ملخص
كتابات الفيلسوف ياكوب لِنتس السياسية مهرت الحركة الأدبية الألمانية وأضفت عليها طابعاً نضالياً
انفرد الشاعر المسرحي الأديب الألماني ياكوب لِنتس (1751-1792) بعنفوان كتاباته السياسية التي مهرت الحركة الأدبية الألمانية "العاصفة والاندفاع" (Sturm und Drang)، وأضفت عليها طابعاً نضالياً قلما نعثر عليه في نصوص أدباء الحركة الآخرين. وُلد في مدينة زِسڤِغن في ليڤونيا على الشواطئ الشرقية من بحر البلطيق. كان والده قسيساً يخدم رعية المدينة. فإذا بالشاب الورع ينخرط في دراسة اللاهوت المسيحي في مدينة كُنيغسبرغ التي استمع فيها إلى محاضرات كانط الفلسفية. ذلك بأنه حصل على منحةٍ دراسيةٍ أهلته لدخول جامعة كُنيغسبرغ ومتابعة أمليات كانط الجامعية. أُعجب أيما إعجاب بالفيلسوف النقدي هذا، فأهداه قصيدةً من مجموعة القصائد التي نشرها في عام 1770. وما لبث أن اختلط بالأوساط الثقافية الأدبية واختلط بأعضاء جمعية الفلسفة والآداب في المدينة نفسها، وصادق الأديب الألماني غوته (1749-1832) صداقةً شغفيةً تزينت بمراسلةٍ كثيفةٍ استمرت زهاء ثلاث سنوات.
انتقل في عام 1771 إلى مدينة ستراسبور، وأقام فيها ثلاث سنوات يُشرف على تنشئة أولاد الأسَر الغنية ويرافق نبيلَين من نبلاء أسرة فون كلايست. شاءت المصادفة أن يلتقي في ستراسبور غوته والروائي التقوي الألماني يوهان هاينريش يونغ-شتلينغ (1740-1817)، ويتأثر بحركة "العاصفة والاندفاع" الناشطة في المدينة. بفضل العلاقة التي ربطته بغوته، تعرف إلى عشيقة الأديب السابقة فريدريكِه بريون، فهام بها هياماً شديداً من غير أن تبادله الحب عينَه. وما لبث أن انصرف عنها إلى شقيقة غوته كورنليا شلوسر التي التقاها عام 1775، ولكنها توفيت بعد سنتَين من جراء حمْلٍ عسيرٍ وولادةٍ مُنهكةٍ.
رافق لِنتس غوته إلى ڤايمار، وطموحُه أن يحظى بمنصبٍ رفيعٍ في بلاط الأمير. بفضل الصداقة التي نشأت بين الرجلَين، حرص غوته على مساعدة صديقه الطموح وحث الأصدقاء على الاعتناء به. بيد أن الأمور لم تَسر سيراً حميداً بسببٍ من طباع لِنتس المتقلبة. فانفرط العقد وتخاصم الأديبان وتباعدا، من بعد أن نعت غوته صديقه بالأحمق المتحمرن (Eselei). اضطر لِنتس إلى مغادرة ڤايمار والالتجاء إلى شقيقة غوته وزوجها يوهان غيورغ شلوسر في مدينة إمندينغن بولاية بادن-ڤُرتمبرغ. ولكنه عاد فانتقل إلى سويسرا ليقيم في صحبة كريستوف كاوفمان، تلميذ الشاعر الفيلسوف اللاهوتي عالم الطباع المرتسمة على الوجوه السويسري يوهان كاسبر لاڤاتر (1741-1801).
الاعتلال النفسي والتشرد العبثي
في هذه الأثناء طفق لِنتس يعاني بعضاً من الاضطراب العقلي أفضى به إلى التخلي عن حياته الشخصية المستقلة والارتباط ببعض الأشخاص الذين تعهدوا بالسهر عليه ورعايته ومواكبة مرضه النفسي. أقام فترةً وجيزةً في رعاية القسيس البروتستانتي يوهان فريدريش أوبرلين في ڤالدرسباخ في وادي الكرمة الشهير شتاينتال بالقرب من مدينة كُنيغسبرغ. بعد زهاء ثلاثة أسابيع، استجمع القسيس معايناته وملاحظاته ودونها في تقريرٍ شبهِ طبي استند إليه الأديب المسرحي الألماني غيورغ بُوشنر (1813-1837) في مسرحيته الشهيرة "لِنتس" التي أنشأها عام 1835.
ما إنْ غادر لِنتس بيت القسيس حتى يمم شطر يانا بألمالينا ومن ثم بازل بسويسرا، وقد حظي بمساعدةٍ ماليةٍ وهبه إياها دوق ڤايمار. حين ساءت أحوالُ الأديب النفسية وأوشكت قواه العقلية أن تنهار، اصطحبه شقيقُه كارل إلى المنزل الأبوي في ليڤونيا. ولكنه لم يمكث طويلاً في البيت، بل آثر التنقل الحر بين ريغا وبترسبورغ حتى استقر به المقام الأخير في موسكو عام 1781. فطفق يعمل مترجماً في النهار ومدرساً في إحدى المؤسسات التربوية الخاصة، ويتشرد في الليل، تتغالب عليه آفاتُ المرض والفقر، وتُرهقه جلساتُ الإدمان على الخمرة، حتى عثر عليه الناسُ ميتاً في الشارع في صباح الرابع من حزيران (يونيو) 1792، وقد ارتسمت على وجهه أماراتُ السكر المفرط.
باقة الأعمال المسرحية والروائية
تنطوي أعمال لِنتس على أربع مجموعات تتصدرها المسرحيات التي أنشأها في فترة زمنية قصيرة امتدت على ثلاث سنوات (1774-1776): "مربي القصر" أو "منافع التربية الخاصة" (Der Hofmeister oder Vorteile der Privaterziehung)؛ "الجحيم الألماني" (Pandämonium Germanicum)؛ "مِنوتسا الجديد" (Der neue Menoza oder Geschichte des cumbanischen Prinzen Tandi)؛ الجنود (Die Soldaten)؛ "الأصدقاء يصنعون الفيلسوف" (Die Freunde machen den Philosophen). كذلك كتب لِنتس بضعَ روايات منها الروايتان الشهيرتان: "تسربين" (Zerbin oder die neuere Philosophie)، و"واعظ الأرياف" (Der Landprediger). من أشعاره مجموعة "إلى القلب" (An das Herz). أما أبحاثه الفكرية فاشتهرت منها "ملاحظاتٌ في المسرح" (Anmerkungen übers Theater)، و"تأملاتٌ في الأخلاق والدين" (Versuch über das erste Prinzipium der Moral).
أثارت أعمال لِنتس إعجاب كوكبةٍ من الأدباء، وفي طليعتهم غيورغ بُشنر وبرتولت برشت (1898-1956) الذي أخرج عام 1950 مسرحية "مربي القصر" (Der Hofmeister). في مسعى برشت هذا تعتلن المقاصد الأدبية الحميدة التي كانت تدفعه إلى تعزيز مقام الأدب الألماني وتثمين مساهمة لِنتس في ترسيخ بدايات التيار الكلاسيكي الذي هيمن عليه في ما بعد غوته وشيلِر. فضلاً عن ذلك، وضع لِنتس لحركة "العاصفة والاندفاع" دستورَها الأدبي واستجمع أحكام الإصلاح المسرحي المقترَح في كتاب "الملاحظات" الذي أنشأه من أجل استطلاع أشكال المسرح الدرامي الجديدة، وقد انتظمت وفقاً لأصول الخلط بين الأجناس الأدبية، والمزاوجة بين المأسَويات والهزليات، والإعراض عن مبدأ الوحدة المكانية والزمانية.
العلاقة الملتبسة بين لِنتس وغوته
من عام 1774 إلى عام 1776 اختبر لِنتس شهرة الأديب المشارك في تأسيسِ مذهبٍ أدبي جديدٍ، مرافقاً صديقَه غوته ومستنداً إلى شهرته التي طبقت الآفاق. لذلك حين انتقل إلى مدينة ڤايمار، أدرك الجميع أنه حظي بالرفعة الأدبية التي كان يتوق إليها، إذ استدعاه بلاط الأمير إلى عاصمة الأنوار المتلألئة عصرَذاك بأبهى أعلام الأدب والفكر. على الطريق الذي قاده إلى عاصمة الإبداع خرجت المدُن لتحييه وتغمره بآيات الإكرام. وما إنْ وصل إلى ڤايمار حتى اصطحبه غوته إلى البلاط وأشاد أمام الأمير بخصائله وأفضاله. في غمرة التمجيد الاستثنائي هذا، لم يستطع لِنتس أن يضبط أعصابه ويلتزم أرض الواقع، فأخذ يحلق في سماء الأوهام المثالية، وفي ظنه أنه بلغ قمة النبوغ. استمر على هذه الحال طوال شهرين، قبل أن ينهار انهياراً نفسياً حاداً، وكأنه لم يقوَ على تحمل وهم نجاحاته التي بهرته قبل أن تبهر الآخرين، فأعمته وجعلته يضل السبيل. من نتائج هذا الانهيار انطواءٌ مرَضي على الذات، واسترسالٌ في التبلد الخبَلي، وعزلةٌ قاتلةٌ أفقدته حصافةَ القول وحسنَ السلوك. فتعاظمت هفواتُه وتفاقمت سقطاتُه، حتى دخل في مخاصمةٍ حادةٍ أفقدته صداقة غوته وأبعدته عن أوساطه الأدبية.
استولت على لِنتس، في أثناء مرافقته غوته، رغبةٌ جامحةٌ في الارتقاء إلى مستوى الأديب الشهير ومضاهاته في الإبداع الأدبي. فإذا به يستثير سخرية الأوساط الأدبية لشدة ما تفانى في تقليد غوته، سواءٌ من حيث أسلوب الكتابة أو من حيث نمط العيش، حتى إن الناس أضحوا يشاهدونه مقتفياً آثار المثال الأعلى في مدينة ستراسبور وفي بلاط ڤايمار. في بداية الأمر، لم ينزعج الأصدقاء من غرابة هذا المسلك، بل رأى فيه بعضُهم تصرفاً بريئاً طوبَوياً. غير أن الأمور تفاقمت خطورتُها حين غضب دوق ڤايمار من نظمٍ شعري عديم الفطنة أتى به لِنتس إلى البلاط، فاستجلب عليه النقمة والطرد الفوري من النعيم.
أجمعت الأوساط الأدبية على عبقرية لِنتس، لا سيما في السنوات التي شهدت نبوغَه الأدبي وغزارة إنتاجه (1772-1776)، إذ عده الناس من ألمع رواد حركة "العاصفة والاندفاع". علاوةً على ذلك، عززت صداقة غوته مقامَه الأدبي الرفيع هذا، حتى اليوم الذي نشب فيه الخلاف بينهما وترسخت القطيعة. فإذا بالأديب المضطرب يختبر أقسى ألوان العزلة التي ألقت به في غياهب الظلام واليأس، وحولت أعمالَه إلى أثرٍ مندرسٍ لا يستثير الفضول. أما الصورة القاتمة التي استقرت في أذهان الناس، فتلك التي وضعته إما في هيئة المريد الخانع الخاضع لسطوة معلمه ومرشده غوته، وإما في مرتبة الممهد الذي أعد سبيل النابغين من أمثال غيورغ بُشنر، أو الأديب المسرحي الألماني كريستيان ديتريش غرابه (1801-1836)، أو الشاعر المسرحي الألماني فرانك ڤدكيند (1864-1918)، أو حتى برتولت برشت نفسه. غير أن الأوساط الأدبية الألمانية عادت فاكتشفت مقامه الاستثنائي، وعاينت خصائص إنشائه المتميز، فاجتهدت في إكرامه الإكرام اللائق.
ترصد تقلبات النفس الإنسانية
لا شك في أن أبرز ما يستوقف القارئ حداثة الإنشاء في نصوص لِنتس التي غلبت عليها جرأةُ الابتكار. ذلك بأن مسرحياته التي لم يُنهِ منها إلا ثلاثاً اتصفت معظمها بالأداء الدرامي المتقن، والأسلوب الوجيز الإيحائي، والنبرة الفظة المتوعرة. فضلاً عن ذلك، كان شديد الحرص على أن يسكب نصوصه المسرحية في قالبٍ تعبيري يكشف ببراعةٍ مذهلةٍ مطاوي النفس الإنسانية التي تحتضنها صدورُ أبطاله المصابين بأشد ضروب التقلب المزاجي حدةً، وأقسى أصناف المخاصمات الإنسانية إيلاماً، وأعنف ألوان النزوات الاندفاعية جيشاناً. الحقيقة أن الشخصيات التي نحت لِنتس طباعَها تظهر علينا وقد صعقتها أهواءُ الباطن الإنساني المضطرم بأشد أنواع التنازع الالتهامي، تنفجر انفجاراً مباغتاً وتسطو على الوعي، ولا تلبث أن تهمد وتخبو وتنطفئ من غير استئذان.
من الواضح أن مثل الوصف المسرحي هذا يعبر عن المعاناة النفسية التي انتابت لِنتس وأرهقت كيانه الجواني. فإذا بالجنون يجتاح مسرحه اجتياحاً خفراً يجعله متخفياً في المواقف والأقوال والأفعال التي تُفصح عن تصورات الأديب المتناقضة. تارةً نراه يمتدح الجنس ويمجد شغف الإنسان الشبقي، وتارةً نعاين الرعب الذي يستثيره الجنسُ في وعينا المضطرب. المثال على ذلك مأساة المربي لويفر (Läuffer) الذي اقتص من نفسه اقتصاصاً مؤلماً حين أقدم على إخصاء ذاته وقطع حبل الإنجاب في جهازه التناسلي من بعد أن هيمن عليه هوسُ سفاح القربى. تتكرر الوضعية عينُها حين ينبجس من صلب المشاهد المسرحية صوتٌ كهفي يحول النصوص الهزلية إلى إيماءاتٍ مأسَويةٍ حزينةٍ. من أجل التغلب على الرعب والقلق والإحباط، كان لِنتس يصر على إقحام الهزل في لجة الارتطام المأسَوي، بحيث تنغمر الحياة بأظلالٍ رماديةٍ تمنع علينا استجلاء الحقيقة وتُغلق باب الشفاء الكياني.
ليس لنا من شهادةٍ أبلغ من تلك التي استودعها غوته مذكراتِه في كتاب "شعرٌ وحقيقة" (Dichtung und Wahrheit)، إذ صرح في الفصل الرابع عشر بأنه لم يشعر بالمودة الحق في علاقته بالأديب الذي كانت عبقريتُه سبباً في آلامه، وهو يشير إلى العلاقة المضطربة التي ربطته بلِنتس في بلاط ڤايمار. ذلك بأن الصداقة العابرة هذه كشفت لغوته عن جسامة الخلل النفسي الذي أصاب لِنتس إصابةً جعلته في نظره مثالَ الكائن الذي يعذب نفسَه، أو الكائن الذي يجسد العذابُ جوهرَ كيانه. أما الخلاصة التي خرج بها غوته فتدل على أن الإنسان المضطرب يُفضي إلى اختبار الألم في كل معاينةٍ ذاتيةٍ، بحيث يتحول التحليلُ الذي يسوقه هذا الإنسان بشأن شخصيته إلى عاملٍ جليلٍ يبعث على العذاب الوجودي. وعليه، يضحي لِنتس تعبيراً مَرضياً بليغاً عن الفردانية المعاصرة المتألمة.
مسرحية "مِنوتسا الجديد": تَساكن الفرح والحزن في حياة الإنسان
تنعقد هذه المسرحية على خصوصيةٍ بارزةٍ تجعلها الأفصح تعبيراً عن شخصية لِنتس، والأشد تجرداً عن ملابسات الواقع الحسي الملموس، والأعمق انفصالاً عن أسلوب الدراما الواقعية التي اشتهرت بها حركة "العاصفة والاندفاع". من مفارقات هذا العمل أن الصديق غوته، قبل التصادم والتباعد، اجتهد بنفسه في العثور على ناشرٍ يضطلع بطباعة نص المسرحية. أما عنوانها فيُحيل على رواية الكاتب الدنماركي الأسقف اللوتري إريك بونتوبيدان (1698-1764) "مِنوتسا" (Menoza). من المحتمل أن يكون لِنتس قد استوحى العنوان، وأضاف إليه صفة الجديد (Der neue Menoza).
تجري أحداث الرواية في مدينة ناومبورغ (ولاية ساكسون-أنهالت، وسط ألمانيا) حيث يستضيف القائد فون بيدرلينغ صديقاً يزوره في منزله يُدعى الكونت كامِليون. يعقد الاثنان العزم على الاستثمار في مشروعٍ اقتصادي من أجل تعزيز أرباح القائد. غير أن الكونت المتحدر من أسرة النبلاء لم يكن يشعر بالأمان، إذ إنه كان هارباً من عدالة الناس بعد أن قتل نبيلاً آخر في معاركةٍ عنيفةٍ. في هذه الأثناء، صادف أن مر على المدينة أميرٌ من أمراء المغول القاطنين في روسيا يُدعى تاندي، يروم أن يجول ويسوح في أنحاء أوروبا ويتنعم بجمالاتها الحضارية والمعمارية. وكان القائد أيضاً قد أنبأ امرأته بزيارة صديقه الإيطالي فون تسوبف القادم من إيطاليا لزيارة الأسرة. غير أن امرأة القائد انتفضت وغضبت، إذ إن فون تسوبف هذا تسبب لها بوفاة ابنها في زيارتهما مدينة إزمير. لم يستحسن القائد الغضوب موقف امرأته وتمردها على تدبير الاستضافة، فإذا بالمشاجرة تبلغ ذروتها بين الزوج والزوجة وتستدعي تدخل الابنة ڤيلهِلمين التي كانت تعاين في الزائرَين خِطيبَين محتملَين يرومان الاقتران بها، وهما الكونت كامِليون والأمير المغولي تاندي.
وسرعان ما تدور المسرحية الهزلية هذه حول تردد الابنة التي لم تكن تستطيع بت المسألة وحسم الاختيار. ذلك بأن طالبَي القرب كلَيهما ثري ووسيمٌ وظريفٌ. وبما أن الوالدَين تركا لها حرية الاختيار، فإن الرعشة أخذت تنتابها حتى أفضت بها في البداية إلى العزوف عن الزواج والاحتماء بالعزوبية. ولكنها ما لبثت أن أباحت للأمير المغولي بحبها، وفتحت له نوافذ فؤادها. فامتلأت حياة الاثنَين بالسعادة. بيد أن الكونت لم يستسلم، بل أصر على الاقتران بها على رغم العوائق. فإذا به يشتبك مع الوالد ويخاصمه.
بعد اقتران الأمير بابنة القائد وصل الصديق الإيطالي فون تسوبف، وأبلغ الأمير بأنه، في حقيقة الأمر، ابنُ أسرة فون بيدرلينغ وشقيقُ ڤيلهِلمين. غير أن الأمير غضب واضطرب، إذ إن فون تسوبف كان قد اصطحب الابن الفقيد إلى زيارة الأماكن اليونانية الأثرية في تركيا، ولكنه لم يُعِده إلى أهله بعد انتهاء الزيارة. في إثر ذلك، غادر الأمير الغاضبُ إلى لايبتسيش تاركاً وراءه الزوجة الشابة في حيرةٍ من أمرها، وقد علق فؤادُها به وعشقته عشقاً شديداً. عاينت الوالدة شقاء ابنتها، فاستشاطت غيظاً، ونعتت الأمير بالمسخ البهيمي والخائن الفار، وقد استذكرت كيف أن ابنها غادر المنزل الوالدي من غير أن يودعها. لذلك أقنعت ابنتها ڤيلهِلمين بأن تكره الزوج الخائن هذا، وتستأصله من ذاكرتها الطرية. في هذه الأثناء، تَبين أن الكونت كان قد اقترف الزنى مع امرأةٍ إسبانيةٍ من طبقة النبلاء تُدعى دونا ديانا كانت تحيا في مدينة دريسدن الألمانية. وما إنْ أتت ديانا هذه لزيارة أسرة فون بيدرلينغ حتى فضحت خادمتُها بابِت أصلَ ڤيلهِلمين الإسباني، إذ إن هذه الخادمة كانت قد وضعت الطفلة ديانا موضعَ الطفلة ڤيلهِلمين، مستبدلةً الواحدة بالأخرى من غير أن تُطلع الأهل على خطتها هذه. تتعقد الأمورُ وتضطرب العلاقاتُ، إذ ينكشف للجميع أن الأمير تاندي ليس شقيقَ ڤيلهِلمين، بل شقيقُ دونا ديانا. في نهاية المسرحية، تحاول ديانا أن تقتل الكونت. ومع ذلك، يحظى الأمير وڤيلهِلمين بخاتمةٍ سعيدةٍ تناقض مشهد القتل البشع. على هذا النحو، تَظهر المسرحية في هيئة المزاوجة المربكة بين الحدث المأسَوي والحدث المبهِج.
مسرحية "الجنود": انتهازية الأغنياء مقابل طموح الفقراء
اللافت في المسرحية المأسَوية الهزلية هذه أنها حظيت بشهرةٍ عظيمةٍ وإخراجٍ متواصلٍ لم تنعم بهما مسرحياتُ لِنتس الأُخَر. علاوةً على ذلك، يظهر أثرُ شكسبير (1564-1616) في حبك أحداثها ووصف شخصياتها الأساسية. تدور معظم وقائعها في منطقة الفلاندر الفرنسية في شمال فرنسا، وتستحضر قصة صبيةٍ تُدعى ماري ڤيزنر كانت تغازل ضابطاً شاباً من أسرة دِبورت ما لبث أن قطع علاقته بها، فوصمها بوصمة العار وجعل المجتمع يَنعتها بالساقطة العاهرة. من غرابة القصة الغرامية هذه أن ماري ابنة التاجر شرعت في معاشرة الضابط من بعد أن خطبها تاجرُ ألبسةٍ من أسرة شتولتسيوس.
في بداية الأمر رفض والدُ ماري العلاقة الجديدة، ولكنه سرعان ما أدرك المنافع الاجتماعية التي يمكن أن تنجم عن ارتباط ابنته بشاب ضابطٍ تُعد له الحياة أرفعَ مراتب الارتقاء والشهرة. فلم يتردد الأب الانتهازي في مساعدة ابنته ونصحها حتى تتمكن من التملص من ارتباط الخطوبة. ولكن الخيبة كانت عظيمة، إذ لم تدم العلاقة الجديدة طويلاً، فانفصل الضابط عن ماري التي سارعت إلى معاشرة ضابطٍ آخر. في هذه الأثناء، تعاظمت انتقادات المجتمع، لا سيما بعد أن التقت ماري الكونت الشاب دُلاروش الذي حرصت أمه الفطنة على استضافة الصبية المضللة ووضعها في عهدتها وحمايتها حتى لا يضطهدها المجتمع ويقسو عليها بالضرب والإقصاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دخلت ماري في حماية والدة الكونت، بعد أن ارتضت أن تكف عن معاشرة الرجال طوال سنةٍ كاملةٍ. ولكنها لم تفِ بوعدها، بل واصلت مواعدة الضابط الثاني الذي حل محل الأول. وما لبثت الراعيةُ النبيلةُ أن فضحتها وباغتتها بالزنى المشهود، فاضطرت إلى الفرار والتشرد، بحيث إن الضابط الثاني الذي كان قد اقتنع بالاقتران بها عاد فغير رأيه وانتبذها من بعد أن علم أنها كانت تواعد الكونت الشاب. عادت ماري إلى البحث عن عشيقها الأول الضابط دِبورت، ولكنه غدر بها وأسلمها إلى صيادٍ كان يروم أن يضاجعها خلسةً. غير أن ماري كشفت الخطة وأخبرت عشيقها الثاني تاجر الألبسة شتولتسيوس الذي سارع إلى دس السم في جسد الضابط دِبورت. في إثر ذلك، حقدت ماري على الشاب شتولتسيوس وأرادت الانتقام منه. إلا أنه سمم نفسَه أيضاً وانتحر خوفاً من القصاص. قبل أن يلفظ أنفاسه، نسمعه يقرع رهط الضباط الذين لا يتورعون عن إغواء الشابات البريئات والتمتع بأجسادهن قبل أن يُلقوا بهن في حلبة الفضيحة والتشهير والشتيمة، ويخرجوهم من دائرة الاجتماع الإنساني السوي.
بعد أن سمع الوالد بأخبار ابنته ماري المأسَوية، سارع إلى انتشالها من وهدة الذل وسحبها من شارع الدعارة. أما في خاتمة المسرحية فيصور لنا لِنتس مشهد الحديث الراقي الذي ساقته والدةُ الكونت والكولونيل المسؤول عن الضباط الشبان، وكلاهما يقرع التصرف المتهور الذي يدفع بهؤلاء إلى التعدي على عذرية الشابات وإلقائهن في الشارع فريسةَ الشهوات الشبقية، وفي ظن الضباط المتهورين أنه يحق لهم، وهم من نخبة المجتمع، أن يحموا أنفسَهم من عار المعاشرة الدنيئة. أما القرار الذي يُفضي إليه حديث الوالدة والكولونيل فيقضي بإنشاء جمعيةٍ نسائيةٍ تقف نفسَها من أجل تلبية رغبات الضباط بحسب أصول المعاشرة الجنسية التي تجعل المجتمع يُكبِر تضحية النساء اللواتي يرتضين بوهب أجسادهن للضباط الشبان عوضاً عن التضحية بالفتيات البريئات. فضلاً عن ذلك، تَظهر فوائد هذا التنظيم في الحصول على أولاد أيتام يمكن فرزهم جنوداً في خدمة الوطن، من غير أن يكون لهم تعلقٌ بأسرةٍ أو انتسابٌ إلى بيئةٍ.
من الواضح أن هذه المسرحية ترسم لنا التناقض المحتدم بين مطالب عصر الأنوار الأوروبي، بما ينطوي عليه من توقٍ إلى الاستقلال الذاتي والحرية الشخصية والنمو الكياني الفردي، وضرورات الانخراط في الأنظومة الاجتماعية، بما تستتبعه من خضوعٍ لمؤسسات الدولة والإدارة. تجلى هذا التناقض في أزمة المجتمع الألماني الحديث الذي عاين فيه لِنتس المظالم المرتكبة، لا سيما في علاقة الضباط من أبناء الطبقة الميسورة بالفتيات المنتميات إلى الطبقة الفقيرة. غير أن اللافت في هذا الوصف أن لِنتس لم يكن على مثاليةٍ بريئةٍ تمنعه من انتقاد مسلك ماري ووالدها اللذَين كانا يرومان انتهاز الفرصة السانحة من أجل استغلال مقام الضابط الاجتماعي والمعيشي.
الفرادة الأسلوبية في مرآة الاضطراب النفسي
كان لِنتس يعتقد اعتقاداً راسخاً أن الشعر جُعل لجميع الناس من دون استثناء. لذلك أنشأ يقول في رسالته إلى صوفي فون لاروش في تموز (يوليو) 1775: "جمهوري الشعبُ كله، فلم أعد أستطيع أن أقصي عنه الطبقات الدنييات". خلافاً لغوته وشيلِر (1759-1805) اللذَين كانا يميلان إلى رسم ملامح أبطالهما في صورةٍ مثاليةٍ ساميةٍ، كان لِنتس يؤثر الطباع الضعيفة والأمزجة المتقلبة، ويترجح بين الإنشاء المسرحي الكوميدي والإنشاء المسرحي التراجيدي. ومن ثم، اتصفت مسرحياته بتساكن النبرات المأسَوية والهزلية، وقد عززتها غرابةُ الطباع الإنسانية المتشابكة، وأثقالُ الوضعيات الحياتية المتناقضة المنهكة. ومع أنه تأثر بشكسبير، واستند إلى تصوره المسرحي الذي أيده في كتاب "الملاحظات"، ضاماً إليه مقتطفاتٍ من نصوص الأديب الإنجليزي نقلها إلى الألمانية، إلا أنه بانتمائه إلى تيار "العاصفة والاندفاع" سرعان ما خرج على المذهب الكلاسيكي وتمرد على أحكامه، لا سيما تلك المتصلة بوحدة المكان والزمان، مفضلاً وصفَ الوجود الإنساني والطباع البشرية وصفاً واقعياً أميناً على ملابسات التاريخ وتناقضاته المؤلمة.