Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرهناز شريفي تكشف مآسي الحياة المزدوجة في إيران

 "كوكبي المسروق" يحصد جائزة المهرجان اليوناني بهدمه جدران النظام

المخرجة الإيرانية فرهناز شريفي في مهرجان تسالونيكي (خدمة المهرجان)

ملخص

يعيش الإيرانيون في فيلم فرهناز شريفي "كوكبي المسروق" داخل جدران منازلهم حياة مختلفة تماماً عن حياتهم التي يعيشونها في الخارج. فثمة تناقض رهيب بين قناعاتهم ومفاهيمهم الخاصة والنظام الذي تفرضه عليهم سلطة الملالي. وهذا واضح في المشاهد التي تصور إيرانيات يرقصن ويغنين في محاولة لتحدي السلطة الشاملة، والتخلص ممّا فُرض عليهن من ملبس ومأكل ومشرب.

من بين مجموعة من الأعمال التي تسابقت على جوائز مهرجان تسالونيك الأخير للفيلم الوثائقي، نال الإيراني "كوكبي المسروق" للمخرجة الإيرانية فرهناز شريفي جائزة "الإسكندر الذهبي". وكان هذا متوقعاً بعض الشيء مذ كثر منّا شاهدوه، نظراً إلى الدولة التي يأتي منها والظروف المحيطة به والموضوع الذي يتناوله. هناك حالياً، سينمايان إيرانياتان، تلك الأصيلة التي لها ورثة في الأجيال الجديدة، وتلك التي تتسلل إلى المهرجانات بانتهازية مكشوفة لمخاطبة جمهور غربي، من خلال توظيف متكرر ومستهلك لمآسي العيش تحت نظام تيوقراطي متسلط هو النظام الإيراني. باختصار: أفلام تسعى إلى المتاجرة بالمأساة. فكيف اذا أُضيفت إلى هذا كله، كما حال فيلم شريفي، معاناة شخصية تتمثّل في عدم قدرة المخرجة على الحضور إلى المهرجان بسبب مشكلة جواز سفر، فهذا يكاد يضمن لها الجائزة، بالإضافة إلى كونها امرأة تفتح قلبها وتدخلنا في حميميتها لتحكي عمّا عاشته منذ نعومة أظفارها تحت نظام بلادها.

الفيلم الذي كان عُرض في مهرجان برلين الأخير، هو شذرات من سيرة المخرجة نفسها ومن حياة الإيرانيين والإيرانيات اليومية والعادية، تحت الديكتاتورية. شريفي المولودة في العام 1979، أي في السنة التي وصل فيها الخميني إلى الحكم واندلعت فيها الثورة الإسلامية، تعتبر أن ذلك الحدث جعل حياة مواطنيها تنقلب رأساً على عقب. إنها قصة سرقة موصوفة، سرقة بلاد وأحلام ونمط حياة (ومن هنا عنوان "كوكبي المسروق")، تحاول المخرجة من خلالها استعادة أشيائها المسلوبة، ولو معنوياً. 

الفيلم يشبه بعض الشيء ما قدّمته المخرجة والرسّامة الإيرانية مرجان ساترابي مع “برسيبوليس”، ولكن على نحو أفضل كثيراً. تضع شريفي نفسها في الصدارة، مركزةً على مشاعرها كامرأة عانت من الظلم والاستبداد، وهذا كله لا غبار عليه. لا شك في صدقية ما تقوله، لكنّ المشكلة ان هذا الخطاب صار مستهلكاً من فرط تكراره في عشرات الأفلام السابقة. مدى فضح النظام الإيراني ما عاد سراً منذ زمن طويل، ولكن في هذا المجال لا يضيف الفيلم شيئاً عمّا سبق وقيل. حتى وإن كان للمخرجة رأي آخر، معتقدةً بأنها تنجز ما هو مستجد ومثير ويخرج من اطار عشرات الأعمال التي تحمل الروحية نفسها. تقول: "في زمن تسعى فيه هياكل السلطة إلى رواية التاريخ بطرق تقصي شرائح مهمة وشعبية من المجتمع، تصبح ضرورية، مشاركة التفاصيل الشخصية والسرديات الأدق".

حياة منفصمة

جزء كبير من الفيلم الذي يتبنى صيغة اليوميات، هو عن الحياة التي عاشها ولا يزال يعيشها الإيرانيون والإيرانيات داخل جدران منازلهم، وهي حياة ذات طبيعة مختلفة ومتناقضة تماماً عن حياتهم في خارجها، خصوصاً اذا كان صاحب الشأن امرأة. ثمة تناقض فظيع بين قناعاتهم ومفاهيمهم والكيفية التي يريدهم عليها النظام. وهذا واضح في العديد من المشاهد التي ترينا إيرانيات يترقصن ويغنين في محاولة لتحدي السلطة الأبوية والتخلص ممّا فُرض عليهن من ملبس ومأكل ومشرب. الحرية حكرٌ على المنازل الإيرانية، أما إلى أي مدى يشمل هذا الواقع جميع الإيرانيين، فمن المستحسن الاعتبار أن ما ترويه شريفي محصور في إطار البيئة التي تعرفها، لا أكثر. 

أدركت شريفي في عمر مبكر أن رغبات الناس في كف، وطموحات النظام في كف آخر، وكأن أقطابه يعيشون على كوكب آخر. ثمة حياتان يعيشها الإيرانيون والإيرانيات: تلك الظاهرة حيث العيون التي تراقب والأيادي التي تحاسب، وأخرى باطنية تسمح للفتاة الصغيرة ان تكون نفسها. في هذا المعنى، هذا فيلم عن النفاق الاجتماعي الذي أسسه نظام ديني قامع لا يقيم لرغبات الناس أي قيمة. وسط هذا الجو من التضاد، تضع الصبية التي كانته المخرجة يوماً يدها على شرائط 8 ملم التقطها ناس غادروا البلاد مع بدء الثورة. وعندما تحصل على كاميرا وتردك أهمية التوثيق، تكتشف معها أمضى الأسلحة في مقاومة النسيان، خصوصاً مع محاولة النظام في تحريف الماضي ومحوه تماماً من وجدان الناس، كما لو انّ لم تكن هناك إيران أخرى في أي زمن آخر. بصورها هذه، تستطيع شريفي قول "حقيقة" بلادها وناسها، بعيداً من السردية الرسمية والتدليس الإعلامي، كأنها تسترد حقّها وتموضع نفسها داخل لحظة تاريخية، محددةً هويتها. من خلال الصور الأرشيفية التي تحتل مكاناً بارزاً في الفيلم، المتعايشة مع الصور التي التقتطها بنفسها، تحاول شريفي أن تعطي الصمت الذي لاذ به الكثيرون، صوتاً وصورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

احتجاجات "امرأة، حياة، حرية" لحظة مفصلية أخرى في الفيلم وهي التي تعطيه دفعاً إلى الأمام، رابطةً الماضي بالحاضر، كاشفةً استمرار (وتكرار) حالة سياسية لا فكاك منها، تلقي بظلها على حياة الإيرانيين والإيرانيات. كانت المخرجة قد باشرت العمل على الفيلم عندما حدث ما حدث في أيلول 2022. لذا يبدو الفصل المخصص لهذا الحدث مقحماً وضرورياً في آن واحد، وهذه حال الفيلم كله. الصرخة الطالعة من أعماق النساء، أعادت إحياء قضية العيش تحت الديكتاتورية وبررت وجود الفيلم، وهذا كله عزز موقف المخرجة. أما الأمل الذي أفرزته تلك اللحظة التاريخية، فهو وهم يجعل السينمائية تبشّر به وهي تعرف تماماً عدم جدواه. 

يبدو الفيلم في لحظات كثيرة "فشّة خلق" لا أكثر، فتكرار فكرة أن النظام الإيراني شر مطلق لا يجعله أكثر شراً، بل تزيدها بهتاناً من كثرة ما يلوكها اللسان. تعرف شريفي عمّا تتكلّم، فهي لم تنجز هذا الفيلم بدوام عمل جزئي، بل حملت مادتها في حمضها النووي وفي مسامات جلدها، إلى درجة أن لا فرق بين نتاجها وشخصها. لكنّ هذا كله، للأسف، لا يجعل من "كوكبي المسروق" عملاً أفضل. حتى الصدق، على ضرورته، ليس كل شيء في العمل الوثائقي، إذا ظل ضمن السائد والمتكرر من الأفكار، وفي غياب الرؤية السينمائية. الشأن العادي واليومي والشخصي، كان ولا يزال مدخلاً إلى الكثير من الأفلام لا بل أنجب روائع، لكنّ هذا لم يحدث مع شريفي. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما