ملخص
مفهوم يتجاوز الأثر النفسي ويمسي ظاهرة ثقافية واجتماعية تعيد تشكيل فهم التاريخ
يوضح رامي أبو شهاب في مقدمة كتابه الجديد "كتاب الضحية: آداب الصدمة /التروما" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، أنه "نتاج محاولة رصد ما يمكن أن نطلق عليه ذاكرة الصدمة، وتجلياتها في الوعي عبر اللغة؟"، بحيث أن اللغة نموذج تواصلي، لكنها تتجاوز هذا النموذج لتُمسي محاولة تحفيز للوعي، فيأتي الكتاب هذا "في سياق مشروع تطوير خطاب ما بعد الكولونيالية". وهو يتضمن توطئة بعنوان "خطاب الضحية... سؤال الصفح"، وأربعة فصول هي: "دراسات الصدمة/ إطار معرفي"، " التجربة الفلسطينية"، "الصدمة ونواتج الفعل الكولونيالي/ التجربة العراقية"، و "متلازمة الخوف في التجربة السورية". وفي قراءة الكتاب لا بد من الوقوف على أبرز مقولاته وخلاصاته الأساسية.
بعد عدد من أبحاثه ودراساته التي تشمل حقولاً معرفية ومناهج نقدية عدة، وإسهاماته المتعددة في مجال المراجعات في السينما العالمية، والحكاية الشعبية والتراث، علاوة على مراجعات فكرية ونقدية، يأتي "كتاب الضحية: آداب الصدمة /التروما" على خطى إدوارد سعيد ونهجه في قراءة ظاهرة ما بعد الكولونيالية، فيرى المؤلف كيف "يختبر التاريخ الإنساني منذ بداية تخلقه أحداثاً تخلف الكثير من الوقائع النفسية، فالإنسان منذ الأزل يسعى إلى تدوين تجربته التي تبدو في انزياحها أقرب لاختبار الألم، والخيبة، فتبرز في الواجهة تلك الوقائع التي تحمل وعي الارتطام، كما نطالعها في نصوص قديمة منها جلجامش، والإلياذة، وأوديب ملكاً، وغيرها من الخِطابات التي تصطدم بما يمكن أن ننعته بوعي الصدمة الأولى".
الضحية - الصدمة
يرى المؤلف هنا أن ارتطام الذات- الضحية بالألم والصدمة، يأتي نتيجة أسباب متعددة، كالحروب، والتهجير، وتجربة العبودية، والقمع، والتعذيب... إذ يمكن أن يطاول ذلك الوعي الفردي أو الجمعي، وتتشكل قيمة الذاكرة بوصفها مخزناً للذكريات المتعلقة باللغة، لا سيما في بحثها عن نماذج للتخلص من التداعيات بهدف التعافي، أو أنها تبتكر صيغاً جديدة للتاريخ. ولهذا يمكن تبرير جَدلية الحوار حول قيمة الاعتراف، ومقولات المغفرة أو التسامح لدى الفلاسفة الذين يبقون تحت سطوة تأويل التاريخ، والتجربة، وما يَكمُن بينهما من ذاكرة ربما تُورث للأجيال اللاحقة. غير أن وعي الشعوب سوف يبقى الأكثر قدرة على التذكر، مع مطالبة دائمة بالاعتذار، فينتج من ذلك صدام حضاري قوامه التنازُع على المروية أو السردية، مما يعني بصورة أو أخرى، إنتاج تصور الصدمة على المستوى الخِطابي. ولهذا تلعب كل من الذاكرة، والأرشيف، والآداب، والنصوص، والفنون عامة، دوراً مركزياً في هذا الجَدل الدائر·
في هذا الكتاب، نحن حيال باحث يحاول بناء سردية لا تستهدف فقط تحقيق فعل المقاومة، أو بناء قيمة مُضادة أو موازية، إنما هي ترغب في خَلخلة مركزية التمحور التي تطاول مركزية الألم والصدمة في الخِطاب الذي ينتهج مفهوم الضحية، فمركزية الضحية التي تشكلت مع الهولوكوست ما فتئت تُعيد تجديد التعاطف الغربي، في حين أن الضحية الحقيقية تتناسى. ومن هنا فإن مفهوم الصدمة لا يعلق فقط بمحاولة بناء قيم مُتنازع عليها إنما يستدعي إلى الذاكرة الأدوات أو المنهجيات التي خلقت الصدمة في الوعي عبر نقلها إلى سِياقات مُستحقة.
وإلى كون هذا الكتاب في محاوره يتأمل الصدمة "تروما" عبر مُقاربة تعتمد المفهوم، والمرجعيات المعرفية، فلا بد من الإشارة إلى أنه سعى في محور نظري إلى تكوين مفاهيمية أدب الصدمة، ومرجعياتها. فالمؤلف يقول: "انطلقنا من التقديم المفاهيمي بدءاً من تنظيرات الباحثة كاثي كاروث تُعضدها دراسات أخرى، غير أن القيمة المحورية للتنظير تنطلق من العمل المحوري والعميق لسيغموند فرويد الذي تمكن من وضع المُسوغات العميقة لخلق مستوى علمي لمفهوم الصدمة، انطلاقاً من تحليلاته المُتبصرة، والتي شكلت ذخيرة للباحثين نحو تأسيس نظرية تتصل بآداب الصدمة، وتلقيها ونقدها، منطلقين من مقولة أساسية للباحثة كاثي كاروث، ونعني بأن مركزية الصدمة تتجاوز الفعل النفسي لتُمسي ظاهرة ثقافية واجتماعية تعيد تشكيل فهمنا للتاريخ، والتعامل معه".
وبمناسبة ذكر الباحثة كاروث، تجدر الإشارة إلى كثرة المراجع والمصادر العربية والأجنبية لهذا البحث، وهي تزيد على الستين، ففضلاً عن مرجعية أساسية متمثلة في منجزات إدوارد سعيد، يرجع المؤلف إلى الكثير من المشتغلين على موضوع الضحية والصدمة، مثل حنة أرندت في كتابها "الإمبريالية ومعالم الإبادة والعنصرية والشمولية"، وبول أشكروفت في كتابه "دراسات ما بعد الكولونيالية/ المفاهيم الرئيسة"، وزيغموند باومان في "الحداثة والهولوكوست"، وناعوم تشومسكي في "الدول الفاشلة"، وجيرار جينيت في "خطاب الحكاية"، ورينيه جيرار في "العنف المقدس"، ورواية الياس خوري "أولاد الغيتو: اسمي آدم"، وديوان محمود درويش "أثر الفراشة"، وجاك دريدا في "الصفح وما لا يقبل الصفح ولا التقادم"، وبول ريكور "الذاكرة، التاريخ، والنسيان"، وروز ماري صايغ في "استبعاد النكبة الفلسطينية من دراسات نوع الصدمة"، وغيرها.
مفاهيم وتطبيقات
قبل تناول مفهوم الضحية وعلاقته بالصدمة، وآداب الصدمة، كان المؤلف افتتح كتابه بمقطع من قصيدة محمود درويش "لا تعتذر عما فعلتَ": "قتلى، ومجهولون/ لا نِسْيانَ يجمعُهُمْ/ ولا ذكرى تفرِقهُمْ.../ ومنسيون في عُشْبِ الشتاءِ على الطريق العامِ/ بين حكايتين طويلتين عن البُطُولةِ والعذابِ/ أَنا الضحيَةُ. /لا. أَنا وحدي الضحية/. لم يقولوا للمؤلف: لا ضحيَةَ تقتل الأخرى/ هنالك في الحكاية قاتلٌ وضحيَةٌ". ويثبت افتتاحية ثانية بمقولة من إدوارد سعيد يقول فيها: "لا يمكنك الاستمرار في إيذاء الآخرين لمجرد أنك أنت نفسك كنت ضحية ذات مرة، يجب أن يكون هناك حد".
ويتناول الباحث "التجربة الفلسطينية" بوصفها الأبرز في تقديم ضحايا آخر استعمار في العصر الحديث. وبعد عرض التجارب الروائية التي عالجت قضية "الضحية"، يُفرد فصلاً خاصاً بتجربة محمود درويش مع هذه القضية، عبر مسيرته الشعرية منذ بداياتها حتى ديوانه- كتابه الشهير "أثر الفراشة" الذي يحظى هنا بدراسة موسعة ومعمقة. وهو الكتاب الذي يرى المؤلف أنه يختزل "معنى الاستعادة لظاهرة الصدمة على مستوى التعريف والتفسير. نتج بفعل الحساسية الزمنية لخطاب حمل آثار الوعي التاريخي بالصدمة، وتَمكنها في المفردة الشعرية".
ومن ديوان "أثر الفراشة"، يقتطف الناقد المقطع التالي من "البيت قتيلاً": "بدقيقة واحدة، تنتهي حياةُ بيتٍ كاملة. البيتُ/ قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعي حتى لو خلا من/ سُكانه. مقبرة جماعية للمواد الأولية الـمُعَدةِ/ لبناء مبني للمعني، أو قصيدةٍ غير ذات/ شأن في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو/ بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء/ المشاعر. وحاجةُ التراجيديا إلى تصويب/ البلاغة نحو التبَصر في حياة الشيء. في/ كل شيء كائنٌ يتوجع... ذكري أَصابع/ وذكري رائحة وذكري صورة. والبيوت تُقْتَلُ/كما يُقْتَلُ سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرةُ الأشياء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد تناول السياق ما بعد الكولونيالي، وما جرى من الغزو الأميركي للعراق 2003، والآثار المترتبة عليه من ضحايا وصدمات، يتوقف الباحث أمام رواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد"، بوصفها، كما يقول "روايةً مركزيةً في سياقِ التعبير عن أثر النموذج ما بعد الكولونيالي، الذي دشنَ مرحلةً جديدةً في القرن الواحد والعشرين، ونعني غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003، بالتجاور مع قُدرة الرواية على عكس صِيغ التمثيل، التي ميزت هَذه الحُقبة التاريخية، ضمن السياق "ما بعد الكولونيالي"، من خلال نص مُتخيل، يَعكسُ بعض ملامح الرواية "ما بعد الكولونيالية"، ولا سيما الامتدادات النصية، كما الصيغة والأثر، والتمثيل، ومدى تحققها مجتمعة. ومن هنا تتأسس فرضيةُ هذا البحث، فنستعينُ بمقاربة منهجية، تعمد إلى تحديد الصيغ والرؤى، بالتجاور مع رَصد التداعيات التي أحدثها الغزو على الوجود أو الذات المُستعمَرة، بوصفها كياناً ثقافياً حضارياً.
وفي الفصل الرابع عن "متلازمة الخوف في التجربة السورية"، يتناول المؤلف رواية الكاتبة ديمة ونوس "الخائفون"، وما تمثله في سياق موضوع البحث "الضحية"، من خلال ثيمة الخوف التي يعيشها السوريون في صور شتى. وبعد التحليل المتعمق للرواية، ينتقل الباحث إلى بحث ما يدعوه "تمثلات الخوف في شعر الماغوط"، من خلال قراءة في عدد من قصائد الشاعر، وكيفية تجسيد مشاعر الخوف فيها. ويتوقف مطولاً أمام هذه الظاهرة (الخوف/ الرعب) في قصائد الماغوط، وخصوصاً هذه القصيدة: "كل العيون نحو الأفق:/ من أجلها
أُحصي أسناني كالصيرفي،/ أُداعبها كالعازف قبل فتح الستار./ بمجرد أن أراها/ وألمح سُوطاً من سياطها/ أو رصاصة من رصاصاتها،/ سأضع يدي حول فمي/ وأزغرد كالنساء المحترفات./ سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور/ وأشكو لها:/ كم عذبني الجوع وأذلني الإرهاب…".