حرب روسيا على تيار الـ"ووك"

ستجري روسيا انتخابات رئاسية في شهر مارس (آذار) من هذا العام. وسيكون هذا التسابق [بين المرشحين]، مثل سابقيه، مصمماً بشكل في غاية الدقة، وستكون نتيجته محددة سلفاً. ومن المتوقع أن يهيمن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يحكم روسيا منذ أكثر من 23 عاماً، على السباق الانتخابي منذ البداية، كما ستقوم كل وسيلة إعلامية في روسيا بالترويج لترشيحه والثناء على أدائه. وفي الواقع، سيكون خصومه بالاسم فحسب من الموالين للحكومة الذين يصطفون لجعل هذا السباق يبدو تنافسياً فعلاً. وعندما يتم فرز جميع أوراق الاقتراع، سيفوز بوتين بسهولة.

ومع ذلك، وعلى رغم أن الانتخابات ستكون مهزلة، فإنها تستحق المشاهدة. فهي ستكون فرصة لبوتين لكي يشير إلى خططه للسنوات الست المقبلة، من ثم اختبار استراتيجيات الرسائل المختلفة. ولذلك يمكن للمحللين أن يتوقعوا منه أن يفعل شيئين رئيسين. الأول هو تسليط الضوء على صراع روسيا ضد الغرب. أما الأمر الآخر فسيجده الغربيون مألوفاً في السياسة الداخلية: وهو شجب السياسات الليبرالية اجتماعياً أو سياسات الـ"ووك" (التنبه أو الصحوة على الصعيد الاجتماعي). على سبيل المثال، سيتحدث بوتين كثيراً عن القيم الأسرية، فيزعم أن الروس لا بد أن يؤسسوا أسراً تقليدية مكونة من أبوين وعدد كبير من الأطفال. وسوف يندد بما يسمى "حركة الميم" على أنها عبارة عن حملة خارجية لتقويض الحياة الروسية. وسوف يهاجم عمليات الإجهاض، على رغم أن غالب الروس يؤيدون الحق في إجراء هذه العمليات.

إن أوجه التشابه مع اليمين الأميركي ليست من قبيل الصدفة. لقد تبنى بوتين ومستشاروه وجهات نظر مثيري الشغب الأميركيين المحافظين وخطابهم، مثل مذيعي قناة "فوكس نيوز". لقد فعل الكرملين ذلك لأنه، من خلال تبني الحروب الثقافية، يعتقد أنه قادر على كسب دعم السياسيين الشعبويين في واشنطن وأماكن أخرى. وفي الواقع، لقد صارت روسيا سلفاً تحظى بعدد من المعجبين من جناح اليمين على المستوى الدولي. وأشاد زعماء المحافظين في كل أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، بمن في ذلك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ببوتين. وأشار بعضهم إلى أنهم سعداء بالتوصل إلى تسوية في شأن مستقبل أوكرانيا.

بالتالي فإن خطاب بوتين وسياساته اليمينية المتطرفة يمثلان شكلاً من أشكال فن الحكم. ومن خلال الدفاع عن مثل هذه القضايا، يبدو أن الرئيس يعتقد أنه قادر على تقويض المجتمعات الغربية من الداخل. وهو على الغالب يعتقد أنه قادر على هدم النظام الدولي القائم على القواعد. وربما يأمل في أن يتمكن من استبدال نظام عالمي محافظ جديد يكون الكرملين محوره، بالنظام الحالي.

قوة الكراهية

عندما وصل بوتين إلى السلطة للمرة الأولى، لم يكن معنياً بالحروب الثقافية. في الواقع، كان الكرملين حتى عام 2012، يتحرك وفق أجندة معتدلة. وفي عهد فلاديسلاف سوركوف الذي عينه بوتين نائباً أول لرئيس موظفي الإدارة الرئاسية، ركز الرئيس على التنمية الاقتصادية. وعلى رغم أن سوركوف كان مدافعاً عن نظام بوتين الاستبدادي، فإنه لم يحتقر المثليين أو المهاجرين أو النساء. وبدلاً من ذلك، كان يعتقد أن أفضل قاعدة دعم لبوتين ستكون الناخبين من الطبقة المتوسطة العالمية، الذين يميلون إلى الإيمان بالليبرالية الاجتماعية نسبياً.

لكن نظرية سوركوف كانت غير صحيحة. ربما كانت الطبقة الوسطى في روسيا قد دعمت بوتين في البداية، إلا أن استمرار حكمه وتحوله إلى نظام استبدادي بشكل متزايد، جعل هذه الفئة الديموغرافية تنتقد الرئيس. وخلال ترشحه لولاية رئاسية ثالثة في عام 2012، خرج مئات الآلاف من الروس من الطبقة المتوسطة إلى الشوارع للاحتجاج.

وعلى رغم ذلك فاز بوتين، بيد أن التظاهرات كانت نقطة تحول في طريقة تفكيره في السلطة. لقد شعر بالخيانة، لذلك قام بتهميش سوركوف. وكان فياتشيسلاف فولودين كبير مستشاريه السياسيين الجديد، منظراً محافظاً، وهو الذي دفع بوتين إلى التركيز على حشد دعم فقراء روسيا وطبقتها العاملة، الذين كانوا يعتبرون محافظين ومتدينين أكثر من غيرهم. ونتيجة لذلك، بدأ خطاب بوتين وسياساته في التحول بعيداً من الاقتصاد والطبقة المتوسطة ونحو القضايا الثقافية، واللعب على ما يسمى القيم التقليدية وتشويه الغرب الذي يفترض أن يكون منحلاً.

كان أحد الرموز الأولى لانقلابه هذا هو قانون عام 2013، الذي تم إقراره والتوقيع عليه بناءً على اقتراح قدمه فولودين، ويحظر "الدعاية" لمجتمع الميم. وفي الحقيقة، نص مشروع القانون على أنه من غير القانوني أن تصف وسائل الإعلام العلاقات غير التقليدية بطريقة إيجابية، كما منع الشخصيات المثلية من الظهور في الأفلام أو البرامج التلفزيونية التي يمكن أن يشاهدها أي شخص تحت سن الـ18. ولم يكن هذا القانون هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها نظام بوتين الجديد من أجل إلصاق وصمة عار بمجتمع المثليين، كما بدأت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الكرملين في وصف الأشخاص من مجتمع الميم بأنهم خطرون على المجتمع ومخطئون بطبيعتهم. وفي أغسطس (آب) من عام 2013، على سبيل المثال، طالب ديمتري كيسيليف، وهو مقدم البرنامج الإخباري المسائي الذي يبثه التلفزيون الحكومي الروسي، الحكومة بحظر عمليات زرع القلب المأخوذ من رجال مثليين لقوا مصرعهم في حوادث. وبدلاً من استخدام هذه القلوب ينبغي أن يجري حرقها، بحسب ما قال كيسيليف.

لقد تبنى بوتين ومستشاروه وجهات نظر مثيري الشغب الأميركيين المحافظين وخطابهم.

في ذلك الوقت، كان مثل هذا النقد اللاذع لا يزال غير عادي في روسيا، لذا تسببت تصريحات كيسيليف في إثارة فضيحة. غير أن بوتين بدا سعيداً. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2013، أنشأ وكالة أنباء جديدة مملوكة للدولة وعين كيسيليف رئيساً لها. وساعدت ترقية كيسيليف في رسم معالم الطبيعة المتغيرة لوسائل الإعلام الروسية. وقبل ولاية بوتين الثالثة، كان التلفزيون الحكومي مملاً ورزيناً. ولكن في عام 2012، بدأت هيئات الإذاعة والتلفزيون الحكومية تتصرف كما لو كانت تبث عبر قناة "فوكس نيوز"، القناة التلفزيونية الأميركية اليمينية المعروفة بالتجييش وإثارة السخط. ووفقاً لمسؤول سابق كبير في التلفزيون الحكومي الروسي، طلب عدم الكشف عن هويته خوفاً على سلامته، طلب من الصحافيين مشاهدة قناة "فوكس" ومن ثم تقليد ما كانوا يرونه. ومن جانبه، بدأ كيسيليف يتصرف مثل بيل أوريلي نجم قناة "فوكس نيوز"، الذي اشتهر بخطبه اللاذعة الغاضبة. لم يكن أوريلي ممن يحبون بوتين، إذ إنه وصف الرئيس الروسي ذات مرة بأنه "الشيطان". غير أن هذه الحقيقة لم تكن مصدر قلق بالنسبة إلى المراسلين الروس. فما كان يهم [الإدارة]، كما أخبرني المسؤول السابق، في أوريلي هو "نيران الكراهية المنبثقة من عينيه"، فقد كانت برامجه الإخبارية مثيرة، مليئة بالغضب والشجار والصراخ. والآن، باتت برامج كيسيليف كذلك.

ولم تكن هيئة الإذاعة الحكومية هي وسيلة الإعلام الروسية الوحيدة التي استعارت من قناة "فوكس نيوز". في نهاية عام 2013، جاء جاك هانيك، وهو منتج عمل منذ وقت طويل لدى قناة "فوكس نيوز"، إلى روسيا لمساعدة رجل الأعمال كونستانتين مالوفيف على إطلاق قناة "تسارغراد" التلفزيونية، وهي قناة خاصة يمينية متطرفة لها علاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وفي ربيع عام 2014، قام مالوفيف بتمويل إيغور غيركين، الذي كان حينذاك قائداً عسكرياً روسياً، وساعد في قيادة الغزو الروسي لشرق أوكرانيا.

وتكمن المفارقة في أن زعماء روسيا لا يشكلون نماذج تحتذى لجهة تجسيد مبادئ جناح اليمين، وذلك شبيه إلى حد كبير بوضع عديد من السياسيين المحافظين في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، طلق بوتين زوجته في عام 2014. ولم يتزوج مرة أخرى، ولكن يبدو أنه ارتبط منذ عام 2008، في الأقل، بعلاقة مع ألينا كاباييفا، وهي البطلة الأولمبية السابقة في الجمباز الإيقاعي. ويعتقد على نطاق واسع أنهما قد أنجبا أطفالاً.

لقد طلق عديد من الأشخاص المقربين من بوتين زوجاتهم أيضاً. هكذا طلق إيغور سيتشين نائب رئيس الوزراء زوجته الأولى في عام 2011 ثم الثانية في عام 2017. وحذا حذوه سيرغي سوبيانين عمدة موسكو، في عام 2014، كما طلق أركادي روتنبرغ، صديق بوتين المقرب ورجل الأعمال الروسي الكبير، زوجته في عام 2013. ولو كان هؤلاء يعيشون في الحقبة السوفياتية لكان الانفصال عن زوجاتهن قد ألحق أضراراً بمسيرتهم المهنية، فقد كان الحزب الشيوعي السوفياتي يعارض الطلاق بشدة. أما اليوم فقد صار الانفصال عديم الأهمية كلياً. كانت روسيا لسنوات عديدة تحتل مرتبة متقدمة بين دول العالم من حيث حالات الطلاق. ويعد معدلها الحالي، 3.9 حالة طلاق لكل 1000 نسمة، من أعلى المعدلات في العالم، وهو يتجاوز بأشواط بعيدة المتوسط العالمي الذي يبلغ 1.8 (المعدل في الولايات المتحدة هو 2.5).

الخوف والبغضاء

ولم تتوقف حرب بوتين الثقافية عند حدود روسيا. ففي أوائل العقد الأول من القرن الـ21، على سبيل المثال، بدأ الروس من سياسيين وعاملين في مجال الدعاية، في التحسر بسبب تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا، معلنين أن القارة قد خسرت هويتها وثقافتها وطبيعتها الروحانية التي طغت عليها [نظراً إلى الكثرة] شعوب أفريقيا والشرق الأوسط. وأعلن بوتين في خطاب ألقاه عام 2013 أن "عديداً من الدول الأوروبية - الأطلسية قد سلكت سلفاً طريق التخلي عن جذورها، بما في ذلك القيم المسيحية التي تشكل أساس الحضارة الغربية". ورأى أن الأوروبيين "غير قادرين على ضمان دمج اللغات الأجنبية والعناصر الثقافية الأجنبية في مجتمعاتهم".

وقد خاضت موسكو أيضاً في السياسة الأميركية. وعندما انطلقت حركة "حياة السود مهمة" في عام 2020، اعتبر الكرملين أن السبب كان كارثياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ولفت نيكولاي باتروشيف، وهو أمين مجلس الأمن الروسي، في مقال بعنوان "النخب الأميركية نفسها تقوض دولة بلادها" إلى "أنهم يستخدمون تحركات الشوارع لتحقيق مصالحهم الخاصة. ويغازلون المهمشين الذين يسرقون المتاجر تحت شعارات نبيلة". حتى إن باتروشيف أشار إلى أن هناك أماكن في الولايات المتحدة "يمنع دخولها على البيض، وستقوم العصابات المحلية فيها بمهام الشرطة بدلاً منها". كان من الممكن بسهولة أن تكون مثل هذه التصريحات صادرة عن تاكر كارلسون، الإعلامي اليميني والمعلق السابق في قناة "فوكس نيوز".

وبطبيعة الحال، وصلت انتقادات موسكو اللاذعة المناهضة للـ"ووك" إلى مستوى باتت معه تطاول أوكرانيا. وفي خطاب ألقاه عام 2022 احتفالاً بضم روسيا أربع مناطق أوكرانية بصورة غير قانونية، أقر بوتين بأن بلاده تقاتل من أجل حماية "أطفالنا وأحفادنا" من "الانحراف الجنسي" و"عبادة الشيطان". ومن هذا المنظور فإن كييف أصبحت الآن وسيلة ينشر الغرب من خلالها قيمه الليبرالية الفاسدة في مجال النفوذ الشرعي لروسيا، ويعتبر عدوان موسكو في الواقع دفاعاً عن التقاليد [على حد تعبير الرئيس الروسي]. إنها طريقة للتأكد من أن كل طفل روسي سيكون لديه "أم وأب"، وليس "الوالد رقم واحد، والوالد رقم اثنين، والوالد رقم ثلاثة"، كما قال بوتين في سبتمبر (أيلول) 2022.

ومن وجهة نظر الكرملين، فإن الأشخاص المتحولين جنسياً، وهم "الوالد رقم واحد، والوالد رقم اثنين، والوالد رقم ثلاثة"، يشكلون تهديداً بخاصة. ونتيجة لذلك، أصبحوا الآن هدفاً لتشريعات قمعية بشكل بالغ. وفي يوليو (تموز)، أقرت روسيا مشروع قانون تمت صياغته على عجل، ويحظر العلاج الهرموني وجراحة تغيير الجنس، كما نص على منع الأشخاص من تحويل هويتهم الجنسية في جوازات السفر، وعلى إلغاء أي زواج يغير فيه شخص واحد جنسه، وحرم البالغين المتحولين جنسياً من الحق في تبني الأطفال.

لم يتم تهميش المثليين الروس، الذين يحافظون على جنسهم الأصلي خلافاً للمتحولين جنسياً، إلى هذا الحد. لكنهم تعرضوا للقمع بصورة شديدة أيضاً. في نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلنت وزارة العدل الروسية أن "الحركة الاجتماعية الدولية لمجتمع الميم" هي "منظمة متطرفة" وحظرتها. قد يبدو أن هذا القانون ليس له أي أثر يذكر، نظراً إلى عدم وجود مثل هذه الحركة الرسمية. إلا أن هذه الخطوة من الناحية العملية، جرمت أي تعبير عن دعم حقوق المثليين والتصرف في حد ذاته بصورة علنية كمثلي. اليوم، يمكن أن يتمخض أي تجسيد صريح للسلوك المثلي في روسيا عن عقوبة السجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات.

ولا تستهدف إجراءات موسكو الجديدة ذات الطابع اليميني المثليين الروس وحدهم، فقد شن الكرملين هجمات على النساء، جزئياً من خلال الترويج للقيود المفروضة على الإجهاض. وفي مناسبة عامة أخيرة، انتقد كل من بوتين والبطريرك كيريل، وهو رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، الإجهاض. وجادلا بأن البلاد في حاجة إلى مزيد من الروس المولودين فيها وذلك لمنع المهاجرين من اكتساحها [والهيمنة عليها]. وفي نهاية الحدث، استمع الرئيسان إلى نداء تم تدبيره مسبقاً ووجهته أم لـ10 أطفال من أجل حظر ذلك الإجراء [الإجهاض].

وحتى الآن لم يقم أحد بصياغة مشروع قانون يجرم الإجهاض. وقد وعدت رئيسة مجلس الشيوخ الروسي فالنتينا ماتفينكو بأن الحق في الاختيار لن يتم حظره بصورة كاملة في البلاد، بيد أن الحكومات الإقليمية بدأت في منع العيادات الخاصة من أن تعرض إجراء عمليات الإجهاض. وقد تتوسع مثل هذه القيود المفروضة على العيادات الخاصة في السنوات المقبلة.

أممية اليمين المتطرف

وقد يكون لسياسات بوتين اليمينية صدى طيب في الداخل، فتساعد في تبرير استمرار حكمه وغزوه أوكرانيا. إلا أن السياسة الداخلية وحدها لا تستطيع أن تفسر حربه على الـ"ووك". ولا يعود عجزها عن ذلك فقط إلى أنها تشمل هجمات على الهجرة الأوروبية وحركة العدالة العرقية في الولايات المتحدة. وعلى العكس مما يقترحه بوتين، فإن روسيا ليست مجتمعاً محافظاً في الأساس. ووفقاً للاستطلاعات التي أجراها مركز ليفادا، على سبيل المثال، فإن مجرد واحد في المئة من الروس يذهبون إلى الكنيسة أسبوعياً. ويفيد أكثر من 65 في المئة من الروس بأن الدين لا يلعب دوراً مهماً في حياتهم. وطبقاً لاستطلاعات أخرى أجرتها مؤسسة ليفادا، فإن نحو 65 في المئة من الروس يؤيدون الحق في الإجهاض. وفي الوقت نفسه لا يشكل المتحولون جنسياً سوى جزء صغير من سكان البلاد. ولم يحظ هؤلاء المتحولون باهتمام شعبي يذكر قبل أن يشن بوتين هجماته تلك.

وبدلاً من ذلك، تبدو تصريحات بوتين الغاضبة وكأنها لا تستهدف الجمهور المحلي بقدر ما هي موجهة إلى اليمينيين في الخارج. ويبدو أنها تخاطب أوروبا وأميركا الشمالية على وجه الخصوص، وهما المكانان اللذان خسرت فيهما موسكو أكبر قدر من الدعم خلال العقد الأخير من حكم بوتين. وفي كل من المنطقتين، فإن زعماء التيار السياسي الرئيس الذين فرضوا عزلة على موسكو يكافحون من أجل محاربة السياسيين اليمينيين المتمردين الذين يدعمون القيم المسيحية ظاهرياً. وعلى نحو متزايد، يفوز هؤلاء المحافظون الشعبويون. ويعتقد بوتين أنه قادر على كسب دعمهم من خلال تبني خطابهم، ومن ثم يستطيع بفضل هذا الدعم العثور على طريقة لتحسين موقف روسيا الدولي.

ومن السهل أن ندرك لماذا يظن الكرملين أن مثل هذا النهج ضروري، ولماذا سينجح. بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، فرض الغرب عقوبات على البلاد، ووجد بوتين صعوبة في التعامل مع شركائه المعتادين في أوروبا (وإن لم يكن ذلك مستحيلاً). إلا أن اليمين المتطرف في القارة ظل يتقبل بوتين. على سبيل المثال، أشادت الزعيمة اليمينية الفرنسية مارين لوبن بضمه شبه جزيرة القرم. وأكدت أيضاً أن بوتين "يرعى مصالح بلاده ويدافع عن هويتها". وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن البنوك الروسية قدمت القروض لحزبها. لقد ثبت أن هذا كان استثماراً ذكياً، ففي عامي 2017 و2022، جاءت لوبان في المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

تبدو تصريحات بوتين الغاضبة وكأنها لا تستهدف الجمهور المحلي بقدر ما هي موجهة إلى اليمينيين في الخارج.

وليست لوبان السياسي الغربي المحافظ الوحيد الذي أقام تحالفاً فضفاضاً مع الكرملين، فقد استقبلت موسكو أيضاً حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف الصاعد بحفاوة بالغة، كما تحدث عديد من كبار المسؤولين في ذلك الحزب بإعجاب عن موسكو. وعلى سبيل المثال، وصف أحد القادة الإقليميين بوتين بأنه "رجل أصيل، رجل حقيقي ذو إطار سليم من القيم". ولقد أصبح فيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري الذي يحب التنديد بسياسات الـ"ووك" ومجتمع الميم، شريكاً لبوتين يعتد به. حتى إن الزعيم المجري منع إرسال مساعدات الاتحاد الأوروبي إلى كييف، مما ساعد موسكو في جهودها الحربية.

لكن أياً من هذه الأحزاب أو السياسيين لا يعتبر بالنسبة إلى بوتين ذا قيمة مماثلة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. وقد أثنى ترمب كمرشح وكرئيس، مراراً وتكراراً على بوتين، وإذا فاز بالحكم مرة أخرى في عام 2024، فقد يتوقف عن مساعدة أوكرانيا، كما أشار هو. وإذ لم يشر ترمب نفسه قط إلى سياسات بوتين على أنها السبب وراء إعجابه بالرئيس الروسي، فإنه لفت بدلاً من ذلك إلى قوة بوتين المفترضة. إلا أن مستشاري ترمب أشاروا إلى ذلك [بالنيابة عنه]. مثلاً، كبير المستشارين الاستراتيجيين لدى ترمب، ستيف بانون، أشاد بالرئيس الروسي ووصفه بأنه "مناهض لـلووك". أما كارلسون، الذي ربما كان أبرز إعلامي مؤيد لترمب، فقد ألقى خطاباً في بودابست جاء فيه أن النخب الأميركية تكره روسيا "لأنها دولة مسيحية".

بالنسبة إلى بوتين، تعتبر سياسات اليمين المتطرف وخطابه وسيلة فعالة لبناء الدعم الدولي. فبوتين، في جوهره، يشكل ما يشبه أممية اليمين المتطرف، على غرار الأممية الشيوعية، التي روجت للثورة السوفياتية في النصف الأول من القرن الـ20. وكما هي الحال مع الاتحاد السوفياتي، الذي لم يمارس قط المبادئ الفلسفية الشيوعية، فلا يهم أن ينتهك بوتين وبطانته المبادئ التي يتبناها الشيوعيون. وما يهم هو أن تساعده هذه المبادئ على كسب الأصدقاء وتقويض النظام الليبرالي.

وحتى لو لم تتحقق رؤية بوتين بصورة كاملة، فإن وجود "أممية اليمين المتطرف" من شأنها أن تساعد في تعزيز نفوذه. ويأمل في أن يدفع ذلك الدول الغربية إلى تخفيف العقوبات، على سبيل المثال، أو تقليص الدعم الذي توفره لكييف. وقد تكون النتيجة نظاماً أكثر ديمومة في الكرملين. وبالنسبة إلى بوتين، فإن ذلك في حد ذاته سيكون بمثابة فوز.

مترجم من فورين أفيرز 2 يناير 2024