تعيش تونس أزمة عديدة الجوانب ما بين اقتصادية واجتماعية، وتنتظر حلولاً منذ سنوات، وبينما تشخص السلطة القائمة العيوب في عديد من القطاعات مثل النقل والصحة والتعليم، لكنها لا تضع برامج إنقاذ مناسبة، وتحيد بذلك عن دورها كسلطة تنفيذية بيدها القرار في وقت يجب عليها قيادة عملية الإصلاح بمعية الشريك الاجتماعي، هذا ما ورد على لسان الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، أنور بن قدور، في حوار لـ"اندبندنت عربية" ذكر فيه أن الأزمة الاقتصادية تتجسد بوضوح اليوم في نقص المواد الغذائية والأدوية في السوق، وضعف البنية التحتية وتردي خدمات المرافق العمومية، وتتناول السلطة هذه المظاهر بالانتقاد من دون الاشتغال على الحلول على رغم امتلاكها الصلاحيات القانونية وآليات التحكم في المالية العمومية التي تخول لها علاج الأزمة.
وقال بن قدور "إننا كمنظمات وأطراف اقتصادية فاعلة نقر باهتراء المنوال التنموي السابق، والجميع ينادي بوضع منوال تنموي جديد وعادل، لكن لم تشتغل جميع الحكومات المتعاقبة من دون استثناء على تصور جديد، وتعبنا من الحلول الترقيعية والآنية لتمرير قوانين المالية (الموازنات) كل سنة... انظروا إلى الموازنات، جميعها متشابهة، وموازنة سنة 2024، صيغت بارتجالية ولم تتضمن أي مشروع إصلاحي بل لا تختلف عن كل الموازنات لسنوات خلت، كما لم تتضمن رؤية واضحة بل زادت من الغموض بعدم تقديمها تفاصيل عن القروض الخارجية ومصدرها".
ونبه بن قدور إلى خطورة تأخر الإصلاحات التي باتت ملحة للنهوض بالاقتصاد التونسي وإعادة "وضعه على السكة"، إذ يقول "نقر بوجوب الإصلاح بما فيه إصلاح المؤسسات العمومية والدعم والأداءات ومنظومات الإنتاج من دون استثناء والقطاعات مثل الصحة التعليم والنقل، لكن لم تشتغل الحكومات على توفير بدائل، ليس لديها حلول، ولم تقدم برامج لإصلاح المنظومة التربوية أو المنظومة الصحية أو المؤسسات العمومية في ظل غياب تام لموازنات مرصودة لعملية الإصلاح".
وحول إمكانية تقديم الاتحاد العام التونسي للشغل مقترحات ومشاريع إصلاح، قال إن الطرف الاجتماعي (الاتحاد) قدم مقترحات لكن لم يتحصل على ردود نهائية على رغم تفاعل بعض الحكومات منذ 2011، وكشف عن أن اجتماعات ونقاشات دارت بين المركزية النقابية وحكومة هشام المشيشي (2020-2021)، وحكومة نجلاء بودن (2021-2023) لكنها توقفت بقرار حكومي بعد أن دارت حول إصلاح المؤسسات العمومية، وذلك بعد جهود من الطرفين اللذين عينا لجاناً خاضت نقاشات مهمة.
وحذر بن قدور من التأخر في تنفيذ الإصلاحات وكلفته الباهظة للغاية، إذ يرجح أن يتسبب في تضاعف الاعتمادات المطلوبة للقيام بالإصلاح في جميع المجالات، مفسراً التعثر بغياب الرؤية الاستباقية والتخطيط وهما أساس مقاربات الحكم.
وحول كتلة أجور موظفي القطاع العام التي ترى الجهات المانحة أنها مرتفعة وطالبت بتخفيضها وموقف المركزية النقابية من ذلك، قال إن المسألة انطلقت مع مقترح صندوق النقد الدولي الذي طالب بتخفيضها إلى 12.5 في المئة من الناتج القومي الخام، ما أثار هذا الموضوع الذي لم يكن مطروحاً في السابق بحكم أن الإشكال لا يتمثل في نسبة الأجور المرتفعة بل في نسبة النمو المنخفضة للغاية بسبب تدحرجها المتواصل ونسقها المتراجع.
ويشير إلى أن خفض الناتج وتراجع نموه هو الذي يؤدي إلى ارتفاع نسبة كتلة الأجور، والأمر لا يتعلق بكتلة أجور كبيرة بل بنسبة نمو ضعيفة، كما يقول، مضيفاً "نحن في تونس لدينا معضلة المقارنات
بدل النظر في الإشكال الأساس... لم نختلف حول كتلة الأجور وعدد الموظفين مع الحكومة، بل طرحها مع صندوق النقد، وفي المقابل لدينا نقص فادح في عدد موظفي القطاع العمومي في عديد القطاعات وخصوصاً الصحة والتعليم، فالإشكال يتمثل في سوء توزيع الموظفين على القطاعات، ثم تدني نسبة النمو".
غياب سياسة التشغيل
وتساءل بن قدور في المقابل عن تقييم سياسة التشغيل وغيابها في سياسة كل الحكومات قائلاً "ليس لدينا سياسة تشغيل في تونس في ظل نسبة بطالة تبلغ 16.4 في المئة وهو الإشكال الأساس، بينما قام الاتحاد العام التونسي للشغل بدراسة مفصلة للتشغيل في البلاد ووضع استراتيجية وبرنامج خطة للتشغيل منذ 2012، عبر بعض اللجان، وقيم ووضع المعدات للنهوض بالتشغيل، في حين وقعت وزارة التشغيل على أشغال مختلف اللجان، والاتفاق على الاستراتيجية المقترحة، قبل أن يقع الخلاف حول المعدات، بخاصة مكاتب التشغيل الخاصة التي اقترحتها الحكومة ورفضها الطرف الاجتماعي الذي تمسك باقتصارها على القطاع العمومي".
وفي رده حول المناخ الاجتماعي المحتقن وتسببه في العجز عن استعادة نسق النمو وفق عدد من المحللين، ذكر بن قدور، أن كل الحكومات اعتمدت على عدم الاستقرار الاجتماعي لتبرير فشلها في تحقيق النمو ودفع الاستثمار، مشيراً إلى أن تحسين نسبة النمو رهن تنشيط قطاع الاستثمار العمومي والاستثمار الخاص على حد السواء، بينما تشهد تونس تعطل هذا المحرك للنمو، في ظل غياب تام للاستثمار العمومي، كما يبدو الاستثمار الخاص منعدماً بالمحافظات الحدودية التي تشكو من مشكلات تنموية كبرى، ووعدتها الحكومات المتعاقبة بالاستثمارات لكنها لم توفر الحوافز والبنية التحتية اللازمة لتوجيه الاستثمار الخاص إلى هذه المناطق التي تمثل ملفات مهمة، وفق ما يقول.
وتابع قائلاً "انعدمت مخصصات الاستثمار العمومي تقريباً بالموازنة فلا تزيد على 5.2 مليار دينار (1.67 مليار دولار) فقط، مما يعني الغياب المدوي للاستثمار العمومي، وعدم توفير مخصصات له، علاوة على عدم قيام المؤسسات المالية بتمويل الاستثمار، إذ تقبل البنوك في تونس على إقراض الدولة بدل منح القروض للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، ولا تقوم بالمخاطرة ولا تجازف لإنقاذ المؤسسات، كما لم توفر الحكومات مخططاً للإنقاذ، وفي هذا الصدد لم تتحصل المؤسسات الصغرى والمتوسطة والناشئة على التعويضات المالية عن مخلفات جائحة كورونا، في ظل انعدام سياسة إطلاق المبادرة الخاصة التي قدمت وعوداً حكومية بخصوصها وغياب المخططات المرسومة للنهوض بالاستثمار المحرك الرئيس للنمو".
وفي رده عن سؤال حول البنك المركزي التونسي والضجة التي رافقت منحه تسهيلات وتمويلاً مباشراً للحكومة، قال بن قدور إنه إجراء استثنائي وإقراض مشروط بظروف استثنائية، وهو لا يؤشر إلى المساس باستقلالية البنك المركزي التي يتحتم التمسك بها تفادياً لخضوعه للتجاذبات السياسية.
الاقتصاد التونسي في طريق مسدود
ورفض بن قدور ما يروج حول صمود الاقتصاد التونسي ومقاومته الاستثنائية للصعوبات التي تمر بها البلاد، معتبراً أن الاقتصاد التونسي يسير في طريق مسدود من دون آفاق ولا رؤية بحكم غياب استراتيجية الإصلاح ومخطط الإنقاذ، معتبراً أن تراجع التضخم إلى نسبة 7.8 في المئة بعد بلوغه 10.5 في المئة لا يعني انخفاضه والسيطرة عليه، مقارنة بنسب التضخم في البلدان المجاورة، إذ ينحسر عند 2.2 في المئة في المغرب، بينما غابت في تونس الإجراءات الملموسة لمحاربة التضخم، فلم تتحكم الحكومة في مسالك التوزيع ولم تسهر على الترفيع في الإنتاج بحكم غياب التصورات على مستوى مسار تطور الإنتاج ودائرته، ولا وجود لبرامج دفع القطاعات الكفيلة بتحقيق التنمية، وفق ما يقول.
وحول موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من الملف الذي قدمته تونس إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، يرى بن قدور أن المنظمة اشترطت التوصل إلى اتفاق تونسي - تونسي قبل الذهاب إلى الصندوق، بهدف التفاوض الند للند مع الجهة المانحة حول طرح إصلاحات تونسية وطنية، فيما يمثل الاتفاق حول الإصلاحات مفتاح هذا المسار، مضيفاً "نحن في حاجة إلى الإصلاح لنضع له رؤية وبرنامجاً واضحاً ثم نتحدث مع المانحين... هذا هو المسار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونفى بن قدور ما راج حول رفض المركزية النقابية الاقتراض من صندوق النقد الدولي من جهة المبدأ، واصفاً ذلك بـ"القصص المغلوطة التي تروى عن المنظمة"، وبالعودة للحديث عن الإصلاحات الوطنية وضرورة الاتفاق حولها قبل الاتجاه إلى الصندوق، قال "طالبنا بالإصلاح ونحن من فرض إصلاح منظومة الدعم، واقترحنا توجيهه إلى مستحقيه بتقديم الحوالات المالية إلى 10 شرائح اجتماعية قمنا بدراستها بحسب حاجاتها للدعم، وذلك بدراسة حاجات كل شريحة من موارد مدعمة وتوجيهها لها بحسب حاجاتها واستهلاك كل شريحة، مع تأكيد تمتع جميع هذه الشرائح بالدعم من دون استثناء".
وأردف قائلاً "بعدها حصل اختلاف مع الحكومة عام 2021، إذ قدمنا مقترحنا وطالبنا في حال الاتفاق مع الأطراف الاجتماعية حول ترشيد الدعم بمراجعة الأجور، وهو ما اعتبرناه مترتبات ترشيد الدعم، فالعودة للأسعار يواجهها رفع الأجور، والأسعار الحقيقية من دون دعم يجب أن تقابلها أجور حقيقية".
وخلص الأمين العام المساعد إلى أن مبدأ الإصلاح متفق حوله مع الحكومات، لكن الاختلاف واقع حول البرامج، معتبراً أن الطرف الحكومي لا يملك برنامجاً واضحاً للإصلاح، ثم هناك اختلاف داخل الحكومات نفسها حول هذه الإصلاحات.
انعدام البرامج
وبخصوص إصلاح المؤسسات العمومية، يطالب الاتحاد العام التونسي للشغل بتناول ملفاتها كل على حدة، وأفراد كل مؤسسة باستراتيجية خاصة، من دون مجال للتفويت في المؤسسات العمومية بالبيع وفق الأمين العام المساعد الذي كشف عن انعقاد محادثات في هذا الصدد، عبر لجنة موسعة، مضيفاً "قامت المركزية النقابية بدعوة المديرين العامين القدامى لهذه المؤسسات، وهم أطراف محايدة ليست لديهم صفة نقابية، واعتمادهم كخبراء في جلسات مع الحكومة للاستعانة بآرائهم في برامج إصلاح المؤسسات العمومية، ومن جهة أخرى طالبت المنظمة بمدها بالتقارير المالية لهذه المؤسسات ووضع تصور إصلاحي واضح من طرف الحكومة، لكن توقفت هذه اللجان من دون أسباب تذكر"، مرجحاً عوامل سياسية أهمها رحيل الحكومات بعد إجراء الانتخابات وعدم توفر الاستقرار السياسي على رغم تعاون بعض الحكومات.
وأضاف أن الاتحاد ينتظر إلى اليوم من السلطة تقديم برامج إصلاح واقعية لجميع القطاعات والمؤسسات التي قدمت وعوداً بإصلاحها من أجل إنقاذ الاقتصاد، موضحاً "المعضلة تتمثل في غياب مخططات الإصلاح لكل قطاع أو مؤسسة، كما انعدمت تماماً استراتيجية مقاومة الفقر ومواجهة التغير المناخي من قبل الحكومة، وقدم الاتحاد العام التونسي للشغل برنامج لدفع التشغيل وخلق فرص عمل، وعجز عن القيام بدراسة حول الفقر بسبب عدم مده بالمؤشرات المفصلة، وفي المقابل لم يفعل 28 اتفاقاً قطاعياً بين الحكومة والمركزية النقابية في شأن الترفيع في الأجور بصورة دورية، في ظل ما تشهده تونس من توقف للحوار الاجتماعي والتشاركية، إضافة إلى ملاحقة متواصلة للنقابيين وسجن عدد منهم".