ملخص
يسجل في لبنان ارتفاع في معدلات الإصابة بسرطان القولون، خصوصاً في فئة الشباب، مما يزيد خطر ظهور حالات في مراحل متأخرة. فكيف نواجه المرض في هذه الحالة؟
يحتل سرطان القولون المرتبة الثانية الأكثر شيوعاً بين النساء، والرابعة الأكثر انتشاراً بين الرجال في لبنان بين مختلف أنواع السرطان. وتسجل أعلى أرقام في معدلات الإصابة بالمرض في البلاد مقارنة مع النسب في المنطقة، ومن المتوقع أن تستمر هذه المعدلات بالارتفاع، في العقد المقبل بما أن ثمة زيادة سنوية تراوح بين أربعة وخمسة في المئة، بحسب أرقام جمعية "سعيد" للتوعية حول سرطان القولون.
للأسف، على رغم هذا الارتفاع الملحوظ في معدلات الإصابة بالمرض، ينقص الوعي حوله وتبدو حملات التوعية حوله محدودة، حتى في شهر مارس (آذار) العالمي للتوعية حول سرطان القولون، بالمقارنة مع تلك الهادفة إلى نشر الوعي حول سرطان الثدي التي تتكثف سنوياً في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. واللافت أن معدلات الإصابة بالمرض في سن مبكرة في تزايد مستمر، مما يزيد من الهواجس حول المرض وسبل مكافحته، علماً أن معدلات التعافي تتخطى 95 في المئة في حال كشفه في مرحلة مبكرة، في وقت تتراجع هذه الفرص إلى حد كبير في حال تأخير كشفه.
ما قبل المرض وبعده
كان ربيع زغيب يعيش حياة مثلى، وكان شاباً بعمر 33 سنة، وهو صاحب شركة، وأب لطفلين بعمر سنتين وثلاث سنوات، وله زوجة يحبها، قبل أن تنقلب حياته رأساً على عقب بسبب المرض، كما أنه اتبع دوماً نمط حياة سليماً ملتزماً بنظام غذائي صحي وبالتدريب الرياضي. فكيف للمرض أن يطاوله؟ هذا ما جعله يستبعد فكرة إصابته بالمرض ويزيل الفكرة من رأسه على رغم ظهور أعراض تدل على ذلك. فمرت فترة طويلة بقي فيها في حالة من نكران الواقع. كانت البداية من ست سنوات مع انخفاض واضح وسريع في الوزن، وفق ما أوضح ربيع، ولفته آنذاك وجود دم في الغائط، وعلى رغم ذلك، تجاهل الأعراض معتبراً أن نحوله قد يعود إلى التدريب الرياضي أو إلى مرحلة التوتر التي يمر بها، كما اعتقد أن أي عارض آخر لا يمكن أن يكون خطراً لشاب في هذه السن يلتزم بحياة صحية. وكان ربيع في ذروة العطاء والنجاح، لكن شاء القدر أن يدق المرض بالفعل بابه، فإذا بانخفاض الوزن يتزايد، والعارض نفسه يتكرر، ولو في فترات متباعدة، ما بدأ يشغل باله، فقرر استشارة طبيب، لكن المؤسف أن طبيب الصحة العامة الذي استشاره لم يعر أعراضه أهمية، بل طلب له فحوصاً عامة لم تعكس حقيقة حالته الصحية، مؤكداً له أنه لا يعاني أي مشكلة. كان هذا ما أراد ربيع سماعه، ليتابع حياته بطريقة طبيعية مستمراً في حالة من النكران. وتكررت بعدها الزيارات إلى الأطباء ليؤكدوا جميعاً الأمر نفسه، فيما كان ربيع في حالة من الهلع بسبب الأعراض التي لديه، والتي لم تبدُ له طبيعية. وبقي على هذا الوضع حتى قصد طبيباً اختصاصياً في أمراض المعدة أجرى له المنظار، وطلب منه ومن زوجته التصرف سريعاً، كما وجهه إلى طبيب لأمراض الدم والسرطان مباشرة.
كانت تلك اللحظة التي قلبت حياة ربيع رأساً على عقب وأدت إلى اندثار أحلامه كلها. بسرعة قصوى، اتخذ طبيب الأورام السرطانية قراراً بإجراء جراحة كبرى لاستئصال الورم لأن المرض كان قد بلغ المرحلة الرابعة، ولا مجال لإضاعة الوقت بالعلاج الكيماوي، مؤكداً أن ثمة أملاً دائماً. بالفعل، استئصل الورم مع قسم كبير من الكبد الذي كان قد انتشر المرض إليه، حتى كاد يصل إلى الشريان الرئيس في الجسم "تمتعت عندها بإيجابية عالية، ما ساعدني على تخطي تلك المرحلة، لكن عندما حان وقت الخضوع إلى العلاج الكيماوي، كرهت الحياة كلها ودخلت في نفق مظلم وفي حالة كآبة. حتى إن زوجتي هجرتني، وبقيت مع طفلي، ولم أجد أحداً إلى جانبي. حتى إنني خسرت شركتي بعد أن أخذ شريكي كل ما أملك. انقلبت حياتي كلها، وكدت أصل إلى مرحلة الانتحار لولا وجود طفلي اللذين رداني إلى الحياة، لكنني بلغت مرحلة شعرت فيها بالعجز التام إلى درجة أنني اتصلت بأحد أصدقاء الطفولة في الولايات المتحدة للوقوف إلى جانبي".
عندما بلغ ربيع حداً لم يعد قادراً فيه على التحمل أكثر، قرر وقف جلسات العلاج الكيماوي، لكن أكد له الأطباء أن مرحلة الخطر قد زالت، وأنه تغلب على المرض. على رغم ذلك كانت الصدمات قد تكررت بصورة يصعب عليه تحملها، حتى وجهه صديقه إلى أحد المتخصصين الذي ساعده على تخطي الحالة، فتمكن تدريجاً من العودة إلى الحياة، ووجد في طفليه متنفساً له في الحياة. استطاع ربيع أن يقف على قدميه من جديد بعد المرحلة الصعبة التي مر بها. اليوم، لا يتمنى إلا أن يعيش حياة بسيطة ليشعر بالسعادة التي خسرها في مرحلة من المراحل، فأبسط الأمور تسعده الآن، ويدعو ربيع كل فرد إلى عدم إهمال أي عارض أو تغييرات يلاحظها لأن المرض قد يطاول أياً كان من دون استثناء، والتأخير ليس من مصلحة أحد.
حالة كارول أبو جمرا تشبه إلى حد ما قصة ربيع لتؤكد أيضاً أن العمر ليس معياراً. فقد أصيبت بسرطان القولون في عمر 44 سنة على رغم أنها تلتزم نمط حياة صحياً وتمارس الرياضة وتتبع نظاماً غذائياً صحياً. آنذاك لم تلحظ إلا حالة إمساك لديها، تبعتها آلام حادة في البطن، مما دفعها إلى اللجوء للمنظار حتى تأكدت إصابتها بسرطان القولون وهو من النوع العدواني الذي تطور بسرعة. علمت من اللحظة الأولى أن التهاون ممنوع وقررت مواجهة المرض بشجاعة، واستئصل الورم لديها مع قسم من القولون قبل خضوعها للعلاج الكيماوي. تذكر أنها كانت مرحلة في غاية الصعوبة، لكنها رفضت الاستسلام ووجدت في ابنتها دافعاً لها لتتمسك بالحياة. تؤكد أن مرحلة العلاج الكيماوي كانت الأصعب لها بسبب ما عانته من آثار جانبية، لكنها مرحلة أصبحت من الماضي، وها هي اليوم "سفيرة الأمل" التي تحرص على نشر الوعي حول المرض ونقل إيجابيتها إلى كل من حولها، بعد أن استطاعت أن تتغلب على المرض، وهي لا تنكر أنها الآن ليست كما قبل إصابتها بالمرض، فأمور كثيرة تغيرت لديها ومنها تمسكها الزائد بالحياة.
مزيد من الوعي مطلوب
على رغم ازدياد الوعي حول سرطان القولون بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع قبل سنوات مضت، فإن هذا الأمر ما زال ناقصاً في هذا المجال. وتبرز الحاجة إلى مزيد من التوعية حول الكشف المبكر للمرض، لكن بحسب نائب رئيسة جمعية "سعيد" غلاديس حنين فقد تكون التوعية بذاتها ما أسهمت بتسجيل معدلات أعلى من المرض مع كشفه بمعدلات متزايدة.
مع الإشارة إلى أن معدل الإصابة كان 2642 من كل 100 ألف شخص في عام 2015، ففي عام 2025، من المتوقع أن يصل المعدل إلى 2892 في كل 100 ألف، أي بمعدل زيادة يصل إلى 1,8 سنوياً.
وتشير حنين إلى وجود عوامل خطر عديدة تزيد من احتمال الإصابة بالمرض، ومنها نمط الحياة الذي يغلب عليه الركود، واتباع نظام غذائي غير صحي ترتفع فيه معدلات اللحوم والدهون، مع تراجع معدلات تناول الخضراوات والفاكهة، إضافة إلى فرط استخدام مضادات الالتهابات غير الستيرويدية، والتدخين، والسمنة، كما تلعب العوامل الهرمونية دوراً، وكلها عوامل تزيد خطر الإصابة بالمرض، وهي موجودة بكثرة في لبنان، مما أسهم في ارتفاع معدلات انتشار هذا الوباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى، فإن معدل الإصابة بالمرض هو نحو 50 سنة، لكن ما يثير القلق فعلاً هو ارتفاع معدلات الإصابة به في سن مبكرة في لبنان بالمقارنة مع دول أخرى، إذ تتكرر الإصابات في مرحلة الثلاثينيات من العمر، كما حصل مع ربيع، وفي الأربعينيات أيضاً، وثمة مشكلة في أنه ما من أرقام جديدة تعكس حقيقة الوضع في ما يتعلق بمعدل الإصابة بسرطان القولون، وآخرها يعود إلى نحو 10 سنوات، لكن يبدو الارتفاع في معدلات الإصابة بالمرض في لبنان بالمقارنة مع دول المنطقة، خصوصاً بين من هم أصغر سناً من 50 سنة، وفق ما أكد الطبيب الاختصاصي في أمراض الدم والأورام هادي غانم مشدداً على أهمية اللجوء إلى المنظار على نطاق واسع لهذا السبب بهدف الكشف المبكر عن المرض، "حتى اليوم، ثمة تركيز على الصورة الشعاعية للثدي والتوعية حول سرطان الثدي، فيما ينقص الوعي حول أهمية المنظار للكشف المبكر عن سرطان القولون، إذ إن غياب الأعراض يبدو مطمئناً ولا يدعو إلى اللجوء للمنظار بالنسبة لكثر، لكن سبب الالتزام الأكبر بالصورة الشعاعية في كونها سهلة، فيما يعتبر المنظار تدخلاً طبياً يجرى تحت التخدير العام في المستشفى، لذلك، يشكل إجراؤه هاجساً وثمة تحفظ حوله، إضافة إلى كونه مكلفاً أكثر طبعاً".
الكشف المبكر ينقذ الحياة
لكن على رغم أهمية الكشف المبكر، فهو لا يبدو حلاً لمن يصابون بالمرض دون سن الـ40، إذ يمكن أن يتطور المرض بصمت حتى يبلغ مراحل متقدمة لديهم، فالمنظار لا يجرى في سن مبكرة إلا في حال وجود تاريخ للمرض في العائلة، فيجرى عندها قبل 10 سنوات من العمر الذي يظهر فيه لدى أحد أفراد العائلة.
وإضافة إلى العامل الوراثي في نسبة خمسة أو 10 في المئة من مجموع الإصابات، تلعب عوامل عديدة دوراً كالنظام الغذائي الذي يعتمد على الدهون، والسمنة، والتدخين، والسكري. وخصوصاً، في حال وجود حالات في العائلة، لا يمكن الاعتماد على الأعراض لأن المرض قد يكون بلغ مراحل متقدمة عند ظهورها، لذلك، يبقى المنظار أفضل الأسلحة في مواجهة المرض، أما الأعراض التي يمكن أن تترافق مع المرض فهي وجع البطن، والتغيير في عادات التغوط ما بين إسهال وإمساك، وظهور دم في الغائط، أما فحص الغائط فقد يكون مفيداً، بحسب غانم، لكن لا يمكن الاعتماد عليه لأنه قد يعطي نتيجة إيجابية خاطئة أو نتيجة سلبية خاطئة.
وفي معظم دول المتوسط، هناك ارتفاع في معدلات الإصابة بسرطان القولون، في وقت يمكن الكشف المبكر عن أي ثآليل بالمنظار واستئصالها قبل أن تتحول إلى سرطان، وإلا فتؤخذ خزعة ويتخذ قرار إجراء جراحة على أثر ظهور النتيجة، علماً أن الوسيلة العلاجية الأولى هي الجراحة عندما لا يكون المرض قد انتشر إلى مواضع أخرى، أما في حال امتداده إلى الغدد اللمفاوية، فيوضح غانم أن من المفترض اللجوء إلى العلاج الكيماوي، وتتراجع فرص التعافي عندها، فيما تصل معدلات التعافي إلى 95 في المئة أو أكثر في حال كشف المرض في مرحلته الأولى، وهذا ما يؤكد أهمية كشفه في أولى مراحله.