قبل أن تعصف سوريا عصفها زارني الصديق الروائي ممدوح عزام (السويداء). ومن اللاذقية إلى قريتي قضينا أياماً لا تنسى. وكان من مفاجآتها أن علمنا أن والدينا كانا في (الدرك) أي الشرطة بلغة خمسينيات القرن الماضي في سوريا، والدرك/ الدركي ما زالا بلفظيهما في الجزائر ولبنان. وقد زادني ممدوح إن لم تخن الذاكرة، أن والد ميشيل كيلو كان أيضاً دركياً. وبما أن الكثير من الأمكنة التي تنقل بينها والدانا مشتركة، ولطفولتنا فيها مراح، فقد راودنا مشروع أن نكتب معاً سردية ما عن الوالدين وتلك الطفولة. ثم كان، لا، ما كان، وغير الله ما كان، في سوريا منذ 2011، فنسيت المشروع. أما ممدوح، فها هي روايته الجديدة "لا تخبر الحصان" تؤكد أنه لم ينس. ولأنه الروائي المجرب- وربما سواه من ظلال شخصيات الرواية- فهو أدرى بما في الرواية من السيرية.
أما الأَوْلى فهو العمارة البديعة التي شيدها ممدوح عزام، فجعل السارد يفتتح الرواية بوصول الأب سالم مع حصانه إلى القرية دير القرن، وقد أحيل إلى التقاعد. وشاركت الأم سليمة بافتتاح الرواية، ليندر من بعد حضور السارد، بينما تتولى كل شخصية حصة من السرد الذي يخصّها أو يتعلق بسواها. وعبر ذلك تكون الحكاية/ الحكايات هي عمود السرد. ومما يضيء ما للحكاية في الرواية أن سليمة قررت الهجوم على "الحكايات السامة"، وهي حكايات القرية، فوصفتها بالزيادات التي تنتجها عطالة نساء ورجال تأكلهم عناكب الوقت الضائع في أشهر الشتاء الطويلة بلا عمل. وقد ألفت سليمة قصة رصينة أدرجت فيها خلاصات من تاريخ المتقاعد الذي عاشت متنقلةً معه في أرياف سوريا، من مخفر للدرك إلى مخفر، قبل أن تستقر في دير القرن مع الأبناء، وهذا الشطر من الرواية يناصفها.
عودة وحكايات
عاد سالم بعد طول ترحال إلى القرية برفقة الحصان، وليس لديه غير الحكايات، فحكى لذويه عن مطاردة العصاة في الجبال، من الطائفة الإيزيدية في شرق سوريا، إلى الطائفة المرشدية في غربها. وعندما بدأت تستهويه الحكايات، أخذ يبتكر لزواره، كما لنفسه، حكايات جديدة مؤلفة من شراذم القصص التي يعرفها. وبعد حين أدرك أن عليه أن يخوض عراكاً (وجودياً) مع حكايات القرية، مما حدا ببعض أهليها للامتناع عن السهر في مضافة سالم، حين أحسوا أنه يمكن أن يفرغ حياتهم من حكاياتهم. وسرعان ما بدأ يدرك أن السنوات الطويلة، كما باعدت بينه وبينهم في المكان والزمان، أخذت تباعد أيضاً في الحكايات. وسرعان ما صار وحيداً، واكتشف أنه يحكي لنفسه عن نفسه، وعن الذكريات.
ليس سالم الحكواتي الوحيد في الرواية، ولا تتمحور حوله وحده الحكايات. فأفراد أسرته لهم حكاياتهم ولهم ما يحكونه. أما التمحور فهو للحصان أيضاً.
يروي الابن فاضل أن تفاصيل حكاية والده عن إنقاذ الحصان له من الموت ذات يوم، كانت تتبدل وتتغير وفق الزمن، وبحسب المستمعين. لكنها ظلت تستجدي التضامن مع الحصان يشارك العائلة أرغفة الخبز. وها هي الأم سليمة التي تحكي حكاياتها مع أبنائها وزوجها، ما إن تشرع بحكاية بول الابن كامل حتى تقرر أن تؤجل الحكاية إلى يوم آخر. أما كامل فيتحدث عن أبيه الذي يحكي أمام ضيوفه عن سلالات الخيل، كي يستطيع أن ينسب الحصان إلى أحدها. وعندما يظهر نائل ابن سالم من زواجه الذي يظل سراً إلى أن تقترب الرواية من نهايتها، تأتي حكاية نائل الذي خطفته الجن، فيسأل كامل أباه: كيف يمكن أن نخرجه من الحكاية؟ فأجاب الأب: هذا أخوك حقيقةً وليس حكاية. وقد تمنى كامل لو ظل أخاه سعيداً في الحكاية ولم يخرج منها إلى "بيتنا"، كما تساءل كامل: لماذا تسعدنا الحكايات ويحزننا الواقع؟
عندما تزوج سالم للمرة الثانية في حلب، وهو الدرزي، اضطر إلى أن يعلن إسلامه على المذهب السني، حتى قبلت المحكمة الشرعية بالزواج، ولم تتدخل أية جهة حكومية في التبديل المذهبي، كما يشرح السارد. وهكذا يكون نائل سنياً بنصف دم درزي، بينما بقية أبناء سالم دروز. وقد أصرّ سالم بعد التقاعد على أن يبقى في نسق الجهل رافضاً ضغوط ارتداء الزي الديني الدرزي، بصفته كبير آل النجار. وقد تلامحت في الرواية ظلال درزية أخرى تخفق بين سوريا ولبنان، وتتعلق بأجيال آل النجار التي ولدت بعد هجرة الجد من لبنان إلى دير القرن في ريف السويداء. وقد دأب رجال آل النجار على الذهاب إلى لبنان لجلب عرائسهم، فضمنوا نقاء عرقهم، إلا سالم الذي تزوج المدينية سليمة من آل الحطاب، وكان أولاء قد جاؤوا إلى السويداء منذ مئة وخمسين سنة من شمال سوريا، أي من دروز إدلب، واندمجوا في المدينة. وقد تعرض دروز إدلب إلى مجزرة في حمأة الصراع المتفجر في سوريا منذ سنوات.
شيخوخة مشتركة
مع كامل ينغزل عنوان الرواية. فهو يسأل أباه عما إن كان قد أخبر الحصان بحكاية نائل، فيرد الأب بالسؤال "بدك تخبرو إنت؟". وعندما يظهر نائل يسأل كامل: "ومين رح يخبر الحصان هذي المرة كمان؟". ومن العامية إلى الفصحى، ينغزل عنوان الرواية حين أخبر كامل أباه بأن شقيقه واصل لا يحب الحصان، فقال الوالد: "لا تخبر الحصان". وقد كان كامل يتلصص ويتنصّت صغيراً على تمنّع أمه عن أبيه، وعلى عراكهما جراء ذلك. وعلى كِبَرٍ صار الأبوان يبدوان له مثل لسان الحذاء العتيق ممطوطين رخوين وعاجزين. وفي واحدة من الالتماعات الغزيرة الكاوية في الرواية، يرى كامل أن أباه أخذ يشيخ، والحصان يتواطأ معه ويشيخ، حتى ذُعر من الشبه الغريب الذي صار يوحد بينهما: "يهرمان مثل شجرة".
تعوّد كامل على أن يحكي للحصان عن أمر، كأن يحكي عن مرض شقيقه واصل، وعن احتمال موته، فأخذ الحصان يدق بحافره أرض الإسطبل بإيقاع متواصل إلى أن جهزه كامل، وانطلقا في السهل بلهفة كي يبقى واصل حياً. وكان كامل قد سمى الحصان صبح. وبعد الهزيمة الداوية في حرب 1967 التي توجت شيخوخة الحصان وسالم، ومعها تدهورت أحوال الأسرة، أخذ الابن فريد يلح على شراء عربة لتشغيل الحصان عليها. وبعد مقاومة، يستسلم سالم، وبينما يدرب فريد الحصان على جر العربة، يموت سالم، ويخاطب كامل الحصان: اهرب يا صبح، فيرفس العربة ويهرب إلى الحرية.
مثل كامل هو تطور وحضور الشخصيات الأخرى في الرواية، من الأسرة ومن سواها، على تناقض ما بينها: فاضل الذي يشبّه حكايات أبيه عن الدرك باجترار البقر. ومع هذا الساخط لأنه لم يفز بوظيفة في أمن الدولة مع أنه بعثي، ترتسم علامة كبرى للأسرة المهدمة على إيقاع محنة البلاد المهزومة عام 1967. وهذا نوفل أيضاً، الشيوعي الذي يرى أن أباه والحصان قد هزما في قرية دير القرن.
لكن الشخصية الروائية التي أبدع ممدوح عزام في بنائها هي الحصان الذي يلوح لحصان جنكيز إيتماتوف في رواية "وداعاً يا غوليساري" التي بدأت بمشهد الحصان الهرم وصاحبه الهرم. ولئن كان قد جرى خصاء غوليساري على يد المتنفذين في الحزب الشيوعي- فصار حصان عربة- فقد كان خصاء حصان رواية ممدوح عزام بفعل الأحوال الفردية والعامة التي تتوجت بهزيمة 1967، ومنها مما تعدد الرواية الانقلاب الذي جاء عام 1963 بحزب البعث إلى سدة الحكم حتى هذا اليوم. ولعل هذا الحصان يلوح أيضاً إلى فرس رواية إبراهيم نصرالله (زمن الخيول البيضاء- 2007)، فالقسم الأول (الريح) من الرواية، يتمحور حول (الحمامة)، وهي الفرس البيضاء الأصيلة التي تعلق بها ابن الشيخ حد الجنون. وقد شغلت الحمامة أهل القرية (الهادية) حتى اعتقدوا أنها تفهم أكثر من البشر، وتميز بين الحصان الأصيل والهجين، وترفض السفاد من حصان عابر. وأخيراً، وليس آخراً، أرى رواية ممدوح عزام تلوح لرواية عبد الفتاح كليطيو (حصان نيتشه- 2005). ومعلوم أن نيتشه عندما رأى الحصان يُضرب بوحشية، في تورينو في 3/1/1889، طوقه باكياً وقال له: "أنا أفهمك". وفي البيت استلقى صامتاً وهادئاً يوماً، ثم تمتم بآخر كلماته: "أماه... أنا أحمق"، ودخل في مرحلة الجنون سنوات من الصمت، حتى مات عام 1900.
من سحر سرديات الحصان ما حملته منذ عهود الفتوة عندما قرأت حكاية "بدر البدور والحصان المسحور" في الليلة التاسعة من ليالي "ألف ليلة وليلة". ولست أنسى "الحصان الأشهب" لأجاثا كريستي، ولا بكسر حصان رواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، عدا عما ذكرت أعلاه لإيتماتوف وكليطيو ونصرالله. ولئن قدم العهد بكل ذلك، فها هي رواية ممدوح عزام "لا تخبر الحصان" تجدده، كما تجدد السؤال الذي بدأ يتواتر عن عودة الرواية في سوريا إلى عقود أبعد أو أبعد من القرن العشرين، كرواية عزام أو رواية خالد خليفة "لم يصل عليهم أحد"، فنجت مما هيمن في سوريا بعد زلزال 2011، وانزلق بالكثير منها إلى منزلقات العابر والشعاري واللهاث السياسي. حتى الروايات التي جاءت عودتها إلى عقود خالية على إيقاع الزلزال، بدت أكبر منجاة من تلك المنزلقات، كما في "خمارة جبرا" لنبيل ملحم أو "عزلة الحلزون" لخليل صويلح.