ملخص
ما الخلفية الحقيقية لدفاع الكاتب الكبير عن السينمائي على الضد من زميله كالفينو؟
دامت الصداقة بين كاتب إيطاليا الأكثر شعبية، ألبرتو مورافيا، وسينمائيها الأكثر نخبوية بيار باولو بازوليني أكثر من 20 سنة لم ينهها سوى موت هذا الأخير قتلاً على شاطئ أوستيا غير بعيد من روما على يد واحد من "زعران" الضواحي من الذين كان السينمائي معتاداً معاشرتهم والنهل من حياتهم مواضيع لأفلامه وكتاباته النخبوية. وكانت بالطبع جريمة ضجت بها إيطاليا بأسرها والنخب المثقفة في العالم أجمع، بخاصة أن بازوليني لم يكن سينمائياً فقط بل شاعراً أيضاً وباحثاً في علوم السينما واللسانيات ومشاركاً في الحياة العامة. ولقد كان مورافيا صاحب أكبر كمية من دموع سالت من مآقيه بعد ثلاثة أيام من مقتل بازوليني وهو حاضر في جنازته بعد اختتام التحقيق وقبل دفن بيار باولو، وسط مجموعات من الرفاق والفنانين والأدباء. فقبل ذلك وعند بداية سنوات الـ60 ارتبط المبدعان بصداقة عميقة حتى وإن كان ما يفرق بينهما لافتاً، من ناحية الأصول الاجتماعية مثلاً حيث من المعروف أن مورافيا تحدر من بورجوازية مدينية فيما أتى بازوليني من حثالة المجتمع. ومع ذلك جمعتهما السينما التي كان بازوليني قد بدأ عند تعارفهما يصبح من معالمها الكبرى في بلدهما، فيما كان مورافيا واحداً من أكثر نقادها شعبية عبر مقالات كان ينشرها في المجلات المرموقة وجمعها لاحقاً في كتاب عنونه "30 عاماً من النقد السينمائي"، ناهيك بأن كبار المخرجين السينمائيين من الإيطاليين وغير الإيطاليين، اقتبسوا رواياته وصولاً حتى إلى جان لوك غودار الذي جعل من روايته الأساسية "الاحتقار" واحداً من أشهر أفلامه - وربما خاصة لأنه أعطى الدور الرئيس في الفيلم لبريجيت باردو التي كانت نجمة النجمات وفاتنة السينما الأوروبية حينه.
ثلاثية تراثية من أجل الحياة
ولكن على رغم الصداقة التي جمعت مورافيا ببازوليني لا شك أن كثراً أدهشهم دائماً أن السينمائي لم يقدم على اقتباس أي من روايات الكاتب وإن كان قد أبدى رغبته مراراً في أفلمة واحدة من رواياته الأساسية "السأم" لكنه في النهاية لم يفعل. والمهم هنا هو أن مورافيا كان الأكثر حزناً في يوم الدفن الرهيب، لمقتل صديقه الذي لم يتوقف عن الدفاع عنه طوال العقدين السابقين، حتى وإن كان قد اعتاد أن يصارحه بين الحين والآخر بأنه يعجز في معظم الأحيان عن فهم نظرياته في اللسانيات والشعر واللغة السينمائية، دافعاً إياه إلى اختيارات أكثر شعبية ولا سيما في مجالي السينما والشعر، قائلاً له إنهما "في نهاية الأمر فنانان لا بد أن يكونا شعبيين وربما من نوع السهل – الممتنع". وربما يكون بازوليني قد رضخ، في المجال السينمائي في الأقل لضغط مورافيا، ولا سيما في مرحلته الأخيرة حين حقق على التوالي تلك الأفلام التي ستكون الأكثر "جماهيرية" في مساره ونعني بذلك "ثلاثية الحياة" المؤلف من اقتباسات سينمائية لأعمال أدبية كلاسيكية هي "ديكاميرون" للإيطالي بوكاشيو و"حكايات كانتربري" للإنجليزي تشوسر وبخاصة "ألف ليلة وليلة" تحفة التراث الأدبي العربي، ثم بعد ذلك وفي فيلمه الأخير "سالو" في اقتباس حر سيتهم بالإباحية، عن المركيز الفرنسي دي ساد إنما منقولاً إلى تلك الجمهورية الفاشية الصغيرة التي أقيمت شمال إيطاليا قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن مورافيا قد أدرك بسرعة أن صديقه السينمائي قد اتبع في أفلامه الأربعة هذه نصيحته "حتى وإن كان قد أفرط في ذلك". وهو إفراط لم يمنع الكاتب حينها من أن يخوض معركة ضارية ضد الذين، مثل الإيطالي الكبير إيتالو كالفينو، اعتبروا هذا التوجه الجديد لصاحب "المسيح بحسب القديس ماثيو" و"أوديب ملكاً" و"ميديا" الذي أعطى فيه الدور على الشاشة لسيدة الغناء الأوبرالي في ذلك الحين ماريا كالاس، توجهاً ينحدر بسينماه انحداراً خطراً. ولسوف يتذكر كثر كيف أن مورافيا كان رأس حربة في المعركة التي اندلعت في الحياة الثقافية الإيطالية، وربما الأوروبية أيضاً، من حول تلك المرحلة من مسار بازوليني. لكن كثراً منهم رأوا للمناسبة أن مورافيا لم يخض تلك المعركة لمجرد مناصرة بازوليني بل لتصفية حساباته الشخصية.
"صراع" بين كاتبين
ولعل الحساب الشخصي لمورافيا يبدو لنا الأكثر جدارة بأن نتوقف عنده: حساب مورافيا مع كالفينو الذي منذ النجاحات الكبرى لأعمال روائية له مثل "المدن غير المرئية" و"البارون المعلق"، بات صاحب الحظوة الكبرى لدى القراء الإيطاليين مما أثار إلى حد ما حفيظة مورافيا الذي كان قد اعتاد أن يكون هو الكاتب الأكثر شعبية في هذا البلد وهو الذي دائماً ما كان يتعمد تبسيط لغته ومواضيعه لمجرد أن يصل إلى الجمهور العريض، مضحياً بنزعات نخبوية كان لا يتوانى عن قمعها بين الحين والآخر لمجرد أن يتبع الدرب التي أشرنا إلى أنه كان ينصح صديقه بازوليني بسلوكها، وها هو ذا كالفينو يأتي الآن لينسف فكرته عملياً من خلال نجاح نخبويته واستنكافه عن الخضوع للدروب الروائية الممهدة، فارضاً نخبويته الخاصة على أعرض جمهور يمكن للنخبوية أن تصل إليه، ثم لا يكتفي بهذا أي بأن يجعل من نجاحه غير المتوقع مثلاً يحتذى، بل يتجاوزه ليناوئ "البازولينية الجديدة"، بحسب توصيف كالفينو نفسه من منطلق رفضه تلك البازولينية متحدثاً عنها كأنها "خضوع من ذلك السينمائي الموهوب لمنطق المال والأعمال. ويبدو أن مورافيا قد شعر هنا - بل ربما يصح أن نقول: قد أدرك هنا - أن كالفينو الذي لم يكن من عادته أن يدنو في تعليقاته من الشؤون السينمائية، إنما كان يوجه كلامه هنا لا إلى بازوليني بل إليه هو شخصياً ضمن إطار حرب غير معلنة بين الروائيين الكبيرين.
عصفوران بحجر واحد
ومن هنا كان لا بد لمورافيا أن يتخذ موقفاً واضحاً رآه يشكل بالنسبة إليه ما يعتبر إصابة عصفورين بحجر واحد: تزعم الدفاع عن بازوليني وشن الهجوم على كالفينو. وهكذا اندلعت تلك المعركة التي لا بد لنا هنا من أن نلاحظ كيف أن بازوليني بدا يومها وكأنه غير مبال بها ولا تعنيه فيما كان مورافيا يكتب ويدلي بتصريحات صحافية، معلناً أن "الذين انتقدوا توجه بازوليني واصفين إياه بالجديد لم يفهموا شيئاً من سينماه وأنه في هذا التوجه لم يحد على الإطلاق، عن مساره السينمائي الذي قام دائماً على التقاط شاعرية ورهافة بل حتى عبقرية تلك الطبقات المسحوقة وفي ركابها أولئك المهمشين من شتى الفئات الذين يفضل المجتمع المتأنق تجاهلهم، فيما هو لم يكف عن الدفاع عنهم. وحسبنا للتأكد من ذلك أن نستعرض في ذهننا أفلامه الكبرى بخاصة فيلمه عن السيد المسيح الذي قدم مؤسس المسيحية ثورياً عنيفاً في ثورته المعيدة إلى المهمشين مكانتهم في المجتمع، واهتماماته الاجتماعية بينما نعرف أن معظم الشرائط المسيحية الأخرى فضلت دائماً التوقف عند معاناته وآلامه ومن موقع بؤسوي لا غير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى المعارك الكبرى
كان من الواضح هنا أن مورافيا من خلال بازوليني وانهماكه في الدفاع عنه إنما كان يخوض معركة يمكن اليوم، وقد رحل معظم المشاركين فيها عن عالمنا بعد ذلك، القول إنها أتت في سياق المواقف الاجتماعية التي آثر مورافيا أن يجعلها معاركه وذلك في مرحلة أخيرة هو الآخر من حياته كان خلالها يخوض معارك كبيرة أخرى لعل من أهمها معركته ضد التهديدات النووية التي كان يراها آفة العصور الحديثة معتبراً أنها إن لم نتدارك أمرها تهدد بأن تكون وسيلة القتل الأكثر همجية ومن ثم الأكثر قدرة على تدمير الأرض وإبادة الإنسان في انطلاق من فعل إنساني بحت. ونعرف على أية حال أن ألبرتو مورافيا، عرف عند نهاية حياته في نهايات القرن الـ20 كيف ينتقل بحسه السجالي الحاد من الدفاع عن حق الإنسان في الحرية ولكن كذلك عن حقه في عيش حياته محافظاً على كرامته، إلى معركة في سبيل الوجود الإنساني نفسه وللدفاع عن الفن كسلاح في وجه الهمجية المستشرية، وهو الموضوع الذي لن يفوتنا أن نلاحظ أنه هو الذي هيمن دائماً على أدبه منذ بداياته وحتى قبل أن يسخر ذلك الأدب والمكانة التي جعلها له لخوض المعارك الكبرى.