ملخص
يكشف هذا الجزء من الوثائق كيف سعى الرئيس كلينتون لتطبيق ما يعرف بسياسة "الاحتواء المزدوج"، وجنوحه لاستصدار قوانين وقرارات تفرض عقوبات تجارية كخيار للمواجهة ضد إيران.
في الجزئين السابقين حدثتنا وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي رفع طابع السرية عنها أخيراً عن كيفية إدارة واشنطن لأزمة عملية اقتحام سفارتها في طهران عام 1979 واحتجاز 52 أميركياً من موظفي السفارة كرهائن لمدة 444 يوماً، ثم محطات الاضطراب بين البلدين التي تلت تلك الحادثة بداية من فضيحة "إيران كونترا" التي عقدت بموجبها الحكومة الأميركية تحت إدارة الرئيس رونالد ريغان، اتفاقاً سرياً مع إيران لتزويدها بالأسلحة أثناء حربها مع العراق في مقابل إطلاق سراح بعض الرهائن من الأميركيين، فضلاً عن فترة ما بعد وفاة الخميني عام 1989، ووصولاً لسنوات "حرب الناقلات" الذي شهده الخليج العربي.
في هذا الجزء من الوثائق، تتكشف لدينا بعضاً من سياسة واشنطن التي انتهجتها ضد إيران في فترة تسعينيات القرن الماضي، لا سيما مع محاولة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لتطبيق ما يعرف بسياسة "الاحتواء المزدوج"، وجنوحه لاستصدار قوانين وقرارات تفرض عقوبات تجارية ضد إيران في تحرك لكبح مساعيها في الحصول على أسلحة مدمرة واستمرار دعمها للجماعات الإرهابية.
"الحظر التجاري" كخيار للمواجهة
وفق ما جاء في إحدى الوثائق، ففي مايو (أيار) 1995، أصدر الرئيس بيل كلينتون (حكم بين 1993 و2001) أمراً تنفيذياً بقطع كافة أشكال التجارة والاستثمارات مع إيران من قبل الشركات الأميركية. وشمل ذلك مشتريات النفط التي شكلت نحو 20 في المئة من صادرات إيران.
وفي خطاب ألقاه أمام المؤتمر اليهودي العالمي في نيويورك، قال إنه مقتنع بأن الحظر التجاري هو الطريقة الأكثر فعالية لكبح مساعي إيران للحصول على أسلحة مدمرة ودعم الأنشطة الإرهابية. وعليه تم فرض الحظر إلى حد كبير لأسباب سياسية داخلية أميركية لاستباق مشاريع القوانين التي كان الجمهوريون على وشك عرضها على الكونغرس لإرضاء اللوبي اليهودي، لكنه كان يهدف أيضاً إلى إظهار للمجتمع الدولي أن الأميركيين كانوا يأخذون زمام المبادرة في الإجراءات ضد إيران. وجاء ذلك قبل أسبوع من زيارة كلينتون لموسكو ومحاولته، من دون جدوى، إقناع الرئيس يلتسين بإلغاء مشروع بوشهر (النووي).
وشمل الضغط الأميركي الإضافي على إيران في عام 1995 الإعلان عن استقرار الأسطول الخامس في منطقة الخليج العربي، على رغم أن هذا الإعلان كان عملاً رمزياً إلى حد كبير نظراً لأن الأسطول كان يتكون من القطع الأميركية المنتشرة في الوقت الحالي.
تفجيرات "حماس" و"الخبر" عام 1996
بحسب الوثيقة ذاتها، استمرت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة في التدهور خلال عام 1996، حيث اتهم الأميركيون إيران بالوقوف وراء تفجيرات "حماس" في إسرائيل في مارس (آذار) من العام ذاته (نفذت في تلك الفترة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" عدداً من التفجيرات الانتحارية داخل إسرائيل رداً على اغتيال أحد قادتها وهو يحيى عياش أواخر عام 1995). وأشارت تقارير صحافية إلى أن إيران قد تكون وراء تفجير منشأة عسكرية في الخبر بالمملكة العربية السعودية في يونيو (حزيران) أدت إلى مقتل 19 أميركياً.
وعليه وقع الرئيس كلينتون في أغسطس (آب)، على قانون العقوبات الإيراني- الليبي، الذي فرض عقوبات على شركات من دول ثالثة تستثمر أكثر من 40 مليون دولار (تم تخفيض الرقم في ما بعد إلى 20 مليون دولار) في صناعة النفط والغاز الإيرانية. وكان المؤيدون الرئيسيون لهذه الفكرة هم السيناتور ألفونس داماتو من نيويورك ورئيس لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب بنيامين جيلمان، من نيويورك أيضاً.
وأدت التكهنات حول تفجير الخبر إلى مخاوف في إيران من أن تقوم الولايات المتحدة بعمل عسكري ضدها. ومع التركيز على دول مجلس التعاون الخليجي، التي كانت متوترة بشأن النوايا الأميركية، حذر الإيرانيون من أنه إذا حدث ذلك فلن تكون المنطقة بأكملها آمنة.
وفي نيسان (أبريل) 1997، دانت محكمة ألمانية إيرانياً وثلاثة لبنانيين حيث وجدتهم مذنبين في ارتكاب جريمة اغتيال معارضين أكراد في مطعم ميكونوس في برلين عام 1992. وقال رئيس المحكمة إنه كانت هناك أوامر (إيرانية) رسمية بتنفيذ عملية الاغتيال. وكان هذا هو الدليل الدامغ على تورط إيران الرسمي في الإرهاب وكان سبباً في تعزيز عزم الولايات المتحدة على مواصلة سياسة الاحتواء ومحاولة إقناع الآخرين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، بتبني نهج أكثر صرامة.
مخاوف إيرانية في عهد رفسنجاني
خلال فترة رئاسة أكبر هاشمي رفسنجاني (تولى في الفترة ما بين 1989 إلى 1997)، رأى النظام الإيراني أن الولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى عنيدة ومناهضة وتعمل من أجل الإطاحة بالنظام الإيراني.
ووفق الوثائق البريطانية، شعرت طهران بالتهديد من الوجود العسكري الأميركي في الخليج العربي، وكان لديها هاجس من الخوف من أن الولايات المتحدة ستدعم العمل العسكري المباشر للاستيلاء على جزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى. كما شعرت بأن عملية السلام في الشرق الأوسط صممت لزيادة النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة. وانتقدت الولايات المتحدة بسبب ازدواجية المعايير في عدد من القضايا، بما في ذلك إسرائيل وحقوق الإنسان، وأعربت عن استيائها من النزعة الأميركية لإلقاء اللوم على إيران بشكل غريزي وتحميلها أعمالاً إرهابية في الخارج. ولم تختصر معارضة القيادة الدينية في إيران على السياسات الأميركية فحسب، بل شملت أيضاً الثقافة الأميركية، التي اعتبرها فاسدة وتشكل خطراً على القيم الإسلامية.
وفيما كانت تقدم اقتراحات من قبل شخصيات من الدرجة الثانية مثل نائب الرئيس آنذاك مهاجراني ونائب المجلس رجائي خراساني بضرورة تحسين العلاقات، كان يقضي عليها خامنئي. وقال مهاجراني في وقت لاحق إنه لم يدرك أن القيادة رسمت خطاً أحمر في ما يتعلق بالمحادثات مع الأميركيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت وجهة النظر الحكومية المعتادة، والتي كررها رفسنجاني عدة مرات كرئيس، هي أن الولايات المتحدة يجب أن تظهر حسن النية من خلال إعادة الأصول الإيرانية (التي تبلغ قيمتها نحو 12 مليار دولار) قبل أن تفكر إيران في اتخاذ أي خطوة من جانبها.
وتشير الوثائق إلى أن الأميركيين يؤمنون بأن إيران دولة خطيرة وتدعم الإرهاب في العالم وتشكل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي عام 1993 ألزموا أنفسهم بسياسة الاحتواء. ولم يستبعدوا بشكل كامل إقامة حوار مع إيران، لكنهم قالوا إن أي حوار يجب أن يتم بشكل علني مع مسؤول إيراني مفوض، وأن تكون للجانبين الحرية في تناول أي قضية يريدونها. وقد صرحوا علناً أنهم سيثيرون في أي حوار من هذا القبيل دعم إيران للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، وبرامجها لأسلحة الدمار الشامل، ومعارضتها لعملية السلام في الشرق الأوسط.
وفي تلك الآونة، تلقى الأميركيون عدة اتصالات لفتح حوار من جهات تدعي أنها تمثل الحكومة الإيرانية، لكن السياسة كانت تقتضي التأكد من صحة هذه الجهات من خلال القناة السويسرية، ولم يكن أي منها حقيقياً.
رئاسة خاتمي: آفاق التغيير
وفق إحدى الوثائق، فقد جاء انتخاب محمد خاتمي للرئاسة، وتوليه الرئاسة في أغسطس (آب) 1997 (استمر في المنصب حتى عام 2005) ليفتح المجال أمام إمكانية تحقيق قدر أكبر من المرونة في سياسات إيران بمرور الوقت، حيث تحدث خاتمي مراراً وتكراراً عن رغبته في الحد من التوتر الدولي. إلا أنه ووزير الخارجية الجديد كمال خرازي ظلا متشددين في ما يتصل بالعلاقات مع الولايات المتحدة.
وفي مؤتمر صحافي عقده بعد انتخابه، اتخذ خاتمي الخط التقليدي المتمثل في أن أي تغيير سوف يعتمد على التغيرات في موقف الولايات المتحدة وسياساتها. وقال خرازي في مؤتمر صحافي في سبتمبر (أيلول) إن إيران لا تعتقد أن الولايات المتحدة صادقة بشأن إجراء حوار مع إيران، وأشار إلى أن طهران لا يمكنها إجراء محادثات طالما أنها تخضع للعقوبات. ومضى يقول إن إيران لن تعقد محادثات "إلا عندما يتم الالتزام الكامل بالمعايير الإنسانية والاحترام المتبادل".
وعليه تشير الوثائق إلى أنه، حتى لو كان يرغب (خاتمي) في تحسين العلاقات، فلن يكون لديه مطلق الحرية. ومن المتوقع أن يحتفظ خامنئي بسيطرته الشاملة على الشؤون الخارجية، وأن يحافظ على عدائه تجاه الولايات المتحدة من أجل دعم موقفه كخليفة للخميني. وإذا حاول خاتمي تحسين العلاقات مع الغرب، فمن المرجح أن يواجه قدراً كافياً من الصعوبة في إدارة العلاقات مع الدول الأوروبية من دون محاولة بناء الجسور مع الولايات المتحدة. وحتى الآن كانت تجربة الاتحاد الأوروبي مع الحكومة الإيرانية الجديدة سبباً في تعزيز الانطباع الأولي بأنها لن تكون حكومة قادرة على تقديم مبادرات جريئة في الشؤون الخارجية.
دعوات لإعادة تقييم النهج الأميركي ضد إيران
في تلك الأثناء في الولايات المتحدة، دعا عدد من المحللين ومراكز الفكر لبعض الوقت لإعادة تقييم السياسة الخارجية الأميركية، بحجة أن "الاحتواء المزدوج" لم يحقق نتائج وقد يكون ضاراً بالمصالح الأميركية على المدى الطويل. وقد ارتفعت أصواتهم منذ انتخاب خاتمي. لكنهم لا ينتمون إلى التيار الرئيسي للتفكير الأميركي.
وما عكس ذلك التوجه، ما جاء في التعليقات الأولية التي أدلى بها الرئيس كلينتون بخصوص عملية انتخاب خاتمي، والتي قال بأنها "تطور مثير للاهتمام ومفعم بالأمل"، لكنه أضاف أنها لم تبشر بتغيير في السياسة. بموازاة ذلك قالت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت إن الولايات المتحدة لن تعمل بناءً على الإيمان، بل ستتطلع إلى إجراءات محددة من جانب الحكومة الجديدة.
وبحسب الوثائق البريطانية، بعد إدراج جماعة المعارضة الإيرانية الرئيسية، "مجاهدي خلق"، على قائمة وزارة الخارجية للمنظمات الإرهابية في تشرين الأول (أكتوبر) 1997، والتي لم تكن مبادرة جديدة، وكانت قيد النظر لأكثر من عام، لم يمانع الأميركيون إذا اعتبر الإيرانيون ذلك بمثابة إشارة، ولكن السياسة الأميركية قد تكتسب موقفاً أكثر صرامة إذا ثبت تورط إيران في تفجير الخبر. وفي الوقت نفسه، تتصارع الإدارة الأميركية مع مشكلة ما إذا كان ينبغي عليها تطبيق قانون العقوبات على إيران وليبيا ضد شركة "توتال" الفرنسية، التي وقعت في سبتمبر (أيلول) عقد استثمار بقيمة 2 مليار دولار لتطوير حقل غاز بارس الجنوبية بالشراكة مع غازبروم الروسية وبتروناس الماليزية، أو إعفائها من العقوبات.
"فجوة واسعة" تبقى قائمة
مع استمرار الاضطراب والتوتر بين البلدين، تستخلص الوثائق البريطانية، أن الفجوة بين الحكومتين الإيرانية والأميركية "لا تزال واسعة"، مع استمرار كل منهما في الإصرار على ضرورة أن يقوم الآخر بالخطوة الأولى، ولا يوجد أي احتمال فوري للحوار.
وتوضح الوثائق، أن مواقف الحكومتين تتحدد إلى حد كبير بالسياسة الداخلية. ففي إيران، أصبحت معارضة الولايات المتحدة جزءاً أساسياً من "العقيدة الثورية"، وأن أي شخص يقترح نهجاً أكثر ليونة يخاطر برد فعل جذري. وفي المقابل في الولايات المتحدة، لا يقتصر الأمر على أن الرأي العام ككل معادٍ لإيران بسبب ذكريات احتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز الرهائن في لبنان، بل إن الإدارة تتعرض لضغوط قوية من جانب الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون واللوبي اليهودي واليمين المسيحي. ومن غير المرجح أن تؤدي رئاسة خاتمي على المدى القصير على الأقل إلى تغيير جوهري. من جانب آخر، لا يتوقع الأميركيون حدوث مثل هذا الأمر، لكنهم يراقبون أداء خاتمي عن كثب.