Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حفل "التنصيب"... خروج اضطراري للمصريين من سكينة رمضان

تكهنات حول مصير الحكومة التي صارعت طواحين الأزمة الاقتصادية وعافرت في أجواء سقوط الجنيه وشح السلع وجنون الأسعار

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوقع وثيقة خلال تنصيبه لولاية رئاسية ثالثة في العاصمة الإدارية الجديدة (أ ف ب)

ملخص

استيقظ المصريون على مكان غير المكان، وبرلمان غير البرلمان، ونصب تذكاري غير النصب، وطريق إلى موقع حلف اليمين غير الطريق، وإن ظلت اليمين هي اليمين، والرئيس هو الرئيس.

على مضض شديد، ودون شغف أو لهفة أو حتى حب استطلاع لمعرفة ما فات، يستعد المصريون للحاق بما فاتهم من أحداث، وما تجاهلوا من مجريات بفعل رمضان، شهر الكثير من الصوم والعبادات والقليل، وربما الكثير أيضاً من المسلسلات واللقاءات الأسرية والعزومات والولائم، التي تكلفت الآلاف وجمعت الناس على مائدة رمضان. إنها عادة الشهر التي تتنافى وتتعارض وتتناقض مع نشرات الأخبار ومتابعات كوارث العالم ومصائب الداخل وأزماته الدائرة على مدار أشهر العام.

مصائب العالم

مصائب العالم وأزمات الداخل لا تستثني رمضان، لكن المصريين يستثنون متابعتها أو الالتفات إليها في شهر رمضان. يفعلون ذلك بوعي أو من دون، لكن انصرافاً جماعياً عن كل ما يعكر المزاج، ويكدر السلام سمة رمضانية أكيدة، لا سيما في السنوات التي تشتد فيها المصاعب وتتكالب عليها الضغوط.

الضغوط التي تعرض لها المصريون منذ رمضان الماضي كثيرة وثقيلة، ويمكن القول إنها غير مسبوقة. أزمة اقتصادية طاحنة لم تترك بيتاً إلا وتركت آثارها على أهله، أو مكان عمل إلا وحامت حوله، وتخطيط مستقبلي إلا وأجهضته. قروض من مؤسسات إقراض دولية تفجر مخاوف مكتومة أكثر ما تمثل فرصاً واعدة، مشروعات وشراكات استثمارية كبرى، أسعار طعام وشراب وسلع ضرورية وخدمات أساسية تعدت مرحلة الغلاء، وسارت بثقة وسرعة نحو الجنون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حكومة اختلفت حولها التقييمات الشعبية بين رأي غاضب ناقم، معتبرها أحد أسباب الأزمة ووجب تغييرها، وآخر رحيم بها، معتبراً إياها حكومة كبش فداء تحمل وزر عوامل عالمية من أوبئة وحروب، وتتحمل عبء إخفاقات داخلية، من سوء إدارة موارد وضبابية تحديد أولويات. تلويح بقرب الانتقال إلى عاصمة جديدة واعتبارها نهاية لمشكلات العاصمة القديمة، بينما لوجيستيات الانتقال وتفاصيل الاستبدال وسبل الوصول إليها في علم الغيب والقائمين عليها.

حرب ضروس تدور رحاها على مرمى حجر من الحدود الشرقية، طارحة غمة نفسية وأخطاراً عسكرية ووساوس أمنية. وتطول قائمة الحوادث والأحداث والأخبار التي اختار المصريون طواعية أن يضغطوا على خاصية "تجميد الشاشة" حتى ينتهي رمضان.

ومع قرب انتهاء رمضان بدأت الأخبار والحوادث والأحداث تلوح بالعودة مجدداً إلى قوائم الاهتمام والمشاهدة والمتابعة، إن لم يكن باختيار المتابعين والمشاهدين، فعبر تغيير دفة المحتوى، سواء المقدم أو المقترح.

المحتوى المقترح بناءً على ما يتابعه المستخدم ظل محصوراً طوال الشهر في طريقة عمل الكنافة بالمانغو والفتة بالزبادي قبل الإفطار، ثم خناقة هل "الحشاشين" عمل رائع أم فكرة ضلت طريقها؟ وربما هل (الشيخ) علي جمعة يجدد الخطاب الديني أم يشوه تراث الملتزمين؟ محتوى الفيديوهات على "تيك توك" و"إنستغرام" و"فيسبوك" وغيرها سار طوال الشهر الكريم على هوى المصريين في اختيارهم النأي بأنفسهم بعيداً من أخبار الحروب ومجريات الأسعار ومآل الحكومة ومصير العاصمة وغيرها من فدائح الأمور وأصعبها وأهمها.

استفاقة مبكرة

أهم ما دفع المصريين في الأيام الأخيرة من الشهر المبارك لبدء الاستفاقة من وضعية الصيام والارتداد إلى أرض الواقع كان حفل تنصيب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لفترة رئاسية ثالثة. الجميع يعلم أن الرئيس السيسي فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بـ89.6 في المئة. والجميع يعي أيضاً أن الفترة الرئاسية الثالثة مقرر لها بحسب الدستور أن تبدأ في "اليوم التالي لانتهاء فترة السلف"، أي الرئيس السابق (الذي هو الحالي)، وأن الرئيس سيبدأ في تنفيذ الإجراءات الدستورية عبر أداء اليمين أمام مجلس النواب. ربما التفاصيل الدستورية، والترتيبات الإجرائية وغيرها ليست حاضرة في كل الأذهان، لكن الكل كان على يقين في مطلع رمضان أن تغيرات ما متوقعة أو مأمولة أو مرغوبة في أعقاب تنصيب الرئيس رئيساً.

وتشاء السماء أن يتزامن التنصيب والأيام الأخيرة من رمضان، شهر الانقطاع عن الطعام والشراب والأخبار. حفل التنصيب عجل من عودة المصريين إلى معترك الأخبار والأحداث. فالتنصيب لم يكن مجرد احتفاء عادي ببدء فترة رئاسية جديدة لم يكن فوز الرئيس فيها مفاجأة، لكن المفاجأة كانت موقع الاحتفاء، عاصمة مصر الجديدة، التي تظل بلا اسم رسمي لها، فقط الاسم الذي أطلق عليها على سبيل الوصف وقت التفكير فيها "العاصمة الإدارية".

 

استيقظ المصريون على مكان غير المكان، وبرلمان غير البرلمان، ونصب تذكاري غير النصب، وطريق إلى موقع حلف اليمين غير الطريق، وإن ظلت اليمين هي اليمين، والرئيس هو الرئيس.

عودة المصريين إلى معترك القيل والقال، و"الهبد" الخبري و"الرزع" المعلوماتي المخلوطين بالآراء الشخصية والمواقف الأيديولوجية مع توليفة التسييس والاستقطاب لم يكن متوقعاً لها أن تجري فجأة. عادةً يعود المصريون تدريجاً في آخر أيام العيد. هذه المرة، حلف اليمين لفترة رئاسية ثالثة، في عاصمة جديدة، وسط تكهنات حول مصير الحكومة الحالية التي صارعت طواحين الأزمة الاقتصادية وعافرت في أجواء سقوط الجنيه وازدهار السوق السوداء وشح السلع الرئيسة وجنون الأسعار وغيرها من عظائم الأمور وأفدحها دفع بالملايين إلى الخروج الاضطراري من سكينة رمضان.

استحالت السكينة المنشودة على وقع التنصيب، وذلك لسببين: الأول يتعلق بالعاصمة الجديدة، والثاني مرده تغيير الحكومة. العاصمة الجديدة واجهت عاصفة تراوح مكوناتها بين الرفض والترحيب والمقاومة والتشكيك. انطلقت الفكرة خلال فعاليات مؤتمر "مستقبل مصر" الاقتصادي الذي انعقد في مصر في مارس (آذار) عام 2015. ومنذ انطلاق الفكرة، والفكرة محل شد وجذب، ولوم وأمل، وتكهنات وترجيحات معظمها مبني على آراء وقيل وقال.

قيل إن الكلفة المبدئية للعاصمة وقت كانت فكرة في عام 2015 ستصل إلى 48 مليار دولار أميركي. بعدها بأعوام، تحديداً في عام 2019، قدر مسؤول سابق في الشركة المالكة للعاصمة الكلفة بنحو 58 مليار دولار، بعدها بعامين، خرجت تقارير صحافية تشير إلى أن الكلفة تبلغ 85 مليار دولار.

حديث الدوار

حديث المليارات أصاب المصريين بدوار. قليلون فقط لديهم القدرة على تخيل مقدار المليون، فما بالك بالمليار. الدوار في سنوات ما قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية تحول إلى اختلال بعدها. وزادت العاصمة الجديدة انقسام الفريقين المتناحرين، وهما الفريقان اللذان تشكلا في أعقاب أحداث 2011، وتعمقا في أحداث 2013 التي أطاحت جماعة "الإخوان المسلمين". الفريق المناهض للنظام يرى العاصمة الجديدة إهداراً للأموال، وإثقالاً للأحمال، وإغراقاً في القروض والديون. والفريق المؤيد يرى العاصمة ضرورة وتطوراً طبيعياً واستثماراً في محله ويليق بمصر والمصريين.

لكن المصريين وجدوا أنفسهم، وهم يستيقظون في نهار رمضان على تنصيب الرئيس في العاصمة الجديدة، وقد انخرطوا مجدداً في البحث عن كلفة العاصمة الجديدة، ومن تحملها، وماذا ينتظرها وينتظرهم.

وفي انتظار، أو على أمل، الكشف عن معلومات تقطع شك ضلوع موازنة الدولة في التمويل، وهو ما نفاه غير مرة مسؤولون، وعلى رأسهم الرئيس نفسه، يتباحث الصائمون في مسألة الانتقال الفعلي إلى الحكم ودوائره ووزاراته وموظفيها، وكذلك رحلة المواطنين منها وإليها للحصول على خدمات القطاعات الحكومية المعتادة، لا سيما تلك التي لا تتوافر افتراضياً.

 

فرضيات فوائد القروض الدولية وتفنيدات أضرارها والتكهن حول غاياتها ومتابعة ما وافق عليه الصندوق (النقد الدولي)، وما قرره البنك الدولي من حزم التمويل، وما قرره الاتحاد الأوروبي من اتفاقات مع مصر بين قروض واستثمارات وتعاون في ملفي الهجرة إلى أوروبا ومكافحة الإرهاب، التي أحدث جميعها صخباً هادراً وجدالاً مستعراً بين المصريين، بين متهلل ومتشكك ومتخوف تعود تدريجاً إلى الساحة النقاشية الشعبية، لا سيما في ساعات ما قبل الإفطار.

إنها الساعات التي تتواتر فيها أخبار القروض المثيرة للجدل، ودفعاتها التي بات المصريون يعرفون أنها مرتبطة بمزيد من "المرونة". إنها مرونة سعر الصرف، أي ربط المدفوعات بتحديد سعر صرف الجنيه المصري وفقاً لأوضاع السوق وإتاحتها النقد الأجنبي للشركات والأفراد! بمعنى ثالث، عاد حديث التعويم إلى الشارع المصري، وهو الذي صام عنه منذ بداية شهر الصوم.

ارتفعت أسعار السلع الغذائية ارتفاعاً كبيراً مرات متتالية، بعضها الفارق الزمني بينها ساعات لا أيام! نعم، لكن الزيادات تجمدت، بمعنى لم تتحرك كثيراً، منذ بداية شهر رمضان. وعلى رغم ذلك، وفي قرارة نفس الملايين من المصريين، هم يعرفون أن الأسعار في حالة حراك دائم في اتجاه واحد، صعوداً لا هبوطاً. وارتباط حديث التعويم بالأسعار صار أمراً واقعاً لا يخفى على أحد. لذا، أتت أخبار شرط المرونة للحصول على دفعات القرض لتؤلب أوجاع الأسعار وتقلب أحوال الصائمين من وضعية السكون إلى خاصية الاضطراب.

اضطرابات عديدة تسري في المزاج العام مع قرب انتهاء شهر الصيام. جانب من هذه الاضطرابات معروف، وإن كان غير مبرر. فكلما سرى حديث أو تلميح عن تعديل وزاري مرتقب، اضطرب الشارع. هذه المرة، الحديث ليس مجرد تكهنات، لكن في حكم المؤكد. صحيح أن المؤكد قد ينجم عنه تغيرات محدودة، أو محدودة للغاية، لكن تظل عبارة "تعديل وزاري" من أكثر العبارات إثارة للشجن بين الجموع. ويزداد الشجن وتتفاقم الآمال كلما زادت الأزمات وتفاقمت الكوابيس.

كابوس البقاء

كابوس بقاء الحال على ما هو عليه ينغص على البعض نيته إغلاق باب الأخبار بـ"الضبة والمفتاح" طوال أيام الشهر الكريم. فعلى رغم الصلابة والجلد والصبر التي أظهرتها الحكومة التي يترأسها مصطفى مدبولي وهي تبحر في أزمة اقتصادية هي الأقسى منذ عقود طويلة، وعلى رغم شعور دفين لدى كثر بأنه لا يمكن تحميل أفراد بأعينهم في هذه الحكومة مغبة ما آلت إليه الأوضاع "لأنها أكبر من الجميع"، فإن عادات المصريين وتقاليدهم تشير إلى أن التعديل، أي تعديل، يحفز قرون استشعار الأمل دون سبب علمي واضح.

ولسبب واضح، تعود حرب القطاع تدريجاً لتتبوأ مكانتها المتقدمة في اهتمامات المصريين. صحيح أن العودة تدريجية وبطيئة، لكنها أكيدة. وصحيح أن الحرب الدائرة في غزة استمرت في حصد الأرواح وإحداث الخسائر، إلا أن غياب نشرات الأخبار من على الشاشات، والانصراف من قنوات الأخبار صوب قنوات الترفيه عادة شهر رمضان أمور أسهمت في خفوت الهبة الشعبية والانتفاضة العاطفية التي لم تبرح قلوب الكثر، لكن توارت بفعل إيقاع الشهر الكريم.

 

لكن العودة أضيف إليها ما استجد على ساحة الحرب وهوامشها منذ بداية رمضان. إحكام القبضة الإسرائيلية، والتأكد من ضرب عرض الحائط بالقوانين الأممية والمنظمات الدولية، وتضاؤل آمال وصول المفاوضات إلى نتائج فعلية تنعكس على المدنيين المحبوسين في جنوب القطاع، تحديداً في رفح على بعد أمتار من الحدود المصرية، ومطالبة "حماس" بوقف فوري للإنزال الجوي للمساعدات على غزة ووصفها بـ"الهجومية والخاطئة وغير المناسبة وعديمة الفائدة"، وتصاعد ملامح دق أسافين الفتنة عنكبوتياً عبر تدوينات وتغريدات تدعو العرب إلى ثورة هنا أو انتفاضة هناك، أو تلميحات بعمليات إرهابية (عقابية) رداً على عدم إرسال الجيوش والشعوب لتحرير فلسطين مستجدات تفرض نفسها نقاطاً إضافية على جدول الأعمال الشعبي في مناقشات حرب القطاع.

ويمكن القول إن العودة الوحيدة الخالية من الشد العنيف والجذب الرهيب بعد هدوء رمضان وسكينته الإخبارية هي عودة الفتاوى إلى سابق عهدها واستطلاعات الرأي العام لسالف وضعها.

ستنقشع فتاوى حكم القبلة الزوجية في نهار رمضان قطرة العين ونقط الأنف وحقن الأنسولين المفسدة للصيام، وتعود فتاوى حكم الزواج أول يوم العيد، وتفتيش المرأة هاتف زوجها، وقيام زوجها بضربها، وتنازل الزوجة عن أثاثها وشبكتها وحالها ومالها بعد وقوع الطلاق، كما تعود استطلاعات الرأي التي تجريها مواقع صحافية إلى سابق عهدها، حيث "هل تؤيد مراقبة الحكومة أسعار الأسواق؟"، و"هل تؤيد عمل المرأة في المناصب القيادية؟"، و"هل تنوي الانتقال للعاصمة الإدارية الجديدة؟"، وهنا يعاد إلقاء كرة العودة في ملعب العاصمة الجديدة، ومنها إلى الأزمة الاقتصادية والقروض الدولية والتعديل الوزاري وحرب القطاع وفتاوى ما بعد الصيام واستطلاعات الرأي في بقية أشهر العام إلى أن يأتي رمضان، فيعود الجميع أدراجه إلى وضعية تجاهل الأخبار وتجميد المتابعة وتأجيل التفاعل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات