Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيليب سولرس استعاد نفسه في كتاب ما قبل الرحيل

"الحياة الثانية" نصوص وشذرات عن الكتابة الروائية والحياة والموت

الروائي الفرنسي الكبير فيليب سولرس (دار غاليمار)

ملخص

الروائي والناقد الفرنسي الكبير فيليب سولرس الذي وسم مرحلة في تاريخ الأدب الفرنسي الحديث صدر له كتاب "الحياة الثانية"، وفيه يتأمل الكتابة والموت والحياة، على فراش المرض.

بعد أقلّ من عام على وفاته، صدر للكاتب والروائي الكبير الفرنسي فيليب سولِرس (1936-2023) كتاب عن دار غاليمار بعنوان "الحياة الثانية"، يمثل آخر ما كتب عشية رحيله.

 يبدأ الكتاب بملاحظة تؤكد أن سولِرس، قبل وفاته، قرأ وراجع مضمون هذه الرواية التي ذيلتها بنصٍ جميل أرملته المفكرة والناقدة الأدبية والمحللة النفسية جوليا كريستيڤا. يجسد هذا الكتاب بامتياز قولاً سبق لسولِرس أن اختتم به روايته "رغبة" شدّد فيه على أن "القلب قد يتوقف يوماً، لكن الفكر سوف يحيا". وها هوذا فكر سولِرس يحيا من جديدٍ بين دفتيّ كتابه هذا، وفياً لأسلوبه وطريقة سرده التي تخلط بين الماضي والحاضر في تداخل جميل بين الواقع والمتخيل يقطعه الراوي بأقوال وشذرات واستشهادات ورؤىً غيّرت إلى حدّ كبير في مفهوم الكتابة الروائية، حتى بات السرد السولِرسي يتنقل حيث يشاء؛ يتجول بين الاقتباسات والعبارات والموضوعات القديمة والحديثة في سخرية أو دعابة منفتحة على الأفكار الفلسفية الأكثر إشراقاً. ولعل رواياته التي صدرت على مدى الثلاثين سنة الأخيرة قد أصبحت الناطق الرسمي بحرية أسلوبه وبنية سردياته المتعددة في طبقاتها الدلالية التي أبعدته عن القوالب التقليدية للرواية الفرنسية.

في "الحياة الثانية" يقارب فيليب سولِرس مسألة الاستمرارية التي يقوم بها الأدب في مسارات الزمن المتوازية. فيه يتجه بسرعة نحو الأساسيات، كما لو أنه يعرف سلفاً طريقاً يقود إلى الخلود. فيتطرق بجمال أسلوبه إلى مسألة الإيمان والقيامة والإنسان الترابي والسماوي، متوقفاً أمام أسفار وآيات الكتاب المقدس، منعطفاً إلى قصائد سيد اللانهايات و"العابر بنعال من ريح"، الشاعر الفرنسي رامبو، واصفاً الثقب الأسود في مركز المجرة، موغلاً في الحديث عن تناول الأدوية والعلاج الطويل في المستشفى، من دون أن ينسى مواجهة الأرق بعد منتصف الليل، وعيش حب نوراني لشخصية أنثوية غامضة يناديها كما في سفر "نشيد الأنشاد" بعبارة "أختي". وإن ينسى فلا ينسى الرسام الإسباني بيكاسو الذي يحضر بقوة في كتابه، وسحر مدينة البندقية، حيث عاش وكتب، وهي مدينة اشتهر فيليب سولِرس بشغفه بها لعمارتها وسحر فنونها.

 كل سولِرس يجتمع في هذا الكتاب الواقع في 80 صفحة. ولعله ينعطف فيه نحو الجدالات القديمة متناولاً من دون ندم سنواته المجنونة التي دافع فيها عن الماوية، مشدداً على "جنون الحياة"، التي يستحق كل حدث فيها الحفظ والتدوين. كما يتوقف أمام شخصية الروائي الفرنسي ميشال هوليبك النيهيلية، الذي سيلّفه بحسبه النسيان، والذي يُصوَّره كدمية تافهة تحتضر أثناء العرض، من دون أن ينسى انتقاد ميشال أونفري وآني إيرنو وجان-لوك غودار وغيرهم، في متابعة للأجواء الثقافية والفكرية والسياسية العالمية بعامة، والفرنسية بخاصة.

 نبتسم عند قراءة هذا الكتاب لأن سولِرس حيّ وواقعي، ولأنه لا يتوقف عن القول إن الحياة على رتابة يومياتها مجرد كتابة متراصة تكتنز الكثير من الجمال والآلام، ولعلها تُسحر الكاتب بما يكفي، فتقضي على الملل، متطرقاً كذلك إلى مسألة الجسد وآلامه، والذي لا يكفّ عن أخذ الإنسان نحو أبعاد روحية حقيقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول جوليا كريستيڤا إن فيليب سولِرس وضع هذا الكتاب وهو بكامل وعيه ووضوح رؤيته وإن كل جملة فيه تأمّل صريح في الموت أو في "الحياة الثانية" الذي يندفع الكاتب نحوها بروح دعابة ونشوة هادئة. فيه يعترف أنه لم يكن في حياته الأولى قديساً، لكنه قد أصبح أكثر ملاءمة للقداسة في حياته الثانية. وها هوذا يدوّن في سكون الليل أفكاره التي تنساب بسكينة نحو ضوء آخر يتلألأ في الظلام. نقرأ في الكتاب العبارة الآتية: "إذا كان العدم هنا، فإنه يشاهد العالم المضاء بشمس سوداء". فهل كان دنو الأجل دافع سولِرس إلى التعبير عن موقفه من الأزمنة الجديدة وشمسها السوداء ومشكلاتها من انهيار النظام الأبوي وصعود الحركات النسوية الجديدة والحداثة المضلِلة والفن المعاصر والطب الحديث الذي ينظر إلى المرضى كحقول تجارب عيادية، وهي موضوعات لطالما عالجها في رواياته ومقالاته العديدة، استناداً إلى القرن الثامن عشر وأنواره، وهو بالنسبة إليه العصر المرجعي؟

يتناول سولِرس في "الحياة الثانية" ما يسميه "روح الانتقام" التي تهيّمن على عالم اليوم والتي تدفعه إلى قبول الموت الذي قد يكون ملجأ الإنسان "خارج العالم"، ملجأٌ ينزلق إليه بسهولة ووضوح كما ينزلق رائد الفضاء في وَسَاعة الكون ورحابته.

إن صدور هذا الكتاب بعد تسعة أشهر من رحيل مؤلفه وتركه حياته الأولى كمن ينزع عنه قميصاً قديماً، يثبت أن "الحياة الثانية" التي يتحدث عنها فيليب سولِرس كانت تنمو بالفعل تحت طبقات حياته الأولى. لا علاقة لهذه الحياة الثانية بالقيامة، ولو نال مؤلفها في حياته البركة البابوية معلناً شعوره بنعمها. وهي ليست نزوة أو دعابة لرجل في نهاية حياته، والتي وضع على امتدادها أكثر من 60 كتاباً في مجالات الفن والموسيقى والشعر والرواية واللاهوت. لربما تقترب هذه الحياة مما يعرف في الأدب بالخلود. ذلك أن الحياة بعرف سولِرس لا تتوقف عند الموت، بل تتّحد بكتابات وحيوات ارتبط بها الكاتب في نتاجه الغزير الموسوم بنفحة فكرية اختصرت رؤيته للوجود، فإذا به يتلمس على دروب الدنيا وكلماتها، سبيله إلى اللانهاية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة