في وقت يترقب أكثر من 40 مليون سوداني المساعي الإقليمية والدولية لإنهاء الصراع الدائر بين الجيش وقوات "الدعم السريع" الذي دخل شهره الـ10، بخاصة من جانب الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (إيغاد) التي تعقد، غداً الخميس، قمة في أوغندا لبحث الأزمة السودانية، إلا أن حكومة الخرطوم بددت تلك الآمال بتجميد تعاملها مع (إيغاد) في شأن ملف أزمة بلادها لعدم مشاورتها في ترتيبات انعقاد هذه القمة، فضلاً عن دعوتها قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو لحضور القمة، مما اعتبرته انتهاكاً لسيادتها ومخالفة للمواثيق التي تحكم عمل المنظمات الدولية.
وقالت وزارة الخارجية السودانية في بيان، إن "وزيرها أبلغ نظيره الجيبوتي، رئيس مجلس (إيغاد) الوزاري، في رسالة مكتوبة، قرار حكومة السودان وقف الانخراط وتجميد التعامل مع (إيغاد) في شأن ملف الأزمة الراهنة في البلاد".
وأشار البيان إلى أن القرار "جاء بسبب تجاوزات ارتكبتها المنظمة بإقحام الوضع في السودان ضمن جدول أعمال القمة الاستثنائية الـ42 لرؤساء دول وحكومات (إيغاد) المقرر عقدها، غداً، في كمبالا من دون التشاور مع الحكومة السودانية، علاوة على دعوة قائد الدعم السريع لحضور القمة مما يعد سابقة خطرة في تاريخ هذه الهيئة".
واعتبر البيان هذه التصرفات انتهاكاً لسيادة السودان، فضلاً عن كونها مخالفة جسيمة لمواثيق (إيغاد)، والقواعد التي تحكم عمل المنظمات الدولية والإقليمية.
وطالبت الحكومة السودانية بتنفيذ مقررات القمة الاستثنائية التي عقدت بجيبوتي في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، والتي نصت ضمن بنود أخرى على عقد اجتماع مشترك بين قائدي الجيش و"الدعم السريع" خلال أسبوعين لكن تعذر عقد هذا اللقاء لأسباب قالت (إيغاد) إنها فنية حالت دون قيامه وحددت يناير (كانون الثاني) الجاري موعداً جديداً.
حضور دقلو
من جانبه، قال محمد حمدان دقلو "حميدتي" في حسابه على منصة "إكس"، إن أي طرف "يحاول عرقلة أو منع اجتماعات (إيغاد) أو مغادرة طاولة المفاوضات من دون سبب مقنع يقوم بخيانة السودانيين". مؤكداً "التزام قوات الدعم السريع المفاوضات والحوار والسلام".
وأشار إلى أن طبيعة اجتماع رؤساء (إيغاد) أو أي مفاوضات مقبلة، ليست مسألة تتعلق بالمصالح الشخصية، ولا ينبغي لها أن تدور حول أجندة أي مجموعة بعينها، ويجب أن تتم المفاوضات من أجل تحقيق مستقبل مستدام للسودان، وأن تؤدي إلى حل شامل يضم جميع السودانيين.
وأضاف دقلو "يجب أن ينتقل السودان نحو مستقبل ديمقراطي، من خلال إجراء انتخابات حقيقية حرة ونزيهة في نهاية الفترة الانتقالية، وبناء حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب السوداني".
وزاد "سندخل هذه المفاوضات بحسن نية وعزيمة لإنجاحها، لأننا ندرك أن خسارة أي سوداني هي مأساة يجب أن نتحمل مسؤولية منع وقوعها، وإذا فشلنا في هذا المسعى، فسيحكم علينا التاريخ والشعب السوداني. ولذلك، فإنني أؤكد التزامي السلام والمفاوضات بهدف رسم مستقبل مشرق لبلادنا الحبيبة".
وشدد على رفضه تقسيم السودان على أساس إقليمي كوسيلة للخروج من الصراع الحالي، قائلاً "نعارض بشكل قاطع أي محادثات أو مقترحات تشكك في وحدة السودان أرضاً وشعباً. بل سنعمل من خلال هذه المفاوضات لدحض مثل هذه الأفكار والدعوات".
وأردف قائد "الدعم السريع" "نحن كجهات فاعلة ومسؤولة، ملتزمون تماماً بعمليات المفاوضات وتعزيز السلام. سأشارك في هذا الاجتماع، واضعين في الاعتبار هذه المبادئ والأهداف. سننجح في تحقيق السلام والازدهار، وتعزيز الديمقراطية والأمن".
ازدواجية الخطاب
علق أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور في حديثه لـ"اندبندنت عربية"على قرار حكومة الخرطوم بوقف التعاون مع "إيغاد" في شأن أزمة بلادها بقوله "أعتقد أن أي موقف ضد التعامل السياسي مع الأزمات خطأ"، منوهاً إلى أن مجموعة "إيغاد" تضم دولاً أفريقية مهمة لا يمكن للسودان أن يعيش في مناصبتها العداء، إضافة إلى أنها تجد كامل التأييد من الأغلبية العظمى لدول الاتحاد الأفريقي.
ولفت إلى "تعدد الألسن التي تتحدث بها سلطات الأمر الواقع في الخرطوم والتخبط الملازم لاتخاذ القرارات وازدواجية الخطاب بين خطاب داخلي وآخر خارجي"، مبيناً أنه حتى الخطاب الداخلي غير متسق مع بعضه.
وأوضح محمد نور أن جولة قائد "الدعم السريع" الأفريقية لم تقتصر على دول "إيغاد" وإنما شملت دولاً أخرى منها جنوب أفريقيا الدولة ذات الثقل السياسي والاقتصادي الكبير، ليس فقط على الصعيد الأفريقي وإنما العالمي أيضاً، وهذا يجعل الدبلوماسية السودانية في حالة "شيزوفرنيا" إذ إنها تعادي بعض الدول على موقف معين بينما تستثني أخرى تجاه نفس المواقف.
وتابع "حل المعضلة السودانية يحتاج لجدية الدول الفاعلة عالمياً بخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واللذان يستطيعان أن يمارسا ضغوطاً حقيقية على طرفي الحرب وداعميها الخارجيين، إذ يلاحظ حتى الآن عدم الجدية الدولية في التعامل الحازم مع أطراف الحرب، وينعكس ذلك بالتقاعس عن الاستجابة للأزمة الإنسانية للسودانيين النازحين بالداخل، الذين هربوا إلى الخارج ويشكل ذلك خذلاناً غير مسبوق في تاريخ الأزمات الإنسانية، أما القول إن الحل سوداني - سوداني فقط فهو قول بعيد عن الحقيقة نسبة للامتدادات الخارجية للحرب".
وحول اتجاهات الأزمة السودانية، أفاد أستاذ الاقتصاد السياسي "عموماً حكومة الأمر الواقع ليس لديها موقف ثابت يمكن البناء عليه فهي تنقض اليوم ما وافقت عليه بالأمس، لكن إذا التزمت بتصريحات نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار بعد مقابلة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان رمضان لعمامرة الخاصة بالموافقة على اجتماع جيبوتي بين عبدالفتاح البرهان وحميدتي والموافقة على مقابلة تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) فقد يشكل ذلك اختراقاً مهماً من ناحية الجهود الرامية لإيقاف الحرب، إلا أن ذلك يتناقض تماماً مع بيان وزارة الخارجية بتجميد التعامل مع (إيغاد) الذي يستشف منه أن جميع التصريحات الإيجابية مجرد تنكر للظهور بشكل مختلف".
رفض الجهود الدولية
في السياق، قال القيادي في تحالف "قوى الحرية والتغيير" مصباح أحمد لـ"اندبندنت عربية" إن "قرار وزارة الخارجية بوقف التعاون مع (إيغاد) في ما يتعلق بقضية السلام في السودان ينم عن عدم حكمة ورفض للجهود الدولية الداعمة لإيقاف الحرب في السودان، وللأسف سبق أن رفضت الخارجية السودانية قرارات القمة قبل الماضية التي شكلت اللجنة الرباعية برئاسة كينيا ومقاطعتها لأعمال اللجنة، ومن ثم قام البرهان بجولة خارجية لإصلاح ما أفسدته خارجيته وتصريحات مساعد القائد العام للجيش ياسر العطا مع دول (إيغاد) والآن تعود الخارجية لذات النهج برفض التعامل مع منبر (إيغاد)، ومن قبل ذلك سحبت الحكومة وفدها من منبر جدة من دون تفسير للأسف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف "كان على وفد الجيش السوداني أن يذهب لقمة (إيغاد) ولو بتمثيل أقل ويعلن عن تحفظاته أمام القمة وتوضيح موقفه من داخل الاجتماع أفضل من عدم التعامل مع منظمة مهمة، فهذه الإجراءات للأسف تزيد من الشك لدى المجتمع الدولي والشعب السوداني تجاه جدية القوات المسلحة في الوصول لتفاهم لإيقاف الحرب وتحقيق السلام وهو أمر محبط للغاية ويزيد من معاناة المواطنين ويدعم موقف دعاة الحرب الذين يحشدون لاستمرارها ويعملون على توسيعها مما يفاقم من الأزمة ويعطي مبررات للدعم السريع لتوسيع رقعة الحرب وبالتالي يترتب على ذلك ازدياد المعاناة والانتهاكات وانزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية وتقسيم البلاد".
وواصل أحمد "هناك خلل واضح في نهج وزارة خارجية حكومة الأمر الواقع، فهي تعمل في حقيقة الأمر على تعميق الأزمة وعزل السودان عن محيطه وتخريب العلاقات الدبلوماسية، فضلاً عن أنها لا تبذل أي مجهود لتجسير الهوة مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، بل تعمل على إعادة البلاد إلى عزلة النظام البائد وزعزعة ما تبقى من ثقة للمجتمع الدولي في السلطة القائمة وهو أمر مؤسف للغاية يتحمله القائد العام".
وأردف "الواقع الآن ليس هنالك غير منبري جدة وإيغاد، وبعد رفض حكومة الأمر الواقع للأخير أصبح ليس هنالك مخرج غير العودة إلى منبر جدة، ولذلك أعتقد أن الحل الوحيد هو أن يتوحد كل أهل السودان حول موقف رفض الحرب والضغط على طرفي الحرب وإجبارهما على القبول بالحل السلمي التفاوضي، واستئناف الحياة للشعب السوداني المكلوم".
واعتبر القيادي في "الحرية والتغيير" موافقة قائد القوات المسلحة على لقاء "تقدم" بالأمر الإيجابي وأنه مرحب به على أمل أن يتحقق، وأنه من الممكن أن يحقق اختراقاً جيداً لصالح الحل السلمي "إذا صدقت النوايا"، مؤكداً أنه ليس هنالك خيار غير العودة للحلول السلمية فهي الوحيدة الممكنة والمطلوبة لأن كل الخيارات العسكرية حققت عكس مقاصدها ودفع المواطن السوداني كلفتها من قتل وتشريد وانتهاكات غير مسبوقة نزعت أي شرعية من هذه الحرب.
لقاء البرهان - حمدوك
في الأثناء، تلقت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) موافقة من قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، للقاء رئيسها، عبدالله حمدوك لمناقشة أزمة البلاد.
وبحسب المتحدثة الرسمية باسم التنسيقية رشا عوض، فإن التنسيقية تلقت موافقة البرهان على لقائها، وجار التشاور حول تفاصيل ترتيب اللقاء من ناحية زمانه ومكانه.
وأوضحت "أخطأ من زعم أن لقاء (تقدم) مع قائد الدعم السريع، كان في إطار تحالف سياسي معه، وسيأتي الآن من يقول إن (تقدم) ساعية لتحالف آخر مع البرهان أو تحالف مع الطرفين لإحياء شراكة مدنية عسكرية جديدة، وكل هذا هراء وكذب محض".
ورأت أن التحالف الوحيد الذي تسعى (تقدم) في نسجه وتقويته هو تحالف "لا للحرب" الساعي لوقف القتال الدائر الذي دمر السودان وينذر بتمزيقه إلى مناطق نفوذ متناحرة.
وأكدت عوض أن "التحالف الذي يرى طريق الخلاص من الحرب وبناء سلام مستدام هو الدولة المدنية الديمقراطية، وضربة البداية في كل ذلك هو إنجاز خيار الحل السلمي التفاوضي، وفي هذا الإطار سعت (تقدم) للقاء قيادة الدعم السريع، ووضعت أمامها رؤيتها للحل ممثلة في خريطة الطريق، وهي ذات الخريطة التي ستضعها أمام قيادة القوات المسلحة في اللقاء المرتقب الذي نتمنى نجاحه".
الوضع العسكري
عسكرياً، تراجعت حدة المواجهات العسكرية بين الجيش و"الدعم السريع"، أمس الثلاثاء، على كافة جبهات القتال في العاصمة وخارجها، حيث تواصلت عمليات القصف المدفعي بين طرفي القتال في عدد من مناطق مدن العاصمة الثلاث لكن بصورة متقطعة وأقل حدة عن الأيام السابقة.
فيما بث الجيش عبر صفحته على "فيسبوك" مقاطع فيديو لأفراده وهم يتجولون في أحياء أم درمان القديمة وسط حشود من المواطنين الذين تظهر عليهم الفرحة بانتصارات الجيش في كافة محاور القتال بأغلب مناطق هذه المدينة.
ووفقاً لمحلية شندي شمال الخرطوم، فإن الأوضاع الأمنية في كل المناطق المحلية باستقرار تام عقب محاولات "الدعم السريع" للهجوم على منطقتي النقعة والمصورات الأثريتين.
كما شهدت مدينة القضينة التي تبعد 90 كيلومتراً جنوب الخرطوم موجة نزوح لأعداد كبيرة من سكانها باتجاه مدن الدويم وربك وكوستي بسبب القصف الجوي الذي شنه الطيران الحربي التابع للجيش على مواقع تمركز قوات "الدعم السريع" في تلك المدينة.
حماية الآثار
إلى ذلك حذر حقوقيون سودانيون من تمدد القتال بين قوات "الدعم السريع" والجيش إلى مواقع أثرية مهمة في شمال البلاد بعد تسجيل فيديو أظهر وجود عدد من جنود "الدعم السريع" بمنطقة المصورات.
ودان بيان لمجموعة محامي الطوارئ انتشار قوات "الدعم السريع" داخل مواقع آثار النقعة والمصورات بما يعرضها للخطر، وحملوا تلك القوات المسؤولية الكاملة عن سلامة المواقع التاريخية، محذرين في الوقت نفسه القوات المسلحة السودانية من التعامل مع هذه المواقع الأثرية كأهداف عسكرية.
وحثت المجموعة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو" للقيام بدورها في حماية وصون مواقع التراث العالمي في السودان بالتحرك تجاه الطرفين لضمان عدم تعرض هذه المواقع للضرر، منوهة إلى أن الموقعين الذين وصلتهما قوات "الدعم السريع" يعدان من المواقع التاريخية التي تتضمن معابد ومزارات وتماثيل وآثار تعود إلى حقبة مملكة مروي، كما أنهما مسجلان ضمن قائمة التراث العالمي التي تعدها وتحدثها "يونيسكو".
ولفت البيان إلى أن اتفاقية "لاهاي" المعنية بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة تلزم طرفي النزاع الامتناع عن استخدام الممتلكات الثقافية أو الوسائل المخصصة لحمايتها أو الأماكن المجاورة لها مباشرة لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف.