Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حافظ الشيرازي في ديوانه الفريد: حين تصبح الخطيئة طريقا للنقاء

الألماني غوته ينظر إليه باعتباره شاعر الزهو بالحياة بعيداً من صوره السائدة كمتصوف

الشاعر حافظ الشيرازي كما صورته رسوم معاصرة له (مواقع التواصل)

ملخص

ما يعبر عنه حافظ هنا هو الفلسفة الذاتية التي توصل إلى صياغتها والعيش في أحضانها وفحواها أنه لا شيء جدير باهتمامنا في الحياة سوى الحياة نفسها

هي قصيدة كتبها صاحبها في اللغة الألمانية، لكنها أتت موجهة إلى ذلك الأستاذ الذي يعترف كاتبها بأنه قد افتتن به إلى درجة أنه تعلم الفارسية كما تعلم العربية (في مناسبة أخرى قد لا تكون بعيدة من افتتانه هو الآخر بالشعر العربي والثقافات المشرقية)، كي يستمتع بقراءتها، ومن ثم يكتب استيحاءً منها قصيدته على منوالها تحاول أن تدنو منها، وهي تلك القصيدة التي يقول كاتبها، "لقد عرفت ما يريده الكل وفهمته خير فهم، لأن الحنين يقيدنا جميعاً بأصفاد شداد من التراب إلى العرش. إنه يؤلم أولاً، ومن بعد يسر، فمن يقوى على مقاومته؟ ألا فلتغفر لي أيها الأستاذ، فأنت تعرف أني كثيراً ما أضل الطريق، حين يجذب البان السائر إليه عين العاشق الناظر".

والحقيقة أن المطالعين لشعر كاتب ألمانيا وشاعرها وفيلسوفها الكبير غوته يعرفون أن هذه السطور مأخوذة هنا من قصيدته "إلى حافظ" التي كتبها في عام 1818، ونشرت للمرة الأولى في "الديوان الشرقي". ويومها علق غوته على هذه القصيدة بقوله، "إن شاء الخبراء أن يروا صورة حافظ في هذه القصيدة، فإن هذه المحاولة ستسر قلب الغربي"، ذاكراً في المناسبة نفسها أنه ليحب أن يرى قراؤه في قصيدته هو الآخر عن حافظ صورة له (أي لغوته).

ولئن كان "الغربي" المعني هنا هو غوته نفسه، باعتباره صاحب "الديوان الشرقي للشاعر الغربي"، فإن "حافظ" إنما هو حافظ الشيرازي، شاعر الفرس الأكبر، والذي كان اكتشافه في الغرب شكل صدمة إيجابية مدهشة، ولم يكف منذ ذلك الحين عن أن يكون وشعره، محل شتى التفسيرات ومحط إعجاب كان جزءاً من نزعة رومانطيقية استشراقية عامة.

صوفي أم بوهيمي؟

إذاً، كان غوته من أكبر المعجبين بحافظ، إذ خصه بقسم كبير من ديوانه، واضعاً كنوع من التكريم المعبر عن ذلك الإعجاب، قصائد عدة في ذلك القسم الذي عنونه "حافظ نامه" أو "كتاب حافظ".

 وغوته في تلك القصائد فسر حافظ وأعاد تفسيره، وعارض نفسه بنفسه في أحيان كثيرة. وهو إذ فعل هذا إنما عكس ذلك التناقض الذي حملته على الدوام النظرة إلى حافظ: فهل كان شاعراً صوفياً كما رأى كثر، أم كان شاعراً بوهيمياً؟ وهل حالات العشق والمجون التي عبر عنها ودعا إليها في أشعاره، حالات مباشرة، أم رمزية على غرار ما كان يفعل الصوفيون؟

كان ما أعجب غوته في حافظ، كما يقول عبدالرحمن بدوي في تقديمه لترجمته العربية للديوان الشرقي، إقبال حافظ على السرور "وعلى التمتع بكل ما تأتي به اللحظة الحاضرة واللحظة الماضية في اللحظة الحاضرة. كما استهواه فيه سخريته من الزاهدين العازفين عن الحياة، فقال إن شعره تفيض منه حيوية متدفقة في غير إسراف، سعيد حكيم يأخذ بحظه من متع الحياة، وينفذ من بعيد إلى طوايا الألوهية، ولكنه ينكر اللذة الحسية وممارسة الشعائر الدينية. وبالجملة يكشف عن أثر شاكٍّ وحميّا قلقة.

إلى هذه الصفة الأخيرة من الأثر الشاك والحميّا القلقة في نفس حافظ يعزو غوته ما يشاهد في شعر حافظ من تناقض". يضيف بدوي أنه "على رأي غوته، يكون علينا أن نأخذ بما يقتضيه صريح كلام حافظ، وألا نلجأ إلى التأويلات الخيالية التي تحيل الظاهر إلى باطن وكل صريح إلى رمز. وإن كان هذا لا يمنع من تعمق المعاني التي يوردها، وعدم أخذ النص بحروفه".

 

"عندليب الغرب"

عرف مجمل الشعر الذي أثر عن حافظ بـ"ديوان حافظ"، كما أن حافظ نفسه عرف دائماً بلقب "عندليب الغيب". وحافظ وضع قصائده الكثيرة التي يتألف منها الديوان عند أواسط القرن الـ14، لكن لم يكن هو من جمعها في "الديوان"، بل كان ذلك من عمل دولت شاه في القرن الـ15.

عمد دولت شاه إلى وضع أول تفسير لأشعار معاصره المبدع، ولكن كان في ذلك التفسير من الغموض ما أكد أن حافظ نفسه لم يكن له كبير الاهتمام بأن تفهم أشعاره، وذلك لأن "الحب والثمالة سران لا يتعين ابداً الكشف عنهما"، إذ إن شرح هذين أمام "الجماهير العريضة، أمر لا يمكن أن تقوم به حتى ألسنة الملائكة".

يتألف "ديوان حافظ" من بضع مئات من القصائد التي تتفاوت طولاً وفي معانيها، لكن القسم الأكبر منها ينتمي إلى شعر الغزل. والقصائد في مجملها تعبر عما تريد قوله، بحب وحماسة، وفي لغة جذلة وتركيب متميز، وخصوصاً بل واضح لا يتسم به ما يكتبه الصوفيون عن شؤون ذلك "الثلاثي الفكري" عادة: الحب والخمر والطبيعة وعناصرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعل العنصر الأساس من عناصر الطبيعة هنا هو "القمر الذي يتوسط كبد السماء مشعاً نوره على الكون متألقاً في ذاته غير مبال حتى ولا بالزهور التي تضخه بعطرها أو بالعنادل التي تتوجه إليه بغنائها". والقمر هنا، تحت يراع حافظ، يبدو شبيهاً بزليخة (أو سليمى في بعض الأحيان) رامزاً إليها. وزليخة هي المرأة التي يحبها حافظ، ويعيش ملتاعاً لأنها لا تعبأ بحبه تماماً كما لا يعبأ القمر بما حوله.

حافظ يتفنن في كل قصيدة من قصائد ديوانه بتصوير حدائق الورد وطيران الحمام في الأعالي. ومن الواضح أنه يرسم هذا كله ليحيط به جمال محبوبته البعيدة المنال. المحبوبة التي هي من الحسن بحيث إن "الكون الذي يبدو كعبد أسود في خدمتها، يمد إليها مرآة لكي تتملى هي نفسها في كل لحظة من جمالها".

توق المكتهل إلى حياة وادعة

غير أن المتحدثين عن هذه القصائد والقدر الهائل من الحب الذي يملؤها ينبهوننا إلى أن ما يعبر عنه حافظ، ليس الشغف القاتل، بل الرغبة، وهو بات على أعتاب الكهولة، في أن يعيش بهدوء ودعة.

ما يعبر عنه حافظ هنا هو الفلسفة الذاتية التي توصل لصياغتها والعيش في أحضانها، وفحواها ألا شيء جديراً باهتمامنا في الحياة سوى الحياة نفسها. أما الباقي فليس سوى طريق يوصلنا إلى الحقيقة الوحيدة: الموت.

 

ولعل ما يلفت هنا هو أن حافظ لا يكف عن تشبيه الخطيئة بامرأة ساحرة مشتهاة، بينما الفضيلة بالنسبة إليه تشبه هيكلاً عظمياً مرعباً. إذ، بالنسبة إليه قد يكون أمراً رائعاً أن نصل إلى الفضيلة المطلقة، وإلى النقاء التام، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نخطئ ونثمل ونحطم النقاء حتى ندركه وندرك دلالته.

سيرة الكون وما وراءه

حافظ، واسمه الكامل محمد شمس الدين حافظ الشيرازي نسبة إلى مدينته شيراز، ولد عام 1325-1326، في شيراز التي سيموت فيها بين عامين 1389-1390. وتلقى فتياً دراسة دينية لا تقليدية، ثم أصبح مدرساً للقرآن الكريم ومفسراً له، ثم انصرف إلى الشعر حتى صار شاعراً رسمياً في بلاط أمراء شيراز خلال عقود طويلة من السنين، لكنه ذات مرة أغضب الأمير كما يبدو ما جعله يستبعد عن البلاط طوال 20 سنة، وبعد ذلك، وحين بدأت الغزوات المغولية، التقى تيمورلنك، كما يبدو.

ويعكس بعض شعر حافظ على أية حال، وهذا بالتأكيد أمر يبتعد بذلك الشعر عن أن يكون شعراً صوفياً منزهاً عن الراهنية بالتأكيد، أحداثاً تاريخية عاشها وصدى لقاءاته مع الشخصيات المهمة في زمنه، كما يعكس نظرته الأخلاقية والفكرية ونقده الحاد للذهنيات في زمنه، وهو الذي كان أشد ما يؤلمه عالم النفاق الذي كان يسيطر على كبار القوم في ذلك الزمن، كما كانت التفاهة تؤلمه.

ومن الواضح أنه جعل من شعره صدى لذلك كله، كما أن ذلك الشعر الذي لم يكف عن كتابته يوماً خلال حياته، كان يحمل نظرته إلى الكون وإلى ما وراء الكون، بحيث يبدو في نهاية الأمر وكأنه سيرة ذاتية له، وسيرة ذاتية لموقع الإنسان في هذا الكون.

المزيد من ثقافة