لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تصبح البحار والمحيطات مسرحاً للمعارك والحروب في مناطق مختلفة بالعالم. في أبريل (نيسان) 2022، شهد البحر الأسود غرق جوهرة الأسطول الروسي "موسكفا" التي دخلت التاريخ كأكبر سفينة دمرت في هذا البحر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي أواخر عام 2023 تصاعدت المناوشات العسكرية بين الصين والولايات المتحدة بينما يتنافس البلدان على النفوذ والمحافظة على مصالحهما الاقتصادية في بحر الصين الجنوبي الذي يمر من خلاله نحو ثلث التجارة العالمية. وأخيراً باتت هجمات جماعة الحوثي على الناقلات البحرية في البحر الأحمر عبئاً جديداً على الولايات المتحدة، مما دفعها إلى تشكيل تحالف عسكري سمته "حارس الازدهار" لإعادة الاستقرار للتجارة العالمية.
نزاع تاريخي
النزاع على النفوذ في المحيطات ليس وليد اللحظة، فكثيراً ما مثلت البحار وسيلة مهمة للجيوش التي تحقق من خلال السيطرة على الموانئ والمضائق ميزة ليس فقط على الصعيد اللوجيستي من خلال إيصال الإمدادات والأصول العسكرية، ولكن على الصعيد الاستراتيجي أيضاً. فالقوات البحرية من خلال نفوذها في المياه التي تغطي ما يقارب ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، تفعل ما لا يمكن للقوات البرية فعله من خلال السيطرة على الممرات المائية الحيوية والغنية بالثروات.
ولذلك، أولت الولايات المتحدة اهتماماً خاصاً بتعزيز نفوذها البحري، من خلال حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي يعد المكون البحري أحد أهم مفاصله، ومن خلال "تحالف القوات البحرية" (CMF) وهو تحالف متعدد الجنسيات يركز على تعزيز الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب والقرصنة في الشرق الأوسط. وتستطيع سفن الولايات المتحدة المدججة بالسلاح السفر آلاف الأميال في غضون أيام والبقاء حول نقاط الاهتمام من دون انتهاك سيادة دولة أخرى أو لفت الأنظار، وهو مما يجعل القوة البحرية أداة فعالة.
لكن الهيمنة الأميركية على البحار التي تمر منها نحو 90 في المئة من التجارة العالمية باتت اليوم مهددة وسط نشاط الروس في البحر الأسود وتحديهم النظام الدولي الذي أرست قواعده واشنطن، واستمرار الصين في خططها الاقتصادية الجريئة مثل مبادرة الحزام والطريق، إذ تتهم الولايات المتحدة بكين بعسكرة الموانئ والخطوط البحرية الداخلة في المشروع، وتخشى من أن يؤدي نجاحه إلى إنهاء توسيع النفوذ الصيني.
صراع السيادة
يقول عمرو العامري، كاتب سعودي وضابط متقاعد في القوات البحرية، إنه ومنذ أعلن الأدميرال الأميركي ألفرد ماهان، قبل 150 عاماً أن من يتسيد البحر يتسيد العالم، وأن البحر طريق سريع مفتوح للعبور، وهذه القاعدة لم تتغير، إذ أثبت الصراعات التاريخية صحة ذلك وأهمية النفوذ البحري منذ أن تسيد البرتغاليون العالم ثم الإسبان تلا ذلك بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة.
من أجل السيطرة على البحار، ابتلع البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عشرات الآلاف من المحاربين وأطنان السفن في معارك شرسة بين قوات الحلفاء وقوات ألمانيا وإيطاليا وحلفاؤهما، وحدثت أقسى معارك الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادئ بين القوات الأميركية والقوات البحرية اليابانية كمعارك بيرل هاربر وميدواي وغوادالكانال وغيرها.
وقال الكاتب السعودي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "الولايات المتحدة بسطت سيطرتها على البحار بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأفول نجم الإمبراطورية البريطانية، وتزامن ذلك مع هدوء شراسة المعارك البحرية أثناء الحرب الباردة بين محوري حلف الأطلسي وحلف وارسو، وذلك بفضل الردع النووي الذي امتلكته تلك الدول وأدى إلى نوع من الندية ومحاولة تجنب الصدام حتى تهاوى الاتحاد السوفياتي لتغدو الولايات المتحدة سيدة مطلقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نفوذ لا مثيل له
توفر قدرات البحرية الأميركية ونطاقات عملها فرصة لفهم أهمية النفوذ البحري للدول. على غرار البحرية الملكية البريطانية قبلها بأكثر من قرن، تمنح القوات البحرية الولايات المتحدة نفوذاً دولياً لا مثيل له، ولوحظ من كثب في الأشهر الماضية بعدما تحركت السفن الحربية الأميركية إلى شرق المتوسط لدعم إسرائيل بغضون ساعات من هجوم "حماس" يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
تمتلك البحرية الأميركية ستة أساطيل تغطي أجزاء مختلفة من العالم، وتحتفظ بأكثر من 12 منشأة دائمة خارج الولايات المتحدة، ومواقع متعددة في إيطاليا واليابان. ويقدر عدد سفن البحرية الأميركية بـ290 سفينة. وعلى رغم أنها ليست الكبرى في العالم، فإنها الأقوى. وتمتلك الولايات المتحدة أكبر سفينة عسكرية في العالم "جيرالد فورد"، و11 حاملة طائرات، بينما تمتلك كل من الصين وروسيا واحدة فقط، وفق "مجلس العلاقات الدولية".
وفي إشارة إلى محورية قدراتها البحرية، تقول الوثيقة الاستراتيجية للقوات المشتركة الأميركية لعام 2010 إن "العامل الحاسم لقدرة الولايات المتحدة على إبراز قوتها العسكرية على مدى العقود الستة الماضية هو سيطرتها الكاملة تقريباً على المناطق العالمية المشتركة".
وتتجذر قوة البحرية في قدرتها على استخدام القوة أو التهديد بها، وتعتبر الولايات المتحدة من الدول القليلة التي تمتلك ما يسمى "بحرية المياه الزرقاء"، أي التي يمكنها العمل عبر المحيط المفتوح، وفق بحث نشره "مجلس العلاقات الدولية" عام 2019. وتنتشر البحرية الأميركية بانتظام مع قوات مشاة البحرية، وهي قوة هجومية برمائية، وخفر السواحل، الذي يفرض القانون البحري ويتولى عمليات البحث والإنقاذ.
ومن مهام البحرية الأميركية السيطرة والانتشار في مناطق تتركز بها مصالح البلاد الاستراتيجية والردع لتثبيط خصوم الولايات المتحدة من العمل ضدها وضد حلفائها وشركائها إضافة إلى توجيه الضربات عند الحاجة. على سبيل المثال، تعد غواصات الصواريخ الباليستية التابعة للبحرية الأميركية جزءاً من الثالوث النووي، وهي ذات قيمة خاصة لقدرتها على البقاء والتخفي أثناء تهديد حقيقي خلال صراع نووي محتمل.
ويعد الحفاظ على الأمن البحري وعمليات مكافحة القرصنة والمخدرات وحماية البيئة، إضافة إلى إيصال المساعدات الإنسانية، والاستجابة للكوارث من المهام التي تضطلع بها القوات البحرية.
بحر الصين الجنوبي
يمثل بحر الصين الجنوبي الساحة الرئيسة للصراع الأميركي - الصيني، إذ تصر الولايات المتحدة وحلفاؤها على أن هذا البحر ممر ملاحي دولي، في حين تؤكد الصين بأنه جزء من أراضيها وبحارها الداخلية. وتحتج الصين بالقانون الدولي الذي يمنحها سيادة خاصة في ما تعدها منطقتها الاقتصادية الخالصة (EEZ) وتطالب بمنع الجيوش الأجنبية من جمع المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ الرحلات الاستطلاعية. في المقابل، تقول الولايات المتحدة إن الدول مطالبة بموجب اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار بحرية الملاحة عبر المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر وليست مطالبة بإخطار المطالبين بالأنشطة العسكرية.
وفي يوليو (تموز) 2016، أصدرت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي حكمها في شأن دعوى رفعتها الفيليبين ضد الصين بموجب اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار، وحكمت لصالح الفيليبين في كل التهم تقريباً. وعلى رغم أن الصين من الدول الموقعة على المعاهدة التي أنشأت المحكمة، فإنها ترفض قبول سلطة المحكمة.
ولدى حديثه عن تحدي بكين الهيمنة الأميركية، وصف العامري البلد الآسيوي بـ"اللاعب المتعطش للخروج إلى المياه الزرقاء". وقال إن الصين "لم تخف طموحاتها الإقليمية واستعدادها للصدام كما حدث مع الفيليبين في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه والغني بالنفط الأسبوع الماضي، كذلك تكرار إعلانها صراحة أنها ستضم جزيرة تايوان عاجلاً أو آجلاً واعتبار مضيق تايوان مياهاً إقليمية صينية". وردت واشنطن على ذلك بإنشاء تحالفات جديدة لمواجهة الطموح الصيني المتصاعد في المحيطين الهادئ والهندي مثل تحالف أكواس عام 2021 الذي يضم أستراليا وبريطانيا، مع احتمال انضمام اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا.
ولا يبدو تنافس الصين والولايات المتحدة على النفوذ في بحر الصين الجنوبي مستغرباً نظراً إلى أن أكثر من 3 تريليونات دولار من التجارة السنوية المنقولة بالسفن تمر من خلاله. وأدى تنافس البلدين إلى مناوشات عسكرية في الماضي القريب زادت من فرص حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بينهما. وهذه الحوادث ليست وليدة اللحظة، ففي أبريل عام 2001، اصطدمت طائرة استخباراتية تابعة للبحرية الأميركية بطائرة مقاتلة تابعة لجيش التحرير الشعبي فوق جزيرة هاينان ذات الأهمية الاستراتيجية العالية للصين مما أدى إلى نزاع دولي بين البلدين. وتعد هاينان موطن قاعدة غواصة هاينان وهي منشأة تحت الأرض مؤهلة لدعم غواصات الصواريخ الباليستية النووية.
وتكررت المناوشات البحرية بين البلدين في أكتوبر الماضي عندما اتهمت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" الصين "بممارسة أعمال ترهيب غير مسبوقة" في المجال الجوي لآسيا والمحيط الهادئ، وتنفيذ المقاتلات الصينية "مناورات محفوفة بالأخطار حول طائرات أميركية تقوم بعمليات أو بمهام استطلاعية". وأوضح مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون آسيا إيلي راتنر بأن هذه الحوادث بلغ عددها "أكثر من 180 حادثة" منذ خريف 2021، وهو عدد أكبر مما كانت عليه في العقد الماضي، مشيراً إلى أنه "إذا أخذت حوادث مقاتلات دول شريكة في الاعتبار، فإن عدد الحوادث يصل إلى نحو 300".
وسبق ذلك في يونيو (حزيران) الماضي حادثة تتعلق بمقاتلة صينية وطائرة استطلاع أميركية فوق بحر الصين الجنوبي. وقالت قيادة الجيش الأميركي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إن الطائرة الصينية حلقت مباشرة أمام مقدم الطائرة الأميركية وهي من طراز "آر سي – 135"، وعلى مسافة 120 متراً منها. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي ذكر الجيش الصيني بأن سفينة حربية أميركية دخلت بصورة غير قانونية المياه المتاخمة لجزيرة سكند توماس شول المرجانية المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، التي تعتبر بكين أنها خاضعة لسيادتها. وقال متحدث عسكري صيني بأن "واشنطن تقوض بشكل خطر السلام والاستقرار الإقليميين من خلال إثارة التوتر في بحر الصين الجنوبي وانتهاك سيادة بلاده".
مخاوف التصعيد
وتعد ثروات الطاقة أحد أسباب الصراع التاريخي في بحر الصين الجنوبي، فالصين والدول المتنافسة على سيادة البحر وهي بروناي وإندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام تريد الاستفادة من نحو 11 مليار برميل من النفط غير المستغل و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وبدأت هذه الدول في سبعينيات القرن الماضي بالمطالبة بجزر ومناطق مختلفة في بحر الصين الجنوبي، مثل جزر سبراتلي، التي تمتلك موارد طبيعية غنية ومناطق صيد الأسماك.
في المقابل، عكفت الصين في السنوات الأخيرة على استصلاح الأراضي في بحر الصين الجنوبي من خلال زيادة حجم الجزر أو إنشاء جزر جديدة. وكشف رصد حديث لـ"مجلس العلاقات الدولية" عن بناء الصين موانئ ومنشآت عسكرية ومهابط طائرات، بخاصة في جزيرتي باراسيل وسبراتلي، حيث أنشأت الصين 27 موقعاً استيطانياً وعسكرت الصين جزيرة وودي Woody من خلال نشر طائرات مقاتلة وصواريخ كروز وأنظمة مراقبة.
واستفزت التحركات الصينية الولايات المتحدة التي سرعان ما تدخلت لحماية مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة، وجابهت جهود الصين لوضع يدها على ثروات هذا البحر من خلال تنفيذ ما يعرف بـ"عمليات حرية الملاحة" التي تهدف إلى تأكيد حرية الملاحة المعترف بها دولياً، وتعزيز الدعم لشركائها في جنوب شرقي آسيا. وفي سياق متصل، باعت اليابان سفناً ومعدات عسكرية إلى الفيليبين وفيتنام من أجل تحسين قدراتهما الأمنية البحرية وردع العدوان الصيني.
ومع ذلك، لا ترى الولايات المتحدة وفق مراقبين مصلحة في أن يقود هذا النزاع الإقليمي إلى تصعيد عسكري، فالولايات المتحدة تربطها مثلاً بالفيليبين معاهدة دفاع، وتخشى من الانجرار إلى صراع مباشر بين الصين والفيليبين.
وعادت التوترات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي إلى الواجهة أواخر العام الماضي بعدما تبادلت الصين والفيليبين الاتهامات في شأن تصادم سفينتين في المياه المتنازع عليها.واتهمت الفيليبين الصين بالاعتداء على سفينة تقل رئيس أركان القوات المسلحة الفيليبينية.
ومع تصاعد التوترات، خرج سفير الفيليبين لدى الولايات المتحدة، خوسيه مانويل روموالديز هذا الأسبوع ليقول إن بلاده تعول على واشنطن وحلفائها، للعب دور حاسم في خططها، لاستكشاف موارد الطاقة في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه"، مؤكداً بأن مانيلا تسعى إلى استغلال علاقاتها الأمنية العميقة مع واشنطن، لتحقيق فوائد اقتصادية أوسع.
البحر المهمل
في أبريل 2022، قالت موسكو إن سفينتها الحربية الرائدة موسكفا غرقت في البحر الأسود إثر حريق في ظل ظروف جوية سيئة، في حين ذكرت أوكرانيا بأنها دمرت السفينة بصاروخين نبتون. مثل غرق السفينة صدمة خاصة لروسيا، وأدى إلى إعادة تقييم قدراتها الدفاعية الساحلية، وعلى وجه الخصوص، قدرتها على تأمين شواطئها الجنوبية الغربية، وفق الباحث في "معهد أبحاث السياسة الخارجية" ماكسيميليان هيس.
لكن الباحث البريطاني يرى في مقالته المنشورة بـ"فورين بوليسي" أن الجانب الذي أغفل هو مكان غرق السفينة، إذ نادراً ما يعتبر البحر الأسود من المناطق الاستراتيجية المهمة في العالم، مقارنة ببحر الصين الجنوبي والخليج وشرق البحر الأبيض المتوسط.
على سبيل المثال، أصدر الكونغرس في عام 2019 تشريعاً يعيد تشكيل سياسة الولايات المتحدة في شرق البحر الأبيض المتوسط. والعام الذي يليه، نشرت وزارة الخارجية موقفاً رسمياً جديداً في شأن بحر الصين الجنوبي، يرفض أية محاولة لفرض مبدأ "القوة تصنع الحق". أما الخليج فكثيراً ما كان نقطة محورية في السياسة الأميركية حتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
وعلى النقيض من ذلك، اعتبر البحر الأسود مصدر قلق ثانوي إلى حد كبير، على رغم أن 10 حروب قد اندلعت على ساحله أو قربه منذ نهاية الحرب الباردة، أكثر من أي مساحة بحرية أخرى في العالم: صراع ترانسنيستريا في مولدوفا، والحرب الجورجية الأبخازية، والحرب الأهلية الجورجية، والحرب الروسية الجورجية، والحرب الشيشانية الأولى والثانية، والحرب الروسية - الأوكرانية في عامي 2014 و2022، والحرب الأرمنية الأذرية الأولى والثانية على ناغورنو قره باغ.
وسبب إهمال البحر الأسود واحتضانه صراعات كثيرة هو أن ساحله يحتضن أكبر تجمع جغرافي للقوى الكبرى، روسيا والاتحاد الأوروبي وتركيا وحلف الناتو ومعه الولايات المتحدة، إذ تصعب هذه التعددية القطبية النظر إلى المنافسة فيه بنفس الطريقة المطلقة، أو الأبيض والأسود، التي تنظر بها المنافسة في بحر الصين الجنوبي، وفق الباحث.
وعلى رغم أن البحر الأوسط لا يرتبط عادة بالحروب التجارية مثل الممرات البحرية الأخرى مثل مضيق ملقا وقناة السويس، فإن الحمولة الهائلة التي تمر من خلاله لا تؤخذ في الاعتبار كذلك، إذ سجل طريق بحر الشمال الروسي رقماً قياسياً في الحمولة بلغ 34.9 مليون طن متري من البضائع عام 2021، في حين مر 898 مليون طن إجمالي عبر بوابة الدردنيل في البحر الأسود عام 2021، أي نحو 70 في المئة من 1.27 مليار طن متري في السويس.
ويعتبر الباحث وضع الصين قدماً لها بالبحر الأسود من الأسباب الأخرى المثيرة للقلق، التي يجب أن تثير اهتماماً أكبر بالمنافسة هناك، مشيراً إلى أن خطة الحزام والطريق لم تهمل هذا البحر، بل تضمنت استثمارات في البنية التحتية وتطوير شبكات التجارة، بخاصة في جورجيا وبلغاريا وتركيا، في حين واجهت بعض العقبات المفاجئة في رومانيا وأوكرانيا.
وذكر هيس بأن حقيقة أن البحر الأسود يمثل نقطة التقاء لقوى متعددة لا تملك قدرة السيطرة عليه هو العامل الرئيس لزعزعة استقراره، موضحاً بأن اعتقاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده آخذة في الصعود ومطالبته بالاعتراف بها، ومحاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة الهيمنة الروسية على أوكرانيا وتحدي الهيمنة الأميركية في المنطقة وخارجها، كلها مؤشرات إلى أن هذه القوى المتغيرة ستستمر في الالتقاء والتصادم فيه وحول سواحله. وتوقع تصعيداً محتملاً للقضايا الأمنية على طول البحر الأسود، مما يزيد من أهمية الاستعداد بصورة أفضل ودراسة وفهم تركيبة القوى في المنطقة، ومصالح كل منها.
ويذهب الباحث إلى القول إن تصرفات روسيا في أوكرانيا، فضلاً عن غزوها جورجيا في عام 2008، كانت مدفوعة جزئياً في الأقل باعتقاد مفاده أنها تحتاج إلى إعادة ترسيخ أمنها من خلال دفع الغرب إلى الخروج من البحر الأسود، وهو ما أوضحه بوتين في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، حين أعرب عن أسفه لقرارات روسيا بسحب القواعد السوفياتية القديمة في مولدوفا وجورجيا في السنوات السابقة.
وفي العام التالي، سعت موسكو إلى إعادة ترسيخ نفسها كلاعب أمني رئيس في البحر الأسود من خلال غزوها جورجيا. وبينما كان الغزو الروسي ظاهرياً على منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية، استخدم الكرملين أيضاً الحرب لتدمير أسطول خفر السواحل الصغير في تبليسي، وقصف ميناء بوتي الرئيس، وإضفاء الطابع الرسمي على السيطرة على أبخازيا، المنطقة الانفصالية الواقعة على الشواطئ الشرقية للبحر الأسود.
في المقابل، ما زال نفوذ واشنطن العسكري في البحر الأسود أقل مما هو عليه في الخليج أو حتى بحر الصين الجنوبي، حيث تنشط البحرية الأميركية بصورة أكبر. إلا أن انضمام بلغاريا ورومانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" عام 2004 منح سفنه الحربية وصولاً موثوقاً إلى الموانئ في البحر الأسود. وبعد مرور عقد، لا تزال روسيا تطالب بانسحاب القوات الغربية من البلدين، ووجدت تلك المطالب من قيادة "الناتو" أذناً صماء.
تحديات المستقبل
ينوه خبراء الدفاع وفق "مجلس العلاقات الدولية" بالتحدي الذي يمثله انتشار قدرات وأسلحة منع الوصول/رفض المنطقة المعروفة باسم A2/AD، التي بإمكانها تقييد حركة وعمل قوات الخصم داخل منطقة معينة مما يمنع وصولهم إلى المناطق أو الأصول الحيوية. وأحد هذه التهديدات الصاروخ المضاد للسفن الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، ويمكنه التغلب على الدفاعات الجوية للسفينة، ويجري تطويره من قبل الصين وروسيا والولايات المتحدة ودول أخرى.
ويعتقد خبراء البحرية أن هذه التهديدات ستؤدي إلى حقبة جديدة من الحرب البحرية لن يكون لحاملة الطائرات مكان فيها. وكتب نويل ويليامز، ضابط البحرية المتقاعد، في كتابه "الحرب على الصخور" أن حاملة الطائرات الأميركية والأسطول البحري "يشتركان في مكانة بالغة الأهمية في بنية الأسطول الشاملة، أنهما آثار من حقبة ماضية ولا يمكن تحمل كلفتهما".
وحذر العامري من دور الطائرات المسيرة والصواريخ الجوالة وتدني ثمنها في تغيير قواعد اللعبة وفرض قواعد اشتباك جديدة ولاعبين جدد، فقد أسقطت هذه المسيرات والصواريخ الحواجز الطبيعية وعوائق الحدود ومكنت الجماعات الإرهابية من الحصول عليها بسهولة وفرض نوع من الندية.
وتعد هجمات جماعة الحوثي، وفق الكاتب، أوضح مثال على ذلك إذ "أربكت الملاحة الدولية في البحر الأحمر والمحيط الهندي وخليج عدن على رغم تحالف الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي دخلت معها في مواجهة يكتنفها كثير من الغموض والضبابية، وإن كان هذا النزاع يظل نزاعاً محدوداً وبالإمكان احتواؤًه متى ما توفرت إرادة دولية وهو ما سيحدث عاجلاً أو آجلا".
من جانبه، يقول هيثم حسنين وهو باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات إن عملية "حارس الازدهار" تسعى إلى "استنزاف الترسانة العسكرية للحوثيين، وإجبار إيران على خفض دعمها للجماعة الإرهابية اليمنية، وتحدي الحوثيين بصورة مباشرة داخل اليمن نفسه، لكن هناك خيبة أمل بسبب قلة المشاركة الإقليمية باستثناء البحرين".
وقال حسنين في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، تمثل تصرفات الحوثيين بالنسبة إلى واشنطن تهديداً كبيراً لحرية الملاحة والتجارة العالمية، وقد أرسلت رسائل إلى كل من الصينيين والإيرانيين لتسليط الضوء على ذلك، ولهذا السبب شكلت هذا التحالف".
وفي الوقت نفسه تحاول الولايات المتحدة وفق الباحث "تحقيق توازن دقيق بين مواجهة الحوثيين وضمان عدم انهيار الهدنة في اليمن التي كانت قائمة لمدة عامين لتجنب حرب جديدة بين السعودية والحوثيين".
وأدت سياسة بايدن إلى خلاف مع الجمهوريين الذين يطالبونه بموقف أكثر صلابة تجاه الحوثيين، فهم غير راضين عن إلغاء تصنيف إدارة ترمب للحوثيين في قوائم الإرهاب في عام 2021 ثم إعادة بايدن للعقوبات جزئياً في عام 2024، بعدما صنفت الحوثيين "منظمة إرهابية عالمية مصنفة خصوصاً" (SDGT) مع عدم إعادة تصنيفها "منظمة إرهابية أجنبية" (FTO).