ملخص
يخلف فيروس كورونا آثاراً تدوم إلى ما بعد التعافي منه
لم يتبدد أثر "كوفيد"، وليس التبجح الكثير بـ"التعايش معه" ممتعاً أيضاً. في السنوات الأربع التي تلت ظهور الجائحة، عرفنا الحالة المزرية التي تتركنا فيها الإصابة بالفيروس، وأنها في الغالب، لا تبلغ خاتمتها عندما "نتعافى" منها.
وجدت دراسة صدرت نتائجها، أخيراً، نهضت بها "كلية وايل كورنيل للطب" و"جامعة كولومبيا" أن الاكتئاب أحد الأعراض الشائعة في مرحلة ما بعد ["التعافي"] من الفيروس [وتسمى هذه الحالة متلازمة ما بعد "كورونا" أو "كورونا" الطويل الأمد]، إذ يصيب "كوفيد- 19" خلايا الدماغ الخاصة بتنظيم المزاج والضغط النفسي، ويقود إلى تعطيل إنتاج "الدوبامين" (إذ يهاجم الفيروس هذه الخلايا العصبية)، وإلى التهاب في الدماغ.
تشرح النتائج الأسباب وراء الاكتئاب والقلق وضبابية الدماغ [مشكلات في الإدراك والتركيز والتفكير] التي أفاد كثيرون بأنها من أعراض مرحلة ما بعد الفيروس، حتى إن إحدى الدراسات من "جامعة واشنطن" في ولاية ميسوري تشير إلى أن ما يصل إلى 35 في المئة عانوا من مشاعر الاكتئاب بعد التعافي من "كوفيد".
ولكن هل يا ترى ثمة أمر آخر؟ يقال إن الأمراض الفيروسية الأخرى تثير أيضاً لدى المصابين مشاعر الحزن والتعاسة. وجدت دراسة أجرتها "جامعة بازل" السويسرية عام 2016 أن خطر الإصابة بالاكتئاب يرتفع لدى المتعافين من الإنفلونزا أيضاً بنسبة 57 في المئة، في حين أن فيروسات أخرى من قبيل "إبشتاين-بار" يمكن أن يتبعها شعور بالكآبة.
تقول إحدى النظريات التي يعتد بها أكثر فأكثر إن الميكروبيوم المعوي [مجموعة من تريليونات الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في القناة المعوية] يتعطل أثناء وجود الفيروس، وما إن يضطرب توازن وتنوع الفلورا المعوية أو النبيت الجرثومي المعوي [مجموعة الميكروبات الموجودة في الجهاز الهضمي]، حتى تتأثر الإشارات المرسلة إلى الدماغ ويتضرر تنظيم الحالة المزاجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتناول كثير من الأبحاث الجديدة ما يسمى "المحور المعوي- الدماغي" gut-brain axis، فيما يكتشف الباحثون دائماً مزيداً من المعلومات حول التأثير الذي تطرحه أمعاؤنا، التي تسمى "الدماغ الثاني"، على حالتنا المزاجية. وجدت دراسة حديثة اضطلعت بها "كينغز كوليدج" في جامعة لندن أن العلاجات التي تؤخذ للتخلص من الضغط النفسي والاكتئاب والقلق تؤثر بشدة في الالتهابات. وتشير النتائج، التي تستند إلى داء القولون العصبي، إلى أن العلاج ربما يساعد في تقليص التهاب الأمعاء، من ثم دعم جهاز المناعة.
وتتأثر "مادة السعادة الكيماوية" أو هرمون "السيروتونين" [ناقل عصبي]، سلباً بمركبات بروتينية [يفرزها جهاز المناعة للمشاركة في عملية علاج الالتهابات] معروفة باسم "السيتوكينات" cytokines، كذلك الأمر بالنسبة إلى الغدتين الكظريتين عند الإصابة بـ"كوفيد" وغيره من الأمراض الفيروسية. في هذا الصدد، يشير البروفيسور مارك فاغي، بروفيسور في علوم التمارين السريرية في "جامعة ديربي" البريطانية إلى وجود "أدلة على أن الأمعاء تعمل كما لو أنها مستودع للفيروس".
ويوضح البروفيسور فاغي قائلاً إنه "على رغم أن جسمك قادر على محاربة الفيروس، يتعذر عليك أحياناً التخلص منه. تبقى هذه الأجزاء الفيروسية مترسبة في القناة الهضمية، ومع أنها تكون غير نشطة، تشير مؤشرات إلى أنها تسبب مشكلات صحية صعبة ودائمة". حتى إن تناول جرعات من المضادات الحيوية يدمر فلورا الأمعاء "الجيدة" ويتسبب بفترة من الاكتئاب.
في كل ما تقدم يبدو كما لو أني أتحدث عن نفسي إلى حد ما، فعلى رغم أن معاناتي تكاد لا تذكر مقارنة مع معاناة البعض، لم تكن تجربتي الخاصة مع "كوفيد" في يونيو (حزيران) 2022، مزعجة جداً فحسب- للمرة الأولى في حياتي لم أقوَ على القراءة وأمضيت 10 أيام من مشاهدة أفلام الويسترن بتقنية "تكنيكولور" للتصوير بالألوان- بل أسفر ذلك أيضاً عن ستة أسابيع من الاكتئاب الشديد.
أنا إنسانة مصابة بالقلق، ولكن لم يسبق لي أن ألم بي في السابق مثل هذا الشعور من العدم واللاجدوى [الشعور بأنني لم أنجز شيئاً]. كان كل شيء يبدو ميؤوساً منه، إضافة إلى مزيج من كراهية الذات واليأس ونوبات يومية من النحيب الفيكتوري الواهن [نسبة إلى فترة الحداد الطويلة للملكة فيكتوريا على وفاة حبيبها الأمير ألبرت]. كنت أظن أن "كوفيد" يشكل السبب الجذري للمشكلة، ولكن لم أكن أملك أي فكرة عن سبب شعوري بالتعاسة.
لم تتغير الحال إلا بعد أن اقترحت إحدى صديقاتي السباحة في البحيرة بمناسبة عيد ميلادها، وأجبرت نفسي على ذلك كي لا أخيب ظنها. وبعد نصف ساعة من الرجفان في الماء البارد جداً، تجمدت أصابعي وصارت أشبه بأطراف سرطان البحر، ولكن بعد بضعة أيام، تقلصت ضبابية اليأس بشكل كبير.
بعد السباحة بضع مرات أخرى، اختفت ضبابية اليأس تماماً وأنا أدرك الآن أنه على الأرجح كان مرد ذلك جزئياً إلى الخصائص المضادة للالتهابات التي يتميز بها أن يغمر واحدنا الماء البارد. حتى الغمر لفترة قصيرة في الماء تحت درجة حرارة 20 درجة مئوية يؤثر إيجاباً في مناطق معالجة المشاعر في الدماغ ويساعد في تحفيز الناقلات العصبية المعززة للمزاج.
ولكن لحسن الحظ، بالنسبة إلى من قد لا يملكون إمكانية الغطس في الماء البارد، أو من لا يرغبون فيه، تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن معالجة صحة الأمعاء قد تؤثر كذلك [تلعب دوراً في التعافي].
يوضح الدكتور إيميران ماير، الاختصاصي في أمراض الجهاز الهضمي وعالم أعصاب في "جامعة كاليفورنيا"، أن "70 في المئة من نظام المناعة لدينا يقع في الأمعاء، إلى جانب أجزاء كبيرة من أنظمتنا الهرمونية ومساحة كبيرة من الجهاز العصبي، أي 150 مليون خلية عصبية، وكلها تتواصل وتتفاعل. منذ بدء الجائحة، أدى تناول مزيج من الأطعمة المصنعة إلى حد كبير والقلق والبقاء داخل المنزل، إضافة إلى عدم ممارسة الرياضة، إلى خلق مجموعة الظروف لإصابة الأمعاء بالضعف، الذي بدوره يؤثر في مزاجنا ويتسبب في حالة دماغية يتفاقم فيها الاكتئاب".
ويرى الدكتور ماير أنه "من الممكن تغيير الميكروبيوم، إذ تعد التغييرات في أسلوب العيش خطوة فاعلة جداً في حال الحفاظ عليها على المدى الطويل. تزدهر الميكروبات لدينا على الفواكه والخضراوات. ومن الواضح جداً، من كل العلوم المتراكمة، أن النظام الغذائي الذي يعتمد إلى حد كبير على النباتات يبقى الأمثل لأنه يزود الميكروبات بالوقود [القوة] الذي تحتاج إليه والمركبات التي تحولها إلى مواد مضادة للالتهابات.
ربما قد يعتد بأنني، في سبيل أن أتعافى من كورونا، تناولت نظاماً غذائياً صحياً نباتياً في معظمه، يتضمن الأسماك والحبوب الكاملة والابتعاد عن المشروبات الكحولية. كذلك مارست الرياضة بانتظام، وشعرت أن صحتي تتحسن على نحو متزايد، ولكن في الآونة الأخيرة، بعد إصابتي بفيروس يشبه فيروس الإنفلونزا قبل عيد الميلاد، أعقبه تناول كمية كبيرة من الشوكولاتة ورقائق البطاطا والكربوهيدرات، شعرت بالإحباط وافتقرت تماماً إلى الطاقة. ربما قد لا تتسنى لي العودة إلى البحيرة المجمدة مرة أخرى قبل الربيع، ولكن يمكنني إصلاح نظامي الغذائي، وهذا ما توفقني الرأي فيه جاين هوتون، اختصاصية التغذية لدى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية ("أن أتش أس" NHS).
وتقول هوتون: "غالباً ما أعمل مع العملاء الذين يعانون تعباً مزمناً وأعراض مرحلة ما بعد الفيروس". وتوضح أن "عدوى كوفيد تتجلى عموماً في أعراض الجهاز الهضمي. يختفي توازن الميكروبيوم، وتزداد البكتيريا الأقل فائدة، من قبيل المكورات العقدية، في حين تنخفض بعض السلالات الأساسية [الجيدة]، مثل العصيات اللبنية. وتضيف: "يؤثر هذا التغيير بشكل غير مباشر في كثير من عمليات الجسم والمواد والهرمونات والأعضاء. والعلاقة بين "كوفيد" والأمعاء والدماغ آخذة في الظهور، يبدو واضحاً أن علينا أن ننظر إلى الجسم برمته بشكل شمولي، مع اعتبار الأمعاء ركيزة أساسية للصحة".
ولحسن الحظ، أصبحت علبة الشوكولاتة "كواليتي ستريت" فارغة الآن، واستبدلت بها درجاً مملوءاً بالخضراوات، وأنا فعلاً أشعر بمزيد من البهجة.
هكذا نتمتع بأمعاء تجعلنا أكثر سعادة
كيف يمكننا تهدئة الالتهاب، وإعادة تشكيل ميكروبيوم الأمعاء، والشعور بالسعادة؟ وجدت دراسة سويدية نهض بها "معهد كارولينسكا" أخيراً أن النظام الغذائي الخاص بمنطقة البحر الأبيض المتوسط يترك تأثيراً إيجابياً كبيراً على مستويات الاكتئاب، في حين اكتشفت بحوث أخرى من "جامعة ساو باولو" في البرازيل أن النظام الغذائي النباتي قد يرتبط أيضاً بانخفاض معدل الإصابة (39 في المئة) بـ"كوفيد"، ومضاعفات أقل حدة لدى المصابين.
وفي ما يلي ما يوصي به الخبراء:
كلير كوهين، اختصاصية تغذية
- تناول البروبيوتيك من طريق الأطعمة النيئة المخمرة: الزبادي، ولبن الكفير، ومخلل الملفوف، الكيمتشي [طعام كوري تقليدي]، و"الكمبوتشا" أو فطر الشاي [يجري إعداده تقليدياً في روسيا والصين مع الشاي الأخضر أو الشاي الأسود الحلو]- فهي ستوفر لك مجموعة كاملة من البكتيريا الصحية الجديدة للحفاظ على التنوع الذي تشتد الحاجة إليه في ميكروبيوم الأمعاء.
- جرب مرق العظام والمكملات الغذائية بما في ذلك الغلوتامين وجذر الخطمي ونبات الدردار الزلق كي تعيد التوازن إلى بطانة الأمعاء.
أنابيل سبارو، أخصائية التغذية في The Gut Stuff
يجب زيادة التنوع النباتي في نظامك الغذائي. يحتوي الغذاء النباتي على الألياف. ويمر عبر الجهاز الهضمي إلى القولون، حيث يوفر الغذاء لميكروبات الأمعاء، التي تطلق بعد ذلك جزيئات قوية مغذية للمناعة.
الخروج إلى الطبيعة أمر أساسي، فنحن نحصل على ميكروبات متنوعة من بيئتنا، لذا فإن الأتربة جيدة!
الدكتور عمران ماير
- السكر يسبب الالتهابات، لذا تناول كمية أقل من الأطعمة المصنعة كثيراً، والجأ إلى الأطعمة النباتية التي تحتوي على الألياف والبوليفينول (مركبات نباتية مفيدة ذات جزيئات تحوي خصائص مضادة للأكسدة) الموجودة في كثير من الفواكه والخضراوات.
- تناول المأكولات البحرية والأسماك الزيتية مثل السردين والماكريل. إذا كان عليك تناول اللحوم، فحاول أن تكون كمية صغيرة من الدواجن العضوية ولحم الأبقار التي تتغذى على العشب من حين إلى آخر.
جاين هوتون، اختصاصية التغذية لدى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية"
- تناول الفيتامين "دي" ومجموعة كبيرة من البروبيوتيك طوال ستة أشهر بعد الإصابة بالعدوى لاستعادة الميكروبيوم بالكامل.
- تناول الأطعمة التي تحتوي على البريبايوتك بانتظام الجيدة مثل البصل والكراث والثوم والموز والتمر للحفاظ على ازدهار البكتيريا.
- قلص إلى أدنى حد ممكن تناول الأطعمة المصنعة والسكر المكرر والكحول، وتناول كمية كبيرة من دهون الأوميغا مثل الأسماك الزيتية والبيض وزيت الزيتون والبذور والمكسرات لتقليص الالتهابات.
© The Independent