توّجت الحروب ضد النفط بإعلان أحد أشهر مرشحي الحزب الديمقراطي الأميركي السيناتور إليزابيث وارن منذ أيام بأن أول ما ستقوم به بعد أن تصبح رئيسةً للبلاد هو قرار رئاسي بمنع "التكسير الهيدروليكي" و"الحفر في المياه العميقة"، وذلك في تغريدة على موقع "تويتر". ومنطقها أنها بذلك تحارب "التغيّر المناخي" وأنها "بطلة" هذه الحرب من دون منازع!
أحدثت التغريدة ضجة كبيرة في دوائر سياسية واقتصادية وبيئية عدة، إلا أن الخبراء أجمعوا على أن هذه المرشحة لا تعرف شيئاً عن وضع الطاقة في الولايات المتحدة، إذ إن ما تحاول إيقافه هو 80 في المئة من إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، وقرار منع كهذا سيحدث أزمة طاقة ضخمة، ونقصاً هائلاً في الإمدادات، كون الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز في العالم. وما كان لثورة النفط والغاز الصخريين أن تحدث لولا التكسير الهيدروليكي، وما كان لإنتاج "خليج المكسيك" أن يكون أكبر من إنتاج بعض دول أوبك لولا السماح بالتنقيب في المياه العميقة.
ويبدو أن إليزابيث وارن، في سباقها مع زملائها المرشحين الديموقراطيين للحصول على أصوات الناخبين، قررت أن تتبنى أكثر المواقف تطرفاً، متناسيةً أن صناعة النفط والغاز الأميركية، وكل الأنشطة الداعمة لها، توظف أكثر من مليوني شخص! لهذا فإن المشاكل الاقتصادية والسياسية الناتجة من منع التنقيب عن النفط ستجبر أي رئيس، مهما كان متطرفاً ضد النفط، أن يخفف من حدة عدائه لقطاع النفط الأميركي، بخاصة أن لوبي النفط سيشن ضده حملةً شعواء. إلا أن تطرف وورن الشديد يكفي وحده، من دون أي نشاط للوبي النفطي، أن يكلفها عدداً كبيراً من الناخبين.
وتناست هذه السيناتور الديمقراطية الحروب التي شُنت في الماضي من أجل السيطرة على منابع النفط، بسبب زيادة اعتماد الولايات المتحدة على واردات النفط من جهة، والسيطرة بشكل غير مباشر على مصادر تلك المادة الحيوية التي يعتمد عليها منافسو واشنطن.
فمنع التنقيب عن النفط والغاز في الولايات المتحدة، لا يعني نقصاً في إمدادات الطاقة فحسب، وإنما أيضاً زيادة ضخمة في اعتماد الولايات المتحدة على واردات النفط والغاز، بخاصة من الشرق الأوسط.
مشكلتان أساسيتان في تصريح السناتور وارن لا تتعلقان في ما وعدت به. الأولى، هي جعل موضوع النفط كرة يلعب بها السياسيون في ملعب الانتخابات، فليس من مصلحة قطاع النفط الأميركي، وشركات النفط العالمية، والدول المنتجة للنفط أن تتحول تلك المادة الحيوية إلى كرة يتقاذفها المرشحون.
والمشكلة الثانية تتمثل في أن تنافس المرشحين الديمقراطيين في هذا المجال يجعل وسائل الإعلام تتحدث عنه باستمرار، وبالتالي يصبح حديث الناس، ولا يصب ذلك في مصلحة قطاع النفط الأميركي، وشركات النفط العالمية، والدول المنتجة للنفط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحرب على النفط من كل الجهات
تاريخياً، شنّ الديمقراطيون حرباً ضروساً على النفط بعد ربطه بالتغيّر المناخي. برأيهم: وقف التغيّر المناخي يتطلب وقف إنتاج النفط واستخدامه!
ثم قام الجمهوريون، بخاصة "المحافظين الجدد" منهم بالربط بين النفط والإرهاب، فشنوا حرباً على النفط ومنتجي النفط: وقف الإرهاب يتطلب وقف الاعتماد على النفط!
ثم قامت فئة ثالثة، ما بين الاثنين، بالربط بين النفط والديكتاتورية، فشنّت حرباً ضد النفط، على أساس أن "إنهاء الدكتاتورية وتحقيق الحرية والديمقراطية يتطلب وقف الاعتماد على النفط".
هذا التبسيط والتسطيح للأمور مضر بالجميع! إذا كان إلغاء الاعتماد على النفط سيحل مشاكل العالم السياسية والاجتماعية والبيئية، ما أسهله وما أجمله من حل! إلا أن سياسات وقف التنقيب على النفط ستجر العالم إلى كوارث اقتصادية وسياسية وبيئية. وسيجبر ارتفاع أسعار النفط الناس في بلدان عدة على قطع أشجار الغابات للحصول على الحطب كوقود، واستخدام روث الحيوانات كوقود للتدفئة والطبخ. كما أن نقص المنتجات النفطية سيسبب نقصاً في الأسمدة، الأمر الذي يرفع أسعارها بشكل كبير، وبالتالي تزيد كلفة المواد الغذائية.
تحظّر اتفاقات دولية استخدام الأطفال كجنود في الحروب، ولكن ذلك لا يشمل الحروب الفكرية! قلّة ينكرون وجود التغيّر المناخي، إلا أن الخلاف الكبير لا يزال حول أمرين: الأول، هل سبب التغير المناخي هو النشاط الإنساني أو أنها دورة طويلة المدى تحصل تلقائياً كجزء من حياة الأرض؟ والأمر الثاني، هو أنه إذا كان السبب هو النشاطات الإنسانية، فما هي الكلفة التي يجب أن تتحملها الإنسانية لوقف التغيّر المناخي أو التخفيف منه مقابل المشاكل التي ستعاني منها الإنسانية؟
بشكل عام، يتم استغلال العواطف عند الحديث عن حماية البيئة والتغير المناخي، علماً أنه تم التوقف عن استخدام تعبير "الاحتباس الحراري" واستُخدم بدلاً منه تعبير "التغيّر المناخي" بعد فشل مَن ينادون به في تفسير انخفاض درجات الحرارة في أماكن عدة. ولهذا تم التركيز على الأطفال في المدارس، وتم تجييش بعضهم، لمحاربة النفط والوقود الأحفوري باسم البيئة والتغيّر المناخي. وأصبح بعض الأطفال وجهاً عالمياً لحركات حماية البيئة، يرددون ما يقول لهم الكبار.
وأذكر يوماً قصةً ذكرها لي أحد رؤساء شركات النفط الصخري أنه عاد إلى البيت بعد يوم شاق، فلم تلقَهُ ابنته ذات الثماني سنوات، وهي في الصف الثالث الابتدائي، عند الباب، وعندما ناداها لم ترد عليه. أخبرته الأم أن البنت أتت باكية من المدرسة، وأنها في غرفتها! لماذا؟ لأنه تم إقناعها بأن النفط سيء جداً، وأن شركات النفط مجرمة، وأن منتجي النفط يدمّرون العالم، واستنتجت الفتاة أن أباها سيء جداً! جنّ جنون الأب، فذهب إلى المدرسة في اليوم التالي، وبعد نقاش مع المسؤولين والمدرسين، قرّر أن ينقل ابنته إلى مدرسة أخرى.
خلاصة الأمر أن هناك حرباً شعواء على النفط، من دون أن يدرك الناس معنى هذه الحرب وتكاليفها. إن تمركز الاقتصاد العالمي حول النفط لم يأتِ من فراغ، وإنما لسبب بسيط: بحثت الإنسانية على مدى آلاف السنين عن مصدر للطاقة تتوافر فيه صفات معينة مثل كونه كثيفاً، صغير الحجم نسبياً مقارنة بكمية الطاقة فيه، يُقسَّم إلى كميات صغيرة ويُنقَل بسهولة، ويوجد في أماكن كثيرة. هذه الصفات لا تتوافر حالياً إلا في النفط (طبعاً تتوافر في الطاقة النووية إلا أنه لا يمكن انتشارها عالمياً مثل النفط لأسباب سياسية واقتصادية).
هذه السياسات المعادية للنفط تتطلب موقفاً حاسماً من الدول المنتجة للنفط، يتطلب على الأقل رفع مستوى الثقافة النفطية، بخاصة في مدارسها وجامعاتها، قبل غسل عقول الطلاب في عقر دار الدول النفطية، وتجنيدهم ضد النفط. لا شك في أن للنفط مساوئه ومشاكله، إلا أننا بحاجة إلى معالجة الأمور بطريقة أكثر منطقية وعقلانية، بعيداً من العواطف. وهذه المعالجة لا تتم من دون توفير المعلومات والبيانات اللازمة لأكبر شريحة من الناس.