اختتمت نهاية الاسبوع الأول من مهرجان برلين السينمائي (15 - 25 الشهر الجاري) ولم نعثر بعد على التحفة السينمائية الكبرى المنتظرة كالعادة في كل دورة، ولو إن “الأمبرطورية” للفرنسي برونو دومون هو الأقرب إلى ان يحمل تلك الصفة (لنا عودة اليه في الأيام المقبلة). تراوح المستوى العام بين مقبول ومتوسط وجيد. بعض الأعمال تميزت بالرداءة والادعاء والثرثرة. هذا بالنسبة للمسابقة الرسمية التي هي واجهة المهرجان، أما الأقسام الأخرى الموازية، فقد تحمل جواهر لم نصل اليها بعد. حتى كتابة هذه السطور، عُرض معظم الأفلام التي تتسابق على “الدب الذهبي”، والبقية في الأيام القليلة الاتية. من بين ما شاهدناه، تميز “كعكتي المفضّلة”، وهو ثاني أعمال الثنائي الإيراني مريم مقدّم وبهشات صناعي ها، بعدما كانا انطلقا مع “أغنية البقرة البيضاء” الذي عرضه “برلين” في الدورة التي أقيمت أونلاين عام 2021 ويحكي عن سيدة تكتشف ان زوجها الذي أُعدم كان بريئاً، وتخوض إجراءات اثبات ذلك.
تلقّى “كعكتي المفضّلة” اشادة من النقّاد والصحافيين الغربيين وتحمّسوا له بقوة، و سحر بعضا من الجمهور الألماني، اذ كانت الضحكات تتعالى طوال الفيلم الذي يُمكن تصنيفه في إطار الكوميديا الرومنطيقية، ويأتي بعيداً عن النصوص السينمائية الجدية الحاملة قضايا كبيرة، التي عودتنا عليها السينما الإيرانية، وإن في شكل استعاري. رغم هذا النجاح، لم يستطع المخرجان السفر إلى برلين، بعدما قامت السلطات الإيرانية باحتجاز جوازي سفرهما واخضاعهما لتحقيق، مع التذكير ان فيلمهما السابق المعادي لعقوبة الاعدام في إيران مُنع، وهما يتعرضان منذ ذلك الوقت لملاحقات كثيرة.
في مقابلة مع “فرايتي”، صرح المخرج بهشات صناعي ها، ان كل شيء بدأ قبل ستة أشهر عندما داهم حراس الأمن المكاتب الذي كانت يجري فيها توليف الفيلم، وصادروا جميع الأقراص وأجهزة الكمبيوتر وكل ما له علاقة بالفيلم. وبعد أيام قليلة، تم استدعاؤهما إلى مكاتب قوى الأمن، وخضعا للكثير من الاستجوابات، وطُلب منهما التوقّف عن الاستمرار بإنجازه. لكن أبلغ المخرجان السلطات ان المواد المصورة التي يتم العمل عليها ليست في إيران، وما تم العثور عليه في مكاتب التوليف مجرد هيكل عظمي للمشروع، وان المواد الحقيقية موجودة في فرنسا. وأضاف صناعي ها: “بعد التحقيق، رفعوا دعوى قضائية ضدنا لا تزال عالقة. بعد شهرين، عندما أردنا مغادرة طهران للذهاب إلى باريس لإنهاء العمل، صادروا جوازات سفرنا في المطار. والآن تستمر التحقيقات ولم نحصل على الإذن لحضور برلين”.
في المؤتمر الصحافي الذي عُقد حول الفيلم، أرسل المخرجان كلمة مؤثرة قرأتها ممثّلة الفيلم ليلي فرهاد بور: “نحن ممنوعان من الانضمام إليكم ومشاهدة فيلم عن الحبّ والحياة والحرية، الكنز المفقود في بلادنا، حيث ليس من الممكن سرد قصّة إمرأة إيرانية مع الالتزام بالقوانين الصارمة مثل الحجاب الإلزامي”.
موت وحب في طهران
يدور “كعكتي المفضّلة” حول سيدة في السبعينات من عمرها (ليلي فرهاد بور)، تعيش وحدها في أحد أحياء طهران الراقية. زوجها قضى في حادثة سير، أما ابنتها فهاجرت إلى أوروبا بحثاً عن فرص حياة أفضل. تتألّف يوميات هذه السيدة من روتين وتكرار، بين الذهاب إلى السوق للقيام بمشترياتها واستقبال صديقات لها يدور كلامهن حول الشيخوخة والأمراض وكل ما يثير مللها ويقربها من نهايتها الحتمية. لكن، ذات يوم تتعرف على سائق تاكسي (إسماعيل محرابي) وتجلبه معها إلى منزلها. الرجل يعيش عزلة ووحدة شبيهتين بعزلتها ووحدتها. معاً، يمضيان ليلة من العمر، مملوءة بالحميمية والضحك ومحاولة كل طرف التعرف على الآخر. لكنّ غداً يوم آخر، وما يحدث بعد ذلك يحمل الفيلم من مكان إلى مكان.
ما أغضب وسيغضب السلطات الإيرانية المؤتمنة على “أخلاقيات” الشعب الإيراني هو ان الفيلم ينسف كل المحرمات التي قامت عليها الأفلام الإيرانية، فلا حجاب يغطّي شعر المرأة كما جرت العادة حتى وهي وحدها في المنزل، بل انها تستقبل رجلا غريبا في بيتها وتتناول معه الخمر، وحتى انها ترقص معه ثم يستحمّان معاً ولو بالملابس، والمشهد الأخير أثار ضحك العديد من الألمان الذين لا يضحكون عادةً على أي شيء.
اللافت ان الشخصية التي تتولّى هذه الانتفاضة على القوانين والأعراف الاجتماعية البالية ليست شابة يافعة متحمّسة للتغيير، بل إمرأة في السبعينات من عمرها سئمت من كل شيء، وهي أم وزوجة سابقة. وهذا يحمل الكثير من الدلالات، ويُراد القول منه ان تغيير السينما الإيرانية ونسف قواعدها التي تفرضها الجمهورية الإسلامية، مطلوبان لدى الجيل القديم أيضاً، لا مجرد “طيش” شبابي. فكرة أخرى تفرض نفسها من خلال الفيلم وهي ان الانتفاضة لا تحتاج إلى امكانات كبيرة، بل تبدأ من الذات والتعاطي اليومي مع الحياة وتجاوز ثنائية المسموح الممنوع. هي تبدأ من تفاصيل صغيرة كتلك التي نراها في الفيلم.
الفيلم بسيط، يطرح موضوعاً يتماهى معه أي كان، مع غض النظر عن خلفيته الثقافية وأفكاره وقناعاته، انه فيلم عن الوحدة والشيخوخة وصعوبة التواصل مع أحد، بعد بلوغ عمر معين. أما كل الخيارات فتبدو متشابهة. سواء تزوجت المرأة وأنجبت كما هي حال السيدة، أو لم تتزوج ولم تنجب في مثل حال سائق التاكسي، فإن المصير يبدو واحداً. أما القمع، الذي لا نراه في هذا الفيلم فهو انه حاضر أكثر بغيابه، فكلاهما ضحيته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا كله واضح وضوح الشمس، وربما أكثر ممّا يلزم أحياناً، مما يمد الفيلم بنبرة خطابية مباشرة. سينمائياً، هناك العديد من نقاط الضعف، ولا يكفي فيلماً ان يكسر المحرمات كي يرتقي إلى التحفة الفنية. أما الخاتمة، فهي أم المشاكل، اذ تبدو حلاً سهلاً لتخليص قضية مهمة وزج الفيلم في إطار التراجيكوميديا، وهذا نوع سينمائي حساس جداً، قلّة برعت فيه. من كل الحلول الممكنة، اختار الفيلم نهاية تخدم سرديته، لكن خدمة ضيقة الأفق. في أي حال، لا يوجد في “كعكتي المفضّلة” ما يكفي من مضمون لفيلم طويل، والأصح لو كان قصيراً ومكثّفاً لا يتجاوز الربع ساعة.
عدد من الأقلام رشّحت الفيلم بقوة لـ”الدب الذهبي”، واذا حصل ذلك، فهذا يعني ان لجنة التحكيم سقطت في فخ رد الاعتبار إلى نضال سينمائيين يعانون من ظلم سلطاتهم وبطشها، لا إلى الفنّ الذي يصنعونه.