Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 جمال القصاص شاعر الحنين يتخفّف من غرابة المجاز

دوائر صوَرية متتابعة تنتج قصيدة عنقودية في "كانت هنا موسيقى"

لقاء الشعر والفن في لوحة منى السعودي (صفحة الفنانة - فيسبوك)

ملخص

يواصل الشاعر المصري جمال القصاص مساره التجريبي، في ديوانه الجديد "كانت هنا موسيقى"، مرسخاً تجربته الشعرية الخاصة في سياق حركة قصيدة النثر العربية. وكان الشاعر واحداً من شعراء جماعة "إضاءة" التي رسخت حداثة القصيدة التفعيلية.

يمكن القول إن شعرية جمال القصاص قد مرَّت بمرحلتين أساسيتين، تمثلت الأولى في كتابته لقصيدة التفعيلة في سنوات انتمائه لجماعة "إضاءة" التي حرص خلالها على الإبداع طبقاً لمفهوماتها للشعر، بوصفه أحد منظريها البارزين. وتميّز شعره في هذه المرحلة باللغة الخاصة التي تسعى إلى تحقيق الوظيفة الجمالية أكثر من الوظيفة التواصلية، وقد استتبع ذلك كثافة المجاز والصور المفارقة للرؤى الشائعة بغرض الإدهاش وضرب أفق توقعات المتلقي.

 أما المرحلة الثانية فقد تمثّلت في كتابة قصيدة النثر ومتابعة التطورات الشعرية اللاحقة، وامتازت بالتوازن بين وظيفتي اللغة، الجمالية والتواصلية، والتخفف من غرابة المجاز من دون أن يلغيه بداهة. فالمجاز، كما يقال، مجد الشعر، أو لنقل إنه يمثل جوهر الشعر وحقيقته. هذا التطور يؤكد حيوية الشاعر الذي نأى عن التكرار واجترار شعريته الأولى. وإذا توقفنا أمام عنوان ديوان "كانت هنا موسيقى" (دار بدائل) الفائز بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب لهذا العام، سنلاحظ أن دال "الموسيقى" أساسي في شعرية القصاص. فقد سبق أن استخدمه في عنوان ديوان "من أعلى بمحاذاة الموسيقى". وتكرّر في العديد من قصائد ديوانه موضوع هذه القراءة: "سأظل في الغابة وحدي / أسرق الموسيقى من الحفيف / من رغوة الزُرْقة / من رائحة الصنوبر". ويُلاحَظ هنا اتساع مفهوم الموسيقى حيث يسرقها الشاعر، أو يستوحيها، من صوت الحفيف ولون الزرقة ورائحة الصنوبر. أما قوله: "تعرفين أن قانون الطفو مراوغ / لا يعيد إلى الغابة أعشاشها المجنونة / وحدها الموسيقى تستر الروح"، فهو يذكرنا بقول نيتشه إن الفنون كلها تسعى إلى أن تكون شبيهة بالموسيقى، لكونها تؤثر في الإنسان؛ أياً كان مكانه أو ثقافته.

هجرة النص

تتميز شعرية القصاص باستدعاءاتها المتكررة لعناوين دواوينه السابقة وبعض الأسطر الواردة فيها، ففي قصيدة "أجرب أن أكون ساعي بريد" يذكر عناوين أربعة دواوين حين يقول: "لا أعرف / هل كان المشهد هكذا بالضبط / مثل قبلة وأكثر / أو بالكاد يعبر الشارع / أو تحت جناحي عصفور / أو كانت هنا موسيقى". وفي موضع آخر يذكر ديوان "شمس الرخام" حين يقول: "لا أضع في شفتيك نثاراً من الزنبق / أو أمنيك بعدالة ناجزة / أنت تعرف شمس الرخام / كيف يستحي الصمت من عريها". إن شمس الرخام في هذا معادل موضوعي للعدالة الناجزة أو الحرية التي لا يشرق ضوؤها في غبار الزنازين. لكنه أحياناً ما يغير في العنوان فيجعله "مثل سقطة وأكثر"، حين يرى العالم مشوهاً ومحض وجود أو محض عدم. ويتوازى مع هذه الاستدعاءات ما يمكن أن نسميه بالأسطر الثقافية؛ وهي التي تحيل إلى أقوال أو أحداث أخرى؛ سواء كان ذلك الاستدعاء بالمماثلة أو المخالفة مثل قوله: "هل يعرفون كيف التفَّت الساقُ بالساق / كيف فرَّ طائرها من عنقي". فالتفاف الساق بالساق من مشاهد تصوير القرآن ليوم القيامة، بينما فرار الطائر يخالف قوله تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه".

وتتوالى الإشارات الثقافية إلى "صكوك الغفران" و"موسم الهجرة للشمال" وكتاب "فجر الضمير". وهذه الإحالات محايثة لإحالات الشاعر الواقعية إلى أماكن معروفة ضرباً لإيهام مفارقة النص للواقع، فنجد: سوق السمك، باب الخلق، حوش آدم. وهي أماكن شعبية دالة على رؤية الشاعر الاجتماعية، كما يظهر في قوله: "لماذا تبكي هذه الشجرة / لماذا انطفأت شمسُها مبكراً / أمس كانت تخاصر غيمة / تعلمها كيف تجتاز السور / تلاعب الأطفال في حوش آدم". هنا نجد أنفسنا أمام حالتين: الأولى بكاء الشجرة وانطفاء شمسها في الحاضر. الثانية مخاصرة الغيمة لتجتاز السور وتلاعب الأطفال. وهو ما يفسر حنين الشاعر الدائم إلى الماضي الذي يوحي به الفعل " كان" في العنوان واستدعاء الأم الراحلة منذ ستين عاماً. وضرباً للإيهام، كما ذكرتُ سابقاً، يصرح الشاعر باسمه: ابن القصاص، جمال القصاص، جيمي. إضافة إلى ذكر أسماء مبدعين ونقاد مثل مي التلمساني وروايتها "هليوبوليس"، وكازنتزاكيس في روايته "المسيح يُصلب من جديد".

ثيمات كثيرة هي التي أفضت بالشاعر إلى رؤية الموت بوصفه خلاصاً: "أشعر بالملل / بالفراغ / بالوحدة / خلسة احتضنك / أحبك / أحاول أن أعيدك إلى ضلعي الأعوج". كأنه يحاول الخلاص بالحب الذي يبدو مرادفاً للحلم. وهو معنى مجرد يحاول الشاعر تجسيده: "الحنين طفلُنا الأرعن / نوتتنا البيضاء / الخضراء/ الصفراء". ثم تأتي ثيمة الفقْد، وكذلك الخوف من المستقبل، ناهيك عن الحاضر العبثي: "دائما أخشى السقوط / أن أرى يديَّ فارغتين". هذه الثيمات تفضي بالشاعر إلى محاولة الخلاص بالموت الذي سيخطفه يوماً ويحرره ويجعله قادراً على المشي في الحلم وإعادة ترتيب الأشياء بخفة. وأحياناً يكون الشعر نفسه هو الملاذ حين يعلن الشاعر أنه سيتفرغ لحرب القصيدة بدلاً من الحرب التي تخلف رائحة البارود وعفن الجثث.

المجاز والتصاعد الدرامي

ذكرتُ أن جمال القصاص ظل محافظاً على المجاز، مثل الصورة الاستعارية في قوله "يدي أبيَّض عشبُها"، أو "ماذا فعلوا بعصافيرك البيضاء / بالريح وهي تنعس تحت ثوبك". وهناك ما تمكن تسميته بالدوائر الصورية المتتابعة التي تشبه ما سماه صلاح عبد الصبور بالقصيدة العنقودية. وأعتقد أن ما يقوم به جمال القصاص هو أثر من اهتمامه البالغ بالفن التشكيلي خاصة مع شيوع دلالات مثل اللوحة واللون والوردة والرخام. واتباع هذه الدوائر الصورية ترتب عليه ما يسمى بالصورة المشهدية الممتدة التي يظهر من خلالها اللون والصوت والرائحة وحركة الذات الشاعرة. كما تظهر أطراف الصورة المتباعدة في مثل قوله: "ضع رأسك على كتفي / لسنا وحيدين معاً / أجندة الصيدليات لا تعرف الحب / لم يبتكروا مضاداً حيوياً له / يمنحه حصانة برلمانية / ربما يملك حق الفيتو / أو على الأقل يتحمل عاصفة صغيرة / هبَّت في الكوب". هذه الصورة الممتدة تعتمد على كثير من الأطراف المتباعدة. وأحياناً يتحول هذا التباعد إلى الجمع بين المتناقضات الصريحة والمزج بينها في مثل قوله: "تلك مراتب الأمان / معايير النقص والإضافة / في عالم يتناسى دائماً / الحدَّ الفاصل بين وهْمٍ يسمونه الوجود / وآخر يسمونه العدم". حيث نجد التقابلات واضحة، وهو ما يدخل في باب علم البديع الذي هو أحد فروع البلاغة العربية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما التصاعد الدرامي فيظهر في ذلك التدرج الذي يصل إلى حد استحكام الأزمة، فهو حين يتحدث عن أحلامه يقول إنها لا تستطيع أن تعبر الرصيف وحدها، وهذا أمر بديهي لأن هذه الأحلام مصحوبة بِذاتٍ محددة إلى أن يظهر استحكام الأزمة حين تعجز هذه الذات نفسها عن عبور الرصيف وحدها... "الآن حين تهتز خطوتي / حين ترتعش في جسدي الحياة / كم مرة يمكنني أن أعبر الرصيف وحدي؟". وأحياناً تبدو الأحلام كثيرة الحركة ودائمة الحضور: "تأكل وتشرب وتنام فوق الرف". وتتجلى هذه الحركة الدائبة في تغيير الضمائر من المخاطب إلى الغائب أو إلى المتكلم، ما يحقق حيوية الصورة الشعرية. وأعتقد أن الوجدان هو القيمة المهيمنة في تلك المرحلة الثانية على العكس من التأملات الذهنية الساعية إلى الإدهاش في المرحلة الأولى. وهو ما يفسر الحضور الواضح للأنثى على مدار الديوان. يقول: "نبحث عن نصف آخر يخصنا / عن رهافة قلب / دائماً ينسى أنك أبعد من العقل / من التاريخ / من اللغة / من الزمن"، أو قوله: "أمس / انشغلت كثيراً بقلبك / هل سيصحو مبكراً؟"، أو "قلبك الطيب الطفل / كيف يولد الفرح منه؟ / كيف ينشع الحزن؟". لقد أصبح القلب حاوياً كل شيء: النوم، اليقظة، الفرح، الحنين. والأهم من ذلك أنه أصبح مبدأ الشعر ومنتهاه في هذا الديوان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة