Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شبح آندي وارهول يعاود الظهور ويفضح خفايا السوق الفني

باحث اميركي يلاحق مافيا الفن الناشطة في العصر الرقمي

آندي وارهول رائد فن البوب الأميركي (مؤسسة وارهول)

جمع الفنان الأميركي آندي وارهول ثروة طائلة من مخلفات البيوت وصفائح القمامة، مقدماً مثلاً يحتذى به في كسب المال من لا شيء تقريباً، ما خلا إعادة تدوير بعض المهملات في مصنعه الخاص. لا غرابة إذاً أن يطلق الفنان على مرسمه اسم المصنع بعد أن اختلفت معايير الحياة في القرن العشرين وهيمن الاستهلاك على ملامح المجتمع الأميركي، فلم يجد الفن مفراً كي يلتقطه، سوى مسابقة الجرذان إلى صناديق القمامة، طمعاً في رسم صورة واقعية لحال الإنسان المعاصر.

أطلق على وارهول لقب عامل القمامة، غير أن مصنعه سرعان ما أصبح أحد أهم المعالم الثقافية في مدينة نيويورك، فمنه خرجت أعماله المشبعة بالألوان الفوارة لتباع بملايين الدولارات. وشملت إعلانات الأحذية وبطاقات عيد الميلاد ولوحة لعلبة طماطم، وزجاجات الكولا، وبولات الآيس كريم، فضلاً عن بورتريهات لعدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والفنية من بينهم مارلين مونرو التي رسمها في مطبوعات عدة ومنحها لقباً بحسب اللون المهيمن على اللوحة، مارلين الذهبية أو البرونزية أو الأرجوانية، المهم أنها أصبحت في عرف وارهول، مثل أي سلعة ملقاة على الرفوف في المتاجر!

وبغض النظر عن تقييم تلك الأعمال من منظور فني، فإن قيمتها بالفعل راحت تتضخم بعد وفاته عام 1987 على نحو غير مسبوق، حتى إن نسخة واحدة من مارلين بيعت بـ195 مليون دولار.

الختم الأحمر

في كتابه الجديد "وارهول بعد وارهول: أسرار وأكاذيب وفساد في عالم الفن"، يكشف ريتشارد دورمينت، الناقد والمؤرخ الفني، عما حدث لأعمال وارهول بعد موت صاحبها، بدءاً من المؤسسة التي أنشئت باسمه وتعهدت استغلال ثروته في دعم الفن والفنانين استكمالاً لمسيرته الصاخبة، ومروراً بالهيئة المنبثقة عنها لحماية السوق من انتشار الأعمال المقلدة، وانتهاء بدعاوى الفساد والاحتكار والتلاعب!

 ذات يوم تلقى دورمنت مكالمة لم تلفت انتباهه كثيراً، كانت من منتج الأفلام الأميركي جو سيمون الشغوف بجمع التحف، يطلب منه تحديد موعد لمعاينة إحدى لوحات وارهول المطبوعة بالشاشة الحريرية من سلسلة عرفت باسم "بورتريهات حمراء". أوضح سايمون في مكالمته أن الهيئة المنوط بها المصادقة على أعمال فنان البوب الشهير، رفضتها مرتين، والفادح في الأمر أنها أعادت إليه النسخة التي حلم ببيعها مقابل مليوني دولار، مختومة بالحبر الأحمر الذي اخترقت لطخاته القماش وجعل كنزه الثمين عديم القيمة تقريباً.

لم يستغرق الأمر طويلاً حتى يتبين لدورمينت أن نسخة سايمون أصلية بالفعل، فهي ممهورة باسمه، ومسجلة لدى مدير أعماله، كما أن صفقة شراء الشاشات الحريرية مدرجة في سيرة الفنان، ربما لهذا تشكك في محاولة استبعاد مرحلة معينة من مراحل تطور وارهول لا تروق لذوق الهيئة. وبمحض الصدفة تعثرت قدم دورمينت في أروقة قضية مشابهة، صودرت بموجبها 44 لوحة على اعتبار أنها مزيفة عام 1991، وبعد نحو 12 عاماً، تراجعت الهيئة عن قرارها وقامت ببيع 35 لوحة بملايين الدولارات، من تلك التي سبق أن وصفتها بالمزيفة!

هنا اشتعل اهتمام دورمنت بقضية سايمون، وراح يتابع القضية عن كثب، ثم بدأ في نشر بعض التفاصيل على شكل مقالات في مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" بين عامي 2009 و2013. بعد كل مقال كان دورمينت يظن أن القصة انتهت وأغلقت تماماً، ثم فجأة تطفو معلومة على السطح تعيدها إلى الحياة. هذه المقالات السبع هي والرسائل والردود والتعليقات عليها أصبحت بمرور الوقت نواة لكتابه الصادر، أخيراً، عن دار بيغاسوس.

 يذكر دورمينت بالتفصيل إحدى محاولات هواة جمع التحف، رفع دعوى قضائية جماعية تتهم فيها مؤسسة وارهول بـ"الاحتيال والتواطؤ والتلاعب بالسوق"، لكنها لم تسفر عن نتيجة، كما الحال مع قضية سايمون التي خاضها بشراسة على مدار 10 سنوات للكشف عن سر استبعاد أعمال تعلم لجنة الفحص تماماً أنها أصلية، وذلك بغرض تقييد عدد أعمال وارهول في السوق، بالتالي زيادة قيمة أعماله الموثقة، في انتهاك صارخ لقانون مكافحة المنافسة. غير أن المؤسسة نفت كل هذه الادعاءات، واضطر سايمون إلى سحب القضية عام 2010 بعد أن استنفد جميع موارده ولم يعد قادراً على تحمل كلفة إثبات الحقيقة. غير أن سحب القضية ونسيانها أمران مختلفان تماماً، لا يزال سايمون "محترقاً"، كما يصفه دورمينت، بسبب هذه الملحمة المأسوية. وعلى الرغم من تبريء المؤسسة، فقد تم تصفية لجنة المصادقة نهائياً وأغلق المجلس أبوابه، بعد فترة قصيرة من قضية سايمون.

قطع الجبن الكبيرة تجذب الفئران الكبيرة

يأخذ كتاب دورمنت منحنى أكثر إثارة مع ظهور مجموعة متنوعة من الشخصيات، من بينهم الخبير المالي الروسي ليونيد روزيتسكين، الذي تكفل تغطية بعض نفقات القضية، وحتى يخفف من مصابه، قام بدعوته لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في لاتفيا على متن طائرته الخاصة. كان من حسن حظ سايمون أن اعتذر عن ذوق صاحبه، فقد اختفى روزيتسكين هو وطائرته في ظروف غامضة. في ما بعد تبين أنه اختطف وقتل لأنه امتنع عن دفع رشوة قدرها 400 مليون دولار إلى حساب فلاديمير بوتين في قبرص، على يد شخصيات من الكرملين. وقادته التحريات إلى أن المحامي الذي تولى التشكيك في صدقية سايمون في ساحات المحاكم هو من قام سابقاً بالدفاع عن زعماء المافيا في قضايا قتل، وسجن لاحقاً لتورطه في قضية احتيال فيما عرف بمخطط بونزي، ثم أصبح مدير أعمال دونالد ترمب، الذي يمثل الآن أمام القضاء متهماً بسلسلة من الجرائم المماثلة. وهكذا كلما أوغل دورمنت في البحث توالت الاكتشافات الصادمة لا سيما عن المؤسسة التي توازن بين أعمالها الخيرية وأذرعها التجارية لتحقيق طفرة في المبيعات، حتى إن سروالاً قصيراً طُبعت عليه علامة الدولار، قامت بتصنيفه على أنه "عنصر جديد" في مخزون وارهول، وباعته مقابل 16 ألف دولار.

يشمل الكتاب أيضاً وصفاً مخيفاً لقدرة القانون على التلاعب بالحقيقة ومدى براعة لصوص الفن في تشويه سمعة الضحية، مستشهداً بما حدث لسايمون من تهديد وترهيب وتشويه، وهو ما لم يستطع دورمينت نفسه أن يتجنبه بعد نشر كتابه الجريء المدعم بالأدلة والشهود عن مافيا الفن في عصرنا الراهن. كتب يقول، "لقد أصبحت الساحة الآن مهيأة لمعركة ملحمية من شأنها أن تصبح علامة فارقة في تاريخ فرع جديد في المحاماة". أطلق دورمينت على هذا الفرع الجديد، قانون الفن، ولكنه يعتقد بشدة أن موضوع الفن لا يتواءم مع أروقة المحاكم وتلاعب المحامين بالألفاظ الرنانة، فالأعمال الفنية تنتمي إلى أمكنتها الطبيعية كالندوات والمعارض وصفحات المجلات الفنية، ولا يمكن أن يحسم فيها إلا أرباب الفن، وليس القضاة في المحاكم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن هذه القصة لا تمت للفن بصلة، إنها قصة عن المال الذي طالما سعى إليه وارهول في عصره الاستهلاكي، معلناً بسخرية "إن كسب المال فن"، ألا يتفق هذا مع ما قاله ترمب في محاكمته في شأن "فن الصفقة"؟ لأجل هذا ابتكر وارهول نوعاً جديداً من الفن يعتمد في جوهره على المحاكاة ويقتصر دوره في كثير من الأحيان على تلوين الصورة المنعكسة على أقمشة معلقة على الجدران، وهو ما يشبه إلى حد كبير اللوحات المصممة بالذكاء الاصطناعي، لولا تدخل العنصر البشري بالتلوين وصنع زاوية للرؤية تراوح بين التمجيد والتحقير لتلك العادات الاستهلاكية.

أمر كهذا قد يتعارض مع فكرة الأصالة المفترضة في أعمال وارهول، كما يثير تساؤلاً طريفاً حول ما إذا كان هذا التقليد أصلياً أم تقليداً للتقليد، وبخاصة أن وارهول كان يستعين بأصدقائه في تلوين الصورة بعد تكبيرها بالكاميرا، لا غضاضة إذاً إن تبنت المؤسسة الموكلة بحماية إرثه، المبدأ نفسه، لا سيما مع هذه الأرقام الفلكية التي تنبيء بظهور الكثير والكثير من أعمال وارهول المقلدة، لتستمر أسطورة الشاب النحيف ذو الشعر الأشقر المستعار الذي وفد مع والديه إلى أميركا، واستطاع بعيني الغريب اليقظتين أن يلتقط صورة معبرة عن الحلم الأميركي بحيث يصبح هو نفسه جزءاً لا يتجزأ من المشهد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة