ارتبطت "القصة" بالأحداث البشرية منذ بدء خليقتها، فلازمتها كونها من أهم وأقوى وأكثر وسائط نقل المعرفة الإنسانية شيوعاً، كما تسهم قراءة القصص والروايات في بناء منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية، وتفتح باباً عريضاً نحو اكتشاف عوالم الشعوب.
ومن خلال "السرد القصصي" تتسلل المعلومات، فتعد طريقة من طرق "التعلّم" وزيادة المخزون الثقافي، ووصل أكثر من 100 متخصص شاركوا في مؤتمر "تعلم بلا حدود" في نسخته الثانية، والذي أقامه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) خلال اليومين الماضيين، عبر جلسات وورش عمل وحوارات إلى أن استحضار "القصة" وسردها ومشاركتها مع الآخر قد تنقذ حياة ملايين البشر في ظل ما تواجهه المجتمعات من تنوّع معرفي رقمي.
وأكد المشاكون أن عُمق "القصة" يرتبط بالكثير من المتغيرات التربوية واللغوية والاجتماعية، إلى جانب علاقتها بالهوية الوطنية باعتبارها أيقونات تختزل جوهر الإنسانية.
واستكمالاً للتعلم بالسرد القصصي كشفت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "نواة" هلا آل خليفة عن احتياج المجتمعات للعودة إلى سرد القصص لصناعة جسور والتعرف إلى مفاهيم وقيم وجوهرية قائلةً "استحضار أثر القصص في المجتمع بأبسط التفاصيل يعني أن نسمح لحكايتنا بأن تكون مسموعة لتصل للآخرين، وأما ترجمتها بوابة لنتاج ثقافي مُثمر، بالتالي تصبح القصة رائدة في المشهد الثقافي وبوصلة إذا أضعنا الطريق في الذاكرة الإنسانية".
"الحكاية الشعبية" وتكوين الشعوب
وأكدت الكاتبة والباحثة السعودية لمياء باعشن لـ"اندبندنت عربية" على دور الحكاية الشعبية في تكوين الشعوب حول العالم، فهي شكل من أشكال القصص الحر، وتعتمد كثيراً على الذاكرة والتخيل، كما تتناسب مع مجتمع أو معتقدات معينة، ولها مثيل حول العالم، لكن تجري تنقيتها لتكون مناسبة للعقائد الدينية وللأجواء العامة لكل شعب.
وبينت باعشن أن الطفل يتقبل سماع الحكايات الشعبية، ويعود ذلك إلى دور الأسرة والأم بالتحديد في تقبلها لقص الحكايات على أولادها، وإيمانها بها، مضيفة "إذا كانت الأمهات والآباء مؤمنين بالحكاية الشعبية فسيسقون أطفالهم نفس الإحساس".
وأضافت الباحثة السعودية خلال مشاركة في الجلسة الحوارية المنعقدة على هامش أعمال مؤتمر "تعلم بلا حدود" تحت عنوان "القصص الشعبية لبناء الشعوب" القول إن "المكون الأساس للحكاية الشعبية في معظم الأحيان هي الأخلاقية، وبث الأخلاقيات منها فتعد بمثابة الدورات التربوية".
وعن تقديم الحكايات الشعبية للأطفال، ذكرت باعشن أهمية المحافظة على هذا الإرث وتقديمه للأطفال مع إحداث بعض التغييرات عليه لضمان وصوله إلى الأجيال القادمة وحفاظاً عليه من الاندثار، وتقدم كمادة يتقبلها طفل اليوم، مضيفة "هذه نقطة مهمة من الأساليب التي يمكن أن تتناول الحكايات الشعبية في أن يكون لها نتاج فيديو ومسموع أيضاً".
ووصفت باعشن الحكاية الشعبية بالقنبلة الموقوتة قائلة "الحكاية الشعبية قنبلة موقوتة بمجرد أن تدخل في المسامع لا تحتاج أبداً لأي نوع من التدخل، فهي ظاهرة عجيبة، تترك آثاراً أخلاقية وتربوية بشكل غير مباشر".
تسلل المعلومات
من جهته، يرى الباحث وصانع المحتوى أحمد الغندور أن "القصص من أهم الطرق والوسائل لتمرير معلومات هادفة أو أفكار قيمة تضيف للمتلقي الكثير، ونهدف منها إلى التعلم"، مضيفاً "نعمل في صناعة المحتوى بتعليم المتلقي بطريقة غير مباشرة عن طريق القصص الشيقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع الغندور "التعلم لا يقف عند سن معين، وسرد القصة ليس حكراً على فئة معينة، فجميع الفئات العمرية تتشوق لسماع القصص وتحليلها والخوض في تفاصيلها والخروج منها بمعلومات ودروس ثمينة".
80 متحدثاً
وكان مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، أطلق النسخة الثانية من مؤتمر "تعلّم بلا حدود" الإبداعي الرائد في الشرق الأوسط، والذي يسلّط الضوء على التحديات وفرص التعلّم، كما يعد منصة ثقافية تتيح للحضور فرصة التواصل مع محترفي القطاع الإبداعي المتخصصين في أساليب التعلم المبتكرة غير التقليدية وغير الرسمية، ومناقشتها من خلال استضافة أكثر من 80 متحدثاً من حول العالم.
وأوضحت مديرة البرامج في "إثراء" نورة الزامل أن النقلة النوعية التي شهدتها السعودية خلال السنوات الخمس السابقة، تعددت فيها الفرص في مختلف الاتجاهات جعلتها سباقة على مستوى العالم، فكان الاستثمار في الثقافة والإبداع، وفي ما يعد "التعلم" جزء لا يتجزأ منها والبوابة لنمو المجتمعات.
وأضافت الزامل "ثقافة التعلم تتصاعد في المجتمع، خصوصاً بعد إعادة طرحه في شكل "تعلم إبداعي"، وأصبحنا نشهد إقبالاً على برامج التعلم أكثر من السابق لما تتضمنه من مرح ورغبة ومتعة وفضول، فوجود بيئة محفزة وداعمة ستجذب الأفراد إلى خوضها وتجربتها اختيارياً".
وأشارت مديرة البرامج في "إثراء" إلى دور المؤسسات الثقافية في طرح تجارب التعليم والتعلم بشكل جذاب، موضحة أن دور هذه المؤسسات هو تكميلي لما تقدمه مدارس التعليم وسد الفجوات الموجودة.
وبينت الزامل أن مؤتمر "تعلم بلا حدود" يُعد أول مؤتمر يحتفي بالتعلم الإبداعي في السعودية، خرج في نسخته الأولى تحت عنوان "تعلم كيف تتعلم" ويعود بالنسخة الثانية، ليقدم هذه المرة تجربة تعلم فريدة يسلط فيها الضوء على عنصر جوهري في الطبيعة البشرية، وهو السرد القصصي، لافتة إلى أن القصص لطالما كانت الوسيلة التلقائية للتعلم منذ الأزل.
وزادت مديرة البرامج القول "حب التعلم هو الوسيلة الأمثل لنهضة المجتمعات، لأنه يحدث كل لحظة ولكل شخص، سواء كنا مدركين أم غير مدركين، وهنا أتكلم عن التعلم الإبداعي الذي لا حدود له، ولا ينحصر في أي زمان أو مكان، حيث يتعلم الكبير من الصغير، والمربي من الطفل، والخبير موقن بأن رحلته في التعلم لا تنتهي".
مجتمع متعطش لـ"التعلم"
من جهتها، وصفت رئيسة برامج التعلم في "إثراء" نوف الجامع حالة الجمهور في المجتمع السعودي بـ"المتعطش للتعلم" من خلال ارتفاع عدد المقبلين على البرامج من جميع الفئات العمرية، وفي مختلف المجالات من دورات للمحترفين والمبتدئين وبرامج صيفية للأطفال وبرامج خاصة للشباب.
وعن تفضيل بعض الفئات العمرية للتعلم عن التعليم، بينت الجامع أن عملية التعلم مختلفة عن العملية التعليمية كونها اختيارية وتحقق ميوله ورغباته، لافتة إلى أن التعليم بالمدارس ضروري وأساسي، كما أن وجود الممارسة الثقافية تساعد على تطوير عملية التعلم، فالمؤسسات الثقافية تعمل على خلق التوازن لدى الطفل بين عمليتي التعليم والتعلم.
منهجية المهارات في المدارس
بدوره، دعا المستشار التعليمي حسين العلي إلى أن تأخذ المهارات حيزاً منهجياً، قائلاً "نحتاج إلى مناهج عن المهارات الحياتية والأنشطة الجماعية والثقافة المجتمعية، فهي ما زالت برامج ومبادرات ولا بد أن تكون مناهج مفروضة ضمن الخطة الدراسية".
وأكد المستشار التعليمي على ضرورة خلق البرامج والمبادرات للطلاب، وتسليط الضوء على الفجوات بين المرحلتين المتوسطة والثانوية والمرحلة الجامعة، وبين المرحلة الجامعية وسوق العمل، لأننا نواجه عدم تسلح الخريجين بالمهارات على رغم امتلاكهم للمعرفة فقط.