المتعاقدة"، مشيراً إلى أن "المصلحة استندت إلى قانون خاص فيها، ومن وجهة النظر القانونية فإن النص الخاص يتقدم على القانون العام، ومن ثم فإن عمل الهيئة في هذه الحال يتخذ طابع الآلية الرقابية". 

مصلحة النوايا الحسنة

يعود تاريخ سكك الحديد في لبنان إلى الحقبة العثمانية، وبحسب الباحث صبحي عبدالوهاب "فقد أنشئت بهدف ربط أجزاء السلطنة بعضها ببعض، وبعد سقوطها تسلم لبنان الخطوط الحديدية الموجودة على أراضيه، علماً أنه في عهد السلطان عبد العزيز (1861-1876)، بوشر منح الرخص إلى الشركات الأجنبية لمد الخطوط الحديدية. وفي 1912 دشن الخط الحديدي بين طرابلس وحمص بمسعى من التاجر الطرابلسي مصطفى عز الدين، لتشكل هذه السكة نقطة التقاء بين لبنان والعالم. واستمرت بالعمل بانتظام إلى أن اضطربت حركتها بفعل الحرب الأهلية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتذكر عبدالوهاب، "عام 1973 انتقلت العائلة إلى منزل جديد في منطقة مشرفة على محطة القطار الذي كان يعمل بنشاط، وحركته لا تتوقف، وكان السكان ينظمون أوقاتهم على صوت وصوله".    

منذ توقفها نهائياً عن العمل في تسعينيات القرن الماضي، تشهد محطة سكك الحديد في طرابلس تراجعاً كبيراً في أوضاع منشآتها. ويمكن للزائر أن يخرج بخلاصات عدة، إذ لا تحظى المحطة بحماية خارجية، حيث تفتقر إلى الحارس أو السياج أو الحدود. ويمتلك الأشخاص حرية الحركة بحيث يدخل الشبان على شكل مجموعات على متن دراجاتهم النارية، وتأتي بعض الأسر للتنزه في أنحاء المحطة والتقاط الصور إضافة إلى مجموعة من رسومات الغرافيتي التي تذكر بماضي المحطة.

وتفقد الأبنية الحجرية أجزاءها ومعالمها سريعاً تحت وطأة التخريب والعوامل المناخية، وتغطيها الأعشاب من كل صوب. في حين تلتزم عربات نقل الركاب والبضائع الصمت في انتظار عودة الحياة إلى شرايين سكك الحديد الموعودة، حيث تشكل المحطة نواة لإعادة إحياء الخط الممتد من طرابلس إلى الحدود اللبنانية - السورية أو خط طرابلس – بيروت. 

هل التعاقد قانوني؟

يعلق زياد نصر رئيس مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، على الانتقادات في شأن الترخيص لإيقاف الشاحنات موقتاً داخل المحطة في طرابلس قائلاً، "لسنا أمام تأجير عقار، لأن لدينا أملاً بإعادة العمل في السكة مستقبلاً. وما قامت به المصلحة جاء وفق الأنظمة المرعية لدى المصلحة التي تمتلك محطات في مختلف الأراضي اللبنانية لغايات النقل والانتقال".

وأضاف، "عوضاً من توقف الشاحنات في الطريق المؤدي إلى مرفأ طرابلس المحاذي، اتفقنا أن تتوقف داخل المحطة ضمن الأصول، مما يؤدي إلى الحفاظ عليها واستعمالها للغايات التي تأسست من أجلها أي النقل، بالتالي السماح للشاحنات التي تريد الدخول إلى المرفأ بأن تركن داخل المحطة، مما يؤمن مداخيل إضافية لها عوضاً من كونه عقاراً متروكاً منذ 40 عاماً".

يرى نصر أن "بعض أبناء المدينة أثاروا التباساً وموجة تشكيك لدى الرأي العام حول مصداقية الدولة". مؤكداً إيقاف الترخيص مراعاة لهواجس هؤلاء.

 

 

تلفت إيمان الرافعي قائمقام بلدية الميناء، إلى أنه "من الناحية القانونية لا تمتلك البلدية سلطة على محطة القطار، بالتالي فإن إجراء التلزيمات لا تخضع لرأيها لأنها أملاك خاصة بمصلحة سكك الحديد". موضحة، "لم نكن على علم بالترخيص لشركة خاصة بركن شاحناتها داخل قطعة أرض تابعة للمحطة، لكن علمنا بذلك عندما تلقينا طلباً بفتح مخرج من داخل العقار التابع للمصلحة القريب من الواحة الثقافية إلى الطريق العام".

وتكشف الرافعي عن إرسالها كتاباً إلى المصلحة لتبيان واقع حال المحطة ومكانتها في وجدان أبناء المدينة. تعبر عن خوفها من "تغيير معالم المحطة في حال السماح بتحويلها إلى موقف موقت"، وتتطلع إلى وفاء المجتمع المدني بوعوده لإقامة سور حماية حول المحطة بالتعاون مع المصلحة.

الوظيفة الأولى والأهم

استفز الترخيص الرأي العام اللبناني، إذ من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على أحد المشاريع الحيوية التي أسهمت تاريخياً في نهضة المدينة بوصفها عاصمة اقتصادية للبنان.

ما حدث تضعه جمانة الشهال تدمري، رئيسة جمعية تراث طرابلس، في خانة "القضاء على الذاكرة الجماعية، لأن المحطة تحظى بقيمة تراثية، سواء على مستوى الأبنية التي تعود إلى القرن الـ19 أو حتى على مستوى الآليات والقطارات، ناهيك بوجود محطة لصيانة القطارات داخلها. وأن المحطة تقطع ضمن نسيج عمراني حضاري يضم برج السباع، الذي يعتبر إحدى أهم قلاع مدينة طرابلس".

تكشف الشهال عن "وجود آلاف الأطنان من الحديد داخل المحطة، بالتالي فإن فتحها أمام الشاحنات خارج أطر المراقبة والضبط سيسهل عملية سرقتها". مستهجنة عدم التجاوب الرسمي مع مبادرتها، حيث تقدمت بطلب رسمي إلى وزارة الثقافة من أجل تصنيف المحطة معلماً تراثياً، وأرسلت الكتاب نفسه إلى وزارة الأشغال العامة والنقل، لكنه رُفض بسبب "طبيعة العلاقة الشخصية بين الوزارات".

 

 

تخشى رئيسة جمعية تراث طرابلس من سقوط بعض المنشآت داخل المحطة بفعل العبث بها وعدم وجود حماية كافية. موضحة، "لدينا مخاوف جدية من عدم انتهاء مشروع الترخيص بالمرآب داخل المحطة، لأن وزير الثقافة ما زال يرفض تصنيف المحطة تراثية"، ومتسائلة عن "سبب الإصرار على إقامة المرآب ضمن المحطة على رغم وجود مئات العقارات الشاسعة في المحيط، والتي يرحب أصحابها بمستأجر مقابل بدل مادي". 

لا يقتصر الخطر على الشق التراثي وإنما يتجاوزه إلى الدور الحيوي الاقتصادي الذي لعبته المحطة باستمرار. يعود كارلوس نفاع، رئيس جمعية "تران تران"، إلى عام 1890 عندما اكتتب أبناء مدينة طرابلس وتجارها لإنشاء شركة بناء سكك الحديد انطلاقاً من مرفأ طرابلس باتجاه سوريا وشكلت مقدمة لنهضة المدينة. حينها دفع نسيم خلاط وحده أسهم بقيمة خمسة آلاف ليرة ذهبية قبل مساهمة الجهات الحكومية الفرنسية واللبنانية.

أما الآن فـ"المحطة مهملة ومدمرة الهياكل، ولكنها ما زالت تمتلك مساحة الأرض، لا بد من الحفاظ عليها وعدم تحويل وجهة استعمالها بجعلها مساحة للمطاعم كما حدث في محطة مار مخايل ببيروت أو إقامة مواقف سيارات أو منشآت عليها"، يقول كارلوس نفاع.

وتفيد التجربة اللبنانية أن "الموقت دائم"، بحسب نفاع، حيث تحول خط سكك الحديد الذي يربط بيروت بمنطقة بعبدا على خط طريق صيدا القديمة، إلى مواقف للسيارات ومعارض بيع السيارات المستعملة، بالتالي فإن إزالتها ستواجه بموجة اعتراض سياسية وشعبية بحجة قطع مورد دخل العاملين وأصحاب المصالح.

سكة قابلة للحياة

استمرت سكك الحديد في لبنان بصورة تجارية عام 1995، ثم جرى نقل الركاب عبرها في 1996 بعد إطلاق ما يسمى خطة التطوير على يد الشركة الفرنسية "صوفرايل". حينها سار القطار البولوني الذي يعمل بالمازوت (S45) للمرة الأخيرة من بيروت إلى طرابلس في إطار الكشف عن السكة، مما يؤكد أن إمكانية العمل ممكنة.

يكشف نفاع عن وجود مقاطع سليمة بطول 17 كيلومتراً من جبيل إلى البترون، وكذلك المقاطع المختلفة من جبيل إلى عكار مروراً بطرابلس حيث لا توجد تعديات كبيرة عليها بخلاف المناطق الأخرى، وهي الأفضل بين سكك الحديد اللبنانية الممتدة على نطاق 403 كيلومترات.

ويضيف، "تحتاج الشبكة الواقعة شمال لبنان إلى صيانة بسيطة من أجل إطلاق الأشغال التي وضع حجر الأساس لها عام 2002 رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري لربط طرابلس بالحدود اللبنانية – السورية".

 

 

ويجزم أن "ملف التلزيم جاهز في أدراج وزارة الأشغال، ويحتاج إلى قرار وتوقيع"، متحدثاً عن "متضررين من عودة القطار، وفي مقدمهم كارتيل النفط، لأن حجم الاستيراد يبلغ أربعة مليارات دولار، وسيتضرر هؤلاء مباشرة في حال تفعيل النقل العام".   

ويقول نفاع، "شهدت فترة الحرب الأهلية سرقة سكك في البقاع وتصديرها إلى باكستان، وهذا مثبت في مراسلة وزير الأشغال إدغار معلوف في عهد الحكومة العسكرية التي رأسها العماد ميشال عون".

"أسكوا" والتزامات لبنان

عام 2003 انضم لبنان إلى اتفاقية ممرات الـ"أسكوا" الاقتصادية، حيث تعهد ربط بيروت بدمشق، ومرفأ طرابلس بمحافظة حمص السورية، بوصفها شبكة وسيطة تربط لبنان بباقي البلاد العربية من الأردن إلى السعودية والعراق، وهذه الاتفاقية واجبة التنفيذ بحلول 2025.

يأسف كارلوس نفاع لأن لبنان لم يقم بأي من التزاماته حتى اليوم فيما تؤدي باقي الدول موجباتها، معتبراً أن "المحطة الممتدة على 50 ألف متر مربع والملاصقة لمرفأ طرابلس هي فرصة لإحياء اقتصاد المدينة وازدهار لبنان وربط المرفأ بالعالم العربي أجمع، والمملكة العربية السعودية على وجه التحديد".

وتمتلك المصلحة سكك حديد جديدة موضوعة "على سبيل الأمانات" في مرفأ طرابلس، تم شراؤها في 2004 واستلمها لبنان عام 2005، في إطار إعادة إحياء سكك الحديد بين مرفأ طرابلس والحدود اللبنانية - السورية، لكن المشروع توقف مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005.

 

 

بحسب رئيس مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر، فـ"بعد وصول كميات الحديد توقف العمل على المشروع، وأبقي على هذه الكميات داخل حرم المرفأ في انتظار مشروع جدي لإعادة إحيائه. لكن لو كانت تلك الأجزاء موضوعة في مكان آخر لربما كان تعرضت للسرقة". مؤكداً "ارتباط المشروع بالسياسة العامة للدولة اللبنانية والأولويات الحكومية وتأمين التمويل والتوظيفات".

من جهته، يؤكد رئيس مرفأ طرابلس أحمد تامر، "وجود أجزاء السكة الجديدة داخل المرفأ ومعاملتها بصورة مميزة عن باقي الموجودات المتروكة منذ زمن بعيد. وأخيراً، أجرى رئيس محكمة التنفيذ مسحاً لكل الموجودات المتروكة داخل حرم مرفأ طرابلس، وأبلغناه بالخصوصية التي تتمتع بها سكك الحديد، وأنها عائدة لمؤسسة عامة. وعندها قام القاضي بإخراجها من لائحة الجرد. وعليه لا يمكن أن تكون السكة الجديدة جزءاً من أي مزايدة تنظم مستقبلاً لتخفيف الاكتظاظ والتخلص من البضائع المتروكة داخل المرفأ، التي لا يأتي أصحابها لطلبها".       

ليست بأحسن حال

انعكس الانهيار المالي والاقتصادي على مختلف نواحي الحياة في لبنان، ولا يختلف حال مصلحة سكك الحديد عن سائر المؤسسات العامة. يقر زياد نصر بازدياد التعديات على السكة، فـ"عند إبلاغنا بوجود أي تعدٍ، نعد تقريراً ونرسله إلى القضاء المختص، وتقوم الإدارة بأقصى ما يمكن فعله لناحية التقدم بالدعاوى ضد المخالفين لإزالة التعدي". 

ويضيف نصر، "تسهم الجهود التي نقوم بها بالحفاظ على هيكل سكك الحديد"، معتقداً "وجود شهية لالتهام كل الأملاك العامة". ويرد على تحول مصلحة سكك الحديد إلى موضوع للسخرية والانتقاد الدائم باعتبارها نموذجاً للقطاع العام غير الفاعل. معتبراً "أن هناك مغالطات كبيرة لأن حال المصلحة هو من حال كل المؤسسات الدستورية والحكومية اللبنانية، حيث لم تعد المصلحة تمتلك موظفين وسائقي قطارات، فالجميع تقاعد، ولا يكاد يوجد أحد منهم، لذا تستعين بموظفي النقل المشترك للقيام بجولات على خطوط سكك الحديد من أجل تفقدها وحمايتها من التعديات في ظل إهمال بعض البلديات".

السجال حول مصير محطة القطار في طرابلس أعاد تسليط الضوء على وضع سكك الحديد في لبنان، حيث تشهد اعتداءات متفاوتة في أكثر من منطقة. تكشف إيمان رافعي عن تحركها لإزالة التعديات على سكك الحديد في منطقة القلمون، حيث قامت بمخابرة القوى الأمنية بصورة متكررة لقمع المخالفات المتمادية، مشددة على أن "نزع التعديات شرط إلزامي لإعادة تشغيل سكك الحديد والحفاظ على فرصها المستقبلية".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات