Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اتفاق سلام جوبا" أكتوبر 2020... أضغاث صفوية

"مشكلة شرق السودان التي بحثت القوى السياسة والمدنية عن حل لوحدها براء من أزمة الحكم في البلد حكاية شقية تعود لبوادر نبأ اتفاق الشرق"

سودانيان يعملان في سوق مفتوح بمنطقة القضارف في شرق السودان (أ ف ب)

ملخص

الحرب بين القوات المسلحة و"الدعم السريع" لا تزال سجالاً ولم يعد مطلب الدعم هو الدمج في القوات المسلحة بل نادى صريحاً بحلها هي نفسها في جيش مبتكر يراعي التنوع الاجتماعي السكاني

ستغيب عنا أشياء ذات خطر إذا اقتصر تحليلنا للحرب القائمة في السودان على نزاع "جنرالين" سكرى بالسلطان، وأن نعلق نهايتها على جمعهما في حلال التفاوض والسلام. بدا لي أننا، بهذا التركيز الشديد على العسكريين، لربما فوتنا علماً أفضل بالحرب وسبل إنهائها. وهو علم سنحصل على أقباسه لو أخذنا صفوة السياسة والرأي أخذاً وبيلاً أيضاً. فلا أعرف صفوة مثلها أشهرت إفلاسها على رؤوس الأشهاد بعبارة شائعة لمنصور خالد "فشلنا وأدمنا الفشل". وبدا أن الوزير الأسبق للإعلام والثقافة إسماعيل حاج موسي ضاق ذرعاً بهذا الاعتراف المجاني، فتساءل أي نفع نجني من تكرارنا تحميل الصفوة وزر محنة البلاد؟ وبس. ما هي الإجراءات السياسية والقانونية التي ستترتب على مثل هذه الإدانة؟ وحتّامَ؟

وهذه كلمة عن أخذ هذه الصفوة أخذاً شديداً لما نراه من ارتباكها في تاريخ فشلها وتعثرها في أضابيره، في حين تظن أنها تحسن صنيعاً لإيقاف الحرب.
لا يدري المرء من أين طرأ طارئ اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) بين الحكومة الانتقالية وحركات دارفور المسلحة للقوى السياسة والمدنية السودانية (الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية، الحراك الوطني، الحركة الشعبية لتحرير السودان، الجبهة الثورية، وتجمع قوى تحرير السودان، والطوائف الصوفية ورجالات الإدارة الأهلية ومجلس الكنائس السوداني) التي اجتمعت في جوبا الأحد الماضي وأصدرت بياناً بعنوان "رؤية تحقيق السلام والتحول الديمقراطي". فجاء ذكر الاتفاق في موضعين منه. ففي الموضع الأول دعا البيان إلى وقف القتال وإنهاء الأعمال العدائية إنهاءً يقوم على "قواعد عسكرية فنية وفقاً لقانون الحرب والحياد  الدولي (؟)، وإعلان جدة في الـ11 من مايو (أيار) 2023، مع تضمين البروتوكولات الأمنية والإنسانية في اتفاق جوبا لسلام السودان". ونادى البيان من جهة ثانية إلى حوار شامل حول جذور الأزمة السودانية، كما يقال، لا يستثني أحداً ومن ذلك "إيجاد حل عادل لقضية شرق السودان من خلال منبر تفاوضي خاص يشمل جميع الأطراف من دون إقصاء".

فلم يأتِ البيان باتفاق جوبا في أول ذكره في غير ما مناسبة فحسب، بل جاء في ذكره الثاني بعاهة فيه ضرجت الساحة السياسية بالضجيج والدم. فمع أن "اتفاق جوبا" عرض للقضايا الأمنية والإنسانية في فصله السابع بإسراف (48 صفحة من 148)، إلا أنه رتب للسلام من حرب غير القائمة ليومنا. فجاءت حركات دارفور للسلام مع الحكومة الانتقالية في جوبا راضية مرضية بعد توقف العدائيات، ولم يبقَ من وقف إطلاق النار الدائم سوى آليات رقابة نفاذه. وخلص الاتفاق في جوبا إلى فقه تسريح بعض مسلحي الحركات ودمج غيرهم وحصر سلاح المحاربين وإيداعه الدولة. ودعا الاتفاق في جانب الإصلاح العسكري والأمني إلى دمج المسلحين و"الدعم السريع" في القوات المسلحة لتكون هذه القوات "بعقيدتها العسكرية الجديدة الموحدة التي تحمي الوطن والدستور، الجيش الوطني المهني الوحيد، ودمج كافة القوات الأخرى الموجودة في الأراضي السودانية في جيش وطني مهني واحد".

ولا بد للمرء من أن يسأل هنا إن كان فقه "اتفاق جوبا" الذي زكى بيان القوى السياسية والمدنية استصحابه في وقف الحرب القائمة، ذا بال. فالحرب بين القوات المسلحة و"الدعم السريع" لا تزال سجالاً ولم يعُد مطلب الدعم هو الدمج في القوات المسلحة بل نادى صريحاً بحلها هي نفسها في جيش مبتكر يراعي التنوع الاجتماعي السكاني. 

أما طلب بيان القوى السياسية والمدنية أن يشمل الحوار الوطني الشامل حلاً لمشكلة شرق السودان، فمزعج جداً. فكيف خص البيان هذا الإقليم من البلد دون غيره بالذكر في مجمع وطني شامل للحوار حول أزمة الحكم والبحث عن مخارج منها؟ وكيف لهذا الإقليم اعتزال هذه الأزمة ليقع على الحل السعيد لمتاعبه في بند مستقل في الحوار؟ لا يخفى على المتابع لاتفاق جوبا وانعكاساته العصيبة على شرق السودان منذ التوقيع عليه، أو حتى قبل ذلك، أن صفوة القوى السياسية والمدنية إنما تتعثر في حبائله، مما يطعن في ملكتها في إنتاج أفكار على قدر الكارثة التي تكتنف السودان.

ومشكلة شرق السودان التي بحثت القوى السياسية والمدنية عن حل لوحدها براء من أزمة الحكم في البلد، حكاية شقية تعود لبوادر نبأ اتفاق الشرق. وبلغ من شقائها أن أسهدت صفوة مسلحي اتفاق جوبا فتنتابهم أضغاثاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


لم يكن ليكن فينا هذا التمييز لشرق السودان دون غيره لولا اتفاق جوبا. فتداعى مسلحو دارفور لمائدة مفاوضاته للسلام، مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم أخرى تحالفت معهم خلال نضالهم معاً لإسقاط نظام البشير. والأخيرون من سماهم أحدهم "صحبة مسلح" أي أنهم ما حصلوا على كرسيهم إلى مائدة المفاوضات أصالة، بل بفضل حليف مسلح. فجاءت "الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة" بقيادة الأمين داؤود، ممثلة لشرق السودان ضمن طاقم الجبهة الثورية الذي ضم حركات دارفور المسلحة وأشهرها "حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، وزير المالية ليومنا، و"حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي حاكم دارفور الحالي. ونظر المؤتمر في مظالم كل إقليم جاء منه وفد مسلحاً كان أو صحبة مسلح، ورد له الحقوق ما وسعه، وفوق ما وسعه.
وسموا مصفوفة الحلول هذه "المسارات"، ومنها مسار الشرق الذي وقع عليه الأمين داؤود. ووقع الخلاف في الشرق من هنا. فالأمين داؤود ينتمي إلى شعب البني عامر وجاء المسار على صورتهم لما ينبغي لمركز الدولة عمله لرفع الظلامة عن الشرق. وأغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك وآخرين. وبين الجماعتين خصومة تفجرت في وقت قريب من التوقيع على اتفاق جوبا. فكانت ولاية كسلا اختارت أول أيام الحكومة الانتقالية بعد ثورة 2019 والياً عليها من البني عامر. فلم يهدأ للهدندوة بال حتى أزاحوه.
وساء الهدندوة من اتفاق الشرق أمران. أما الأمر الأول، فهو توظيف البني عامر لمسار الشرق لرفع مظلمة قديمة عنهم. فكانوا قد استبعدوا من اتفاق للشرق عام 2006 بين دولة الإنقاذ وحركات مسلحة غلب فيها الهدندوة. وما أثار حفيظة البني عامر بالذات، حرمانهم من حظ معلوم في صندوق الشرق ذي الموارد الثرية الذي اتهموا الهدندوة بالاستفراد به. فانتهزوا سانحة كتابتهم لمسار الشرق في جوبا ليطلبوا في مادة منه إخضاع الصندوق للمراجعة وهيكلته وتمثيل الموقعين على المسار في مجلس إدارته وحق الشورى فيمن يكون مديره.
أما الأمر الثاني، وهو أكثر جوانب مسار الشرق إهانة لمن لم يحضر قسمة جوبا، فهي مادة انعقاد المؤتمر التشاوري لأهل الشرق يتنادى له من لم يحضروا قسمة جوبا للشورى حول مسارهم. وهذا بالحق عتو غريب تستبيح به جهة ما كالجبهة الثورية إقليماً بحاله تفاوض عنه بمن انتخبته ممثلاً للشرق اعتباطاً بغير اعتبار لتضاريسه السياسية والديموغرافية.
وقاوم الهدندوة مسار الشرق بقوة. فشرارة الأزمة الأولى اندلعت في بورتسودان في نوفمبر 2019 لدى عودة الأمين داؤود ليعرض، كمفاوض عن الجبهة الثورية، ما توصلوا إليه في مسار الشرق حتى تاريخه. وأغضب ذلك شعب الهدندوة وآخرين. والتحم جمهور منهم مع حضور ندوة داؤود الذي لم يسمع التماس سلطات الأمن منه تأجيلها حقناً للدماء. وناصب ناظرهم ترك العداء للحكومة الانتقالية التي سقطت بانقلاب الـ25 من أكتوبر 2021 في سياق اعتصام للهدندوة قطع الطريق بين بورتسودان، الميناء، وبقية القطر.
واضح أن استذكار أزمة الشرق في بيان القوى السياسية والمدنية هو بمثابة اعتذار للناظر ترك بالذات الذي انضم إلى تحالفات مختلفة في الأعوام الماضية كانت الجبهة الثورية فيها بصورة أو أخرى. ولم يـتأخر هذا الاعتذار فحسب، بل من المؤكد أنه جاء في غير ما وقت. فالحرب أعادت شك الأوراق إن لم تحرقها جميعاً. ولا تزال صفوة منا ترفأ خرقاً قديماً لها اتسع على الراتق. فمن أين لها أن تنتج أفكاراً للنجاة بالوطن وهي تتعثر في أضغاثها؟

اقرأ المزيد

المزيد من آراء