Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وداعا للنكتة السرية ومرحبا بالـ "ميمز" العابرة للحواجز

الدقائق المعدودة التي ينتشر فيها "الميم" الواحد تقف على النقيض من واقع إعلامي يعاني التضييق المحكم على حرية التعبير

النكات، ولا سيما السياسية، لا تزال تتطاير ولكن عبر الأثير، والضحك ما زال يدوي في الأرجاء ولكن عبر الـ"شير" والـ "لايك" (فري بك)

ولى زمن التصاق الرؤوس في المقهي ثم ابتعادها مع انطلاق أصوات الضحك الصاخبة مع دبدبة بالأرجل وربما دموع تذرف، وجميعها أمارات تؤكد أن نكتة ما أُلقيت، وهي إما إباحية أو سياسية، وكلتاهما ممنوعتان، فالأولى ممنوعة بحكم العادات والتقاليد، والثانية بحكم العيون المتربصة والآذان المتلصصة، ولا سيما في أزمنة كانت الجدران فيها "لها آذان".

آذان الرقابة كانت كثيرة، مخبر يقرأ جريدة مزودة بخرمين يراقب عبرهما ما يجري حوله، وآخر يحتسي الشاي ويسترق السمع إلى ما يقال في محيطه، وثالث يراقب مراسلات الأهل والأصدقاء الورقية ويجهز تقريراً بمحتواها، ورابع متطوع يسمع نكتة عن الحاكم أو أحوال البلاد أو معاناة البلاد فيتبرع بإبلاغها لمن يزعجه الأمر.

السخرية من الحكومة

من يزعجهم أمر النكات والسخرية، ولا سيما السياسية قليلون، فهم في الغالب الأفراد والجهات التي تدور حولها النكتة، ولأن جسم الجريمة يصعب ضبطه وإحضاره فإن النكات السياسية كانت دائماً تحتمي بصمت المقاهي وسرية البيوت وخفوت الصوت في الأماكن العامة، وعلى رغم ذلك كانت النكتة تصدر من مقهى منزو في القاهرة أو الإسكندرية وتصل أسوان أو مرسى مطروح بعد أيام أو أسابيع في ما يشبه المعجزة بفضل "سمعت آخر نكتة؟ قالك كذا كذا".

اختفت "قالك كذا كذا" إلا قليلاً، ويعتقد بعضهم أن عبارة "الجدران لها آذان" ومعها جموع المخبرين اختفوا إلا قليلاً، لكن ساحة النكتة والسخرية امتلأت عن آخرها ولم تعد تحتاج قوة معجزة الانتقال من القاهرة إلى أسوان أو تكبد عناء "سمعت آخر نكتة؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النكات، ولا سيما السياسية، ولا تزال تتطاير لكن عبر الأثير، والضحك واغروراق العيون بالدموع لفرط التأثر ما زالا في الأجواء، ولكن عبر الـ "شير" والـ "لايك" وأحياناً النقل الشفهي لتلك الأقلية غير المتصلة بالإنترنت، حيث بحور الـ "ميمز" العربية التي يجري ضخها على مدار الساعة،  فالـ "ميمز" العربية لا تترك حدثاً إلا وثقته أو قراراً إلا نقدته أو توجهاً أو فكراً أو أيدولوجيا أو همسة أو نصراً أو هزيمة أو صرعة أو تصريحاً إلا وحولته إلى سخرية حادة.

والـ "ميمز" أو تلك الصور أو النصوص التي تؤخذ عادة من أفلام أو أحداث حقيقية، ويتم تطويعها لتكون ذات طابع فكاهي ويجري تداولها وتناقلها بسرعة شديدة بين مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، حلّت محل النكتة العربية إلى حد كبير ولدرجة جعلت بعضهم يفكر في جمع ما تيسر من نكات، ولا سيما ذات الطابع السياسي، في كتب قبل أن تنقرض النكتة ويرحل مطلقوها ومروجوها.

نقطة إطلاق "الميم"، شأنها شأن النكتة الشفهية، تبقى سراً لا يعلمه إلا مطلقها وأعز الأصدقاء، باستثناء تلك الحالات النادرة التي تتمكن فيها أجهزة دولة ما من اقتفاء أثرها ومعرفة منبعها والوصول إليه حال أرادت ذلك، أما المروجون فأعدادهم يصعب بل يستحيل معرفتها على وجه الدقة، حيث نظرية التشارك (شير) وكذلك الاقتباس من دون قيود على منصات الـ "سوشيال ميديا" تجعل حصر أعداد من يشاهدونها ويتناقلونها أمراً عسيراً.

وعسر الحصر لا ينافسه إلا ضيق التعقب، وكلاهما يصب في مصلحة هذه المنظومة السياسية الساخرة التي تشكل مكوناً لا يستهان به في الخطاب السياسي والأيديولوجي، ولا سيما المتعلق بالشعوب، إنها المعارضة غير المنطوقة و"فش الغل" غير القابل للإدانة أو العقوبة.

وخلال الأعوام القليلة الماضية توغلت الـ "ميمز" العربية غير مكتفية بالقضاء على النكتة بالضربة القاضية، بل أتت على كاريكاتور الصحف والمجلات، وهي المنصات الإعلامية التي تعاني أصلاً معاناة مريرة من أجل البقاء في زمن الإنترنت والـ "سوشيال ميديا".

الـ "ميمز" العربية تعكس حال المجتمعات العربية وحال الأيديولوجيات وكذلك الأنماط الفكرية الشعبية السائدة في المجتمعات العربية، كما أنها تكشف كثيراً من الاستقطاب السائد في المجتمعات العربية بين يمين الـ "ميمز" الساخرة من اليساريين، ويسارها المتهكم من اليمينيين والمحافظين على اختلاف درجاتهم ومكوناتهم.

لا تشبه غيرها

ومكونات الـ "ميمز" العربية لا تشبه غيرها، فالـ "ميمز" انعكاس واضح وصريح ومباشر للمجتمع الذي تصدر منه، وليس بغريب ألا يفهم شعب ما "ميمز" شعب آخر، فهي خليط من التاريخ والجغرافيا والسياسة والتركيبة المجتمعية وطبيعة المعارضة السياسية وأولويات الناس وأحلامهم وكذلك كوابيسهم.

كوابيس المصريين مثلاً والمتمثلة هذه الآونة في "انتظار البلاء قبل وقوعه"، حيث ترقب زيادة مفاجئة في أسعار الوقود أو تخفيف مباغت لما تبقى من دعم لسلع تموينية أو تعويم جديد مروع يجهز على الجنيه المنهك، تعبر عن نفسها في مئات الـ "ميمز" التي تولد من رحم القلق والمعاناة، وتشبهها إلى حد كبير مع اختلاف القليل من المكونات الـ "ميمز" اللبنانية وكذلك العراقية، وهو تشابه يصل إلى درجة التطابق في "ميمز" الدول العربية التي أصبحت مصدرة للهاربين من أتون الحروب والفارين من قبضة الصراعات، فمن السودان إلى اليمن ومنهما إلى سوريا وليبيا تتواتر الـ "ميمز" التي تدفع المتابع إلى الضحك، لكنه ضحك البكاء الناجم عن الكوميديا السوداء.

 

 

وكوميديا الـ "ميمز"، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو ما بينهما من ألوان، تظل سياسية واقتصادية مجهولة المصدر، وفنان الكاريكاتور الصحافي هاني شمس يقول لـ "اندبندنت عربية" إن الـ "ميمز" عمل جماعي لا يعلم أحد عن صناعه شيئاً،  والـ "ميمز" مجهولة النسب تبدأ عند شخص ما يقولها أو ينفذها ثم يطورها شخص آخر، ويضيف ثالث ورابع وخامس إضافات، ويأتي سادس ليغير فيها، ربما للنقيض حتى تناسب انتماءاته واتجاهاته، ولذلك يستحيل اقتفاء أثر صانع "الميم" الأول، وهي في ذلك مثل النكتة يتناقلها الناس من دون أن يعلم أحد مصدرها، وقد نسمعها في أكثر مكان "بتصرف"، كما في "الميم" من دون معرفة من يقف وراءها.

ولأن الـ "ميمز" لا تعكس إلا ثقافة وهموم وأولويات الشعوب لا الأنظمة أو الحكومات أو الحكام، فهي تبدو دائماً في حال كر وفر بين القط الكبير القوي صاحب البأس والقدرة على البطش، والفأر الصغير صاحب المكر والدهاء والقدرة على الالتفاف على المعنى والكر بعيداً من المباشرة والفرار هرباً من المساءلة.

السؤال عن الملاحقات الأمنية بسبب الـ "ميمز" غالباً تذيله إجابة ضبابية، فلا توجد حالات معروفة وصريحة تشير إلى أن أحدهم تعرض إلى تضييق أو تعامل أمني بسبب "ميمز" الإنترنت، ومن جهة "الميم"، كما ذكر هاني شمس، مجهول النسب.

ومن جهة أخرى يرجح ألا تعرض دولة ما نفسها لسخرية تطبيق عقوبة على أحدهم بسبب الـ "لايك" أو "الشير"، وعربياً فإن الـ "ميمز" مرتبطة بالـ "ترند"، ويقول شمس "كل ما يظهر أمارات قد تدفع به إلى الـ ’ترند‘ تتم ملاحقته عربياً بالـ "ميمز"، وهو يرى أن الـ "ميمز" العربية لا تقتصر فقط على هموم المواطن، حيث هموم الـ "سوشيال ميديا" أحياناً تحوي قضايا ومواضيع إضافية، ربما لا يمس جميعها المواطن بصورة مباشرة.

والـ "ميمز" العربية متصلة بالسياسة بصورة مباشرة وغير مباشرة، ويقول شمس "إذا كان الاهتمام بالمسائل والقضايا السياسية مثل العروبة والقومية والحرب الباردة والقوى العظمى والصغرى وغيرها قد خفت بين الشعوب العربية بعامة، فإن الشعوب اتجهت للاهتمام بقضايا سياسية كذلك، ولكنها أكثر محلية حيث هموم شعب تختلف عن مشكلات شعب آخر وهكذا، لذا نجد اختلافات كثيرة هذه الآونة في محتوى الـ "ميمز" العربية، بحسب أولويات كل شعب عربي، ويزيد من حدة هذه الاختلافات لا الخلافات التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة والمتواترة التي تمر بها الدول العربية، سواء المستقرة أحوالها أمنياً أو تلك القابعة على صفيح ساخن منذ أعوام.

وحتى مفهوم السياسة نفسه يمر بتغيرات كبرى من حيث التعريف، فمثلاً انتقال عدد من لاعبي كرة القدم المشهورين إلى السعودية مثلاً حولته الـ "ميمز" إلى مسألة ذات بعد سياسي، سواء كان الأمر يحتمل ذلك فعلاً أو لا يحتمله، وقد تلقف هذا التحول كثيرون وأمعنوا في تسييسه عبر مزيد من الـ "شير" والـ "لايك" أو على سبيل المعارضة والانتقاد عبر التعليق المضاد وتغيير محتوى الـ "ميمز".

وعلى رغم تراوح الاستخدام والإفراط في التسييس وتحميل أحداث فوق ما تحتمل من معانى وإسقاطات، فإن الـ "ميمز" تظل إحدى أبرز وسائل التعبير الحديثة التي أتيحت لكل صاحب فكرة. ويرى شمس أن الـ "ميمز" وسيلة تعبير ساخرة ومؤثرة، لكنه يراها بلا عمق سياسي حقيقي أو اجتماعي واقعي.

عابرة للحدود

العمق والواقعية لا يؤثران في حقيقة مفادها أن الـ "ميمز" العربية أداة تنفيس عن الإحباط ووسيلة تعبر عن احتجاج من باب "شر البلية ما يضحك".

وبحكم الكثرة العددية من جهة والميل المصري الفطري للدعابة والسخرية من جهة أخرى، إضافة إلى انتشار وغلبة الدراما المصرية عربياً مما يجعل صور المشاهد المستخدمة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات معروفة لدى الغالبية، وتحتفظ الـ "ميمز" المصرية لنفسها بميزة عابرة للحدود.

 

 

لكن عبور الحدود في زمن الاستقطاب الحاد لا يخلو من آثار سلبية، والـ "ميمز" الساخرة من الفقر أو الازدحام أو التضخم أو التعويم أو غلاء الأسعار أو تدني جودة التعليم أو غيرها من المشكلات يجري التقاطها من قبل تيارات معارضة والترويج لها باعتبارها أدلة على فشل الأنظمة، وهو ما يؤجج براكين الـ "ميمز" الداعمة للأنظمة وهلم جرا، وهو ما يدخل الـ "ميمز" في دورة تسييس لا تنتهي.

ويقول هاني شمس إن السياسة والحكام بشكل عام لا يحبون السخرية، وطالما الساسة في مناصب المسؤولية يناصبون السخرية العداء ولا يحبون أية صورة أو تعليق خفيف الظل، ولا سيما لو كانت "ميمز" خالدة الذكر، كما أنها الـ "ميمز" قابلة للإضافة والحذف والتغيير، ناهيك عن التداول المليوني خلال دقائق معدودة.

الدقائق المعدودة التي ينتشر فيها "الميم" الواحد تقف على طرف نقيض من واقع إعلامي وصحافي يعاني التضييق في عدد من الدول، لذلك تسهم الـ "ميمز" في ملء فراغ حرية التعبير.

ويقول شمس، "من ملأ الفراغ هو الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي وليس الـ ’ميمز‘ وحدها، وفضاء الإنترنت والتواصل الاجتماعي عصي على سيطرة الحكومات، لذلك ترتع الـ ’ميمز‘ وغير الـ ’ميمز‘ على الأثير بحرية كاملة".

والميزة الكبرى لمحبي الـ "ميمز"، وهي في الوقت نفسه المعضلة الكبرى لكارهيها، أنها لا تفنى أو تستحدث من عدم، ودورة حياتها محكمة الإغلاق واحتمالات عدمها تكاد تكون صفراً، وهي قادرة على عبور الحدود والقفز على السدود، ومكوناتها موجودة وبوفرة وسبل استخدامها وتطويعها لا نهائية بفضل المخ البشري المولد للأفكار، وكذلك الظروف والأحوال المولدة للهموم والضامنة لاستمرار المشكلات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات