ملخص
باحثة بريطانية تعيد طرح سؤالها: هل نحن أحرار في تغيير العالم؟
خلال الفترة الأخيرة، ولا سيما بعد أن تولى ترمب حكم أميركا، تصدرت أعمال المنظرة السياسية حنة أرنت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً لتعكس الحاجة الملحة إلى أفكارها في الوقت الراهن، حين أصبح التنبؤ بوضعنا البشري أكثر صعوبة من أي وقت مضى. إنه الموقف الذي وجدت فيه أرندت نفسها بعد رحلة هرب معقدة من جحيم الأنظمة الشمولية سواء في ألمانيا النازية أو الاتحاد السوفياتي الستاليني وهي في سن الـ 20، وكان عليها كي تستوعبه استيعاباً كاملاً من دون انفعال أو أحكام مسبقة، أن تحتضن الحيرة كخط دفاع أول للمقاومة، وفق توصيف أستاذة العلوم الإنسانية الباحثة البريطانية ليندسي ستونبريدغ.
لقد تمكنت ستونبريدغ من استخلاص دروس وتحذيرات مهمة من أعمال أرندت بوسعها أن ترفع عن كاهلنا عبء غياب الرؤية في ضبابية الحاضر، وربما تساعدنا في تجاوز أزمتنا في القرن الـ 21 في كتابها "نحن أحرار في تغيير العالم" الصادر حديثاً عن "دار هوغارث".
أنا أفكر
يقع كتاب ستونبريدج في 368 صفحة، و10 فصول، ستة منها خصصتها الباحثة لتعبيد طريق البشرية إلى الحرية في كل زمان ومكان، وهي فصول تغلب عليها صيغة الإرشاد كما يتضح من العناوين الاستفهامية التي تبدأ بالكيفية، من قبيل "كيف تفكر؟" و"كيف تحب؟" و"كيف تغير العالم؟"، أما البقية فهو مزيج من حياة أرنت إضافة إلى تقييم نقدي لأعمالها وفق رؤية ستونبريدغ الذكية التي كونتها على مهل منذ الدراسة، ووصفتها بعد انكباب طويل عليها بأنها "تبدو مثل جبل الثلج الذي لا يمكن المراقب العادي رؤيته إلا جزئياً" .
ولدت أرندت في العقد الأول من القرن الـ 20 لأبوين علمانيين من يهود ألمانيا، وقدر لها أن تجرب قسوة الهرب والمطاردة والاعتقال وحتى تجريدها من الجنسية الألمانية قبل أن تستقر في نهاية المطاف في أميركا، وهناك كان عليها أن تخترع حياة جديدة مادامت الظروف لم تزودها بأخرى جاهزة. لم يكن لدى حنة سوى بعض ما استوعبته من الفكر الأوروبي الممتد حتى اليونان القديمة، ولكنه كان كافياً لفهم حقيقة ما يجري من اضطرابات سياسية في ظل الحروب والأنظمة الاستبدادية وتفاهة الشر، فهل يكفي الفهم لإحداث تغيير؟
تلخص نهج أرندت من أجل تغيير العالم في محاولة فحصه بدقة وترتيب جزئياته المعقدة بين دفتي كتاب، فكتبت عن السلطة والإرهاب، والمنفى والحب، وكتبت عن الثورة وحياة العقل غير المكتملة، والأهم من ذلك كله كيفية الوصول إلى طريق الحرية على رغم احتمال الغرق، وسرعان ما أصبحت واحدة من أكثر المثقفين تأثيراً وإثارة للجدل، واشتهرت بانشغالها الدائم في التفكير ومحاولاتها الدؤوبة سبر كل ما يتصل بالحياة اليومية، استناداً إلى ذخيرتها من أعمال أفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني، وصولاً إلى هيغل وهيدغر ونيتشه.
وكما تلاحظ ستونبريدغ فقد كانت أفكار أرندت لها دائماً بعد أخلاقي، وكان التساؤل هو وسيلتها لمجابهة الاستبداد، وعلى القدر نفسه من الأهمية التمييز بين الحقيقة والخيال، وإعمال العقل لفصل الحقيقة عن الأكاذيب، ولقد انصب اهتمام أرنت على كل ما نستطيع أن نحققه لو التفتنا إلى حياة العقل وتمكنا من توجيه أفكارنا نحو ما يعزز بقاءنا ويغذي خيالنا، في عالم يعترف حقاً بالتعددية والتنوع الطبيعي بما يجعل التفكير ممكناً، وفي الوقت نفسه يمهد الطريق إلى الحب بين سكان العالم باعتباره الشرط السياسي الذي يضمن وجودنا معاً في المقام الأول.
دعوة إلى العصيان
تعتمد ستونبريدغ في كتابهاعلى الرسائل والمذكرات والمقالات ودفاتر المحاضرات ومجموعة من الصور الفوتوغرافية لتتبع تطور تفكير أرندت، مستفيدة من نهجها في الكتابة وكذلك بعض جملها الأيقونية عن العنصرية والإمبريالية وخيبة الأمل في السياسة والامتثال غير المدروس للأوامر، ولعل ما حدث أثناء محاكمة أدولف أيخمان مرتكب الـ "هولوكوست"، النازي الذي اختطفته إسرائيل لتحاكمه في القدس، هو ما عزز اهتمامها بالأنشطة المرتبطة بالفكر والتي فندتها في كتابها "تفاهة الشر".
لقد استطاعت أرندت أن تحلل ظاهرة الشر على نحو مغاير للرأي التقليدي أدبياً ودينياً وفلسفياً حتى إن بعضهم اتهمها بالشروع في تبرئة عدو اليهود الأول باستخدام صفة التفاهة في وصف جرائمه، لكن ما أثار انتباه أرندت في عدوها هو مدى الاستخفاف الواضح المتبدي في كلماته، وعلى رغم الأفعال المخيفة التي اقترفها وجدته أرندت إنساناً عادياً جداً "مثل كل الناس، وليس بالشيطاني أو القبيح"، وانتبهت إلى انعدام الدوافع الخبيثة التي يعتبرها الجميع محفزات الشر، وكانت الميزة البارزة المستشفة من تصرفاته كما أوضحت أرنت، هي غياب الرأي، مما جعلها تتساءل "هل تكون مشكلة الخير والشر وإمكان التمييز بينهما على علاقة بمؤهلاتنا الفكرية؟".
لخصت أرندت هذه القضية بعد تفكير مضن عبر تحذير مقتضب موجه للجميع، "لا يحق لأحد أن يطيع"، وهو ما تفسره ستونبريدغ بامتلاكنا العقل والقيم الأخلاقية، ولهذا يمكننا بل ويجب علينا أن نعمل على جعله مكاناً جيداً مهما كانت الكلفة، وهي بدورها تحذرنا من عودة الشمولية في قرننا المجنون بحكامه الطائشين وأحداثه المروعة، ومن بينها غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا ومعاملة بريطانيا لطالبي اللجوء ومداهمة وباء "كوفيد" للجنس البشري والنزعة الاستهلاكية المتفشية ونظريات المؤامرة ووسائل التواصل الاجتماعي وسياسات ما بعد الحقيقة.
كتبت أرندت عام 1967 تقول، "من الناحية النظرية قد نطلق على الحقيقة ما لا يمكننا تغييره، ومجازياً فهي الأرض التي نقف عليها والسماء التي تمتد فوقنا، ومن دون الحقيقة يبدأ الواقع نفسه في الانزلاق من بين أيدينا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقترح ستونبريدغ أن أهم ما نتعلمه من أرندت هو "عدم أخذ أي شيء كأمر مسلم به. لا تفترض، لا تقبل، اختبر أفكارك بموازة الواقع، نشط فضيلة السؤال وابدأ العمل، فليس من قبيل المصادفة أن يصبح كتاب ’أصول الشمولية‘ الصادر عام 1951 من أكثر الكتب مبيعاً بشكل مفاجئ لمجرد صعود ترمب".
كتبت ستونبريدغ تقول إن كتاباتها لديها كثير مما ستخبرنا به عن كيفية وصولنا إلى هذه النقطة في تاريخنا، وتربط بين تفاهة الشر والفظائع اليومية التي يرتكبها الفاشيون بتحريض من داعميهم الصامتين، مستلهمة من أرندت خطابها في محاضرتها الأخيرة، "إذا كانت أميركا لا تزال تريد الحرية حقاً، فعليها أن تتخلى عن خيال قدرتها المطلقة"، وهو الخطاب الذي طلبه جو بايدن حين كان شاباً آنذاك من أرندت، لكنه في ما يبدو وبعد مرور نصف قرن نسيه تماماً، إذ بات من هؤلاء الصامتين الداعمين للفاشية من دون منازع.
أعشاب ضارة في حديقة السيدة
تورد ستونبريدغ الجوانب الإشكالية في أفكار الفيلسوفة التي حيرت قراءها وأغضبتهم، فلم تكن كما غيرها من البشر على صواب دائم، إذ يتناول الكتاب موقفها المعارض لإلغاء الفصل العنصري في المدارس الأميركية عام 1957 خلال "قضية ليتل روك ناين"، وآراءها الصادمة في قصة الفتاة المراهقة ذات البشرة السمراء التي تعرضت للتنمر بسبب التحاقها بمدرسة مدمجة حديثاً.
غير أن حنة في اندفاع سورة الغضب بتوجيه الاتهام إلى أم الفتاة المهملة سرعان ما هدأت واعترفت لاحقاً في رسالة إلى رالف إليسون بأنها سارت في "اتجاه خاطئ تماماً"، وربما ساورها إحساس بالندم لأنها افتقرت إلى التعاطف مع مشاعر الأم، لكن إليسون لم يرد عليها قط.
كانت علاقتها متينة وعميقة بالفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889- 1976) كمعلم وعشيق، وتواصلها معه حتى لحظة وفاتها عام 1975، وكذلك ولاؤها الدائم له على رغم تعاطفه مع النازية المعروف للجميع، بل والأكثر مدعاة للاستهجان مساعدتها له في استرداد سمعته بعد الحرب العالمية الثانية، فكل هذه التناقضات كان لها أبلغ الأثر في سمعة أرندت، لكن ستونبريدغ المتحمسة لها بشدة ترى أن سمعتها تعافت خلال الأعوام الأخيرة مع ازدياد الحاجة إلى أفكارها للعيش في "زمن اللايقين".