ربما يكون في مقدورنا أن نقول اليوم إن 2004 كان العام الذي أوصل فيه الإنتاج السينمائي العالمي ذلك النوع المسمى "البيو إيبك" (أي سينما السيرة) إلى ذروة ازدهاره وبالتواكب معه نوع من سينما سياسية تكاد بدورها تكون سينما سيرة ولو بشكل موارب، وذلك في نوع من التركيز على شخصيات من القرن العشرين تستعيد أفلامه، ومعظمها روائي على أي حال، ذكراها على الشاشة كنوع كان لا بد منه طالما أن ذلك القرن اختتم سنواته وبات جزءاً من التاريخ بقدر ما هو جزء من ذكريات مرتادي صالات السينما أو مشتري أسطواناتها المدمجة.
وطبعاً لن يكون من المنطقي هنا وضع لائحة بالأفلام التي حققت في ذلك المجال خلال العام الذي نتحدث عنه وخلال الأعوام السابقة التي كانت قد انقضت منذ بدأت الألفية الجديدة. ومن هنا ربما يصح أن نكتفي بالحديث على واحد من أغرب المشاريع التي حققت عامئذ في هذا المجال. وربما لكونه المشروع الأكثر جرأة والأقل بداهة.
ففي ذلك الزمن كان الانفلاش الجنسي الأميركي، وبخاصة في السينما الهوليوودية، من القوة والجرأة بحيث إن اسم الدكتور ألفريد كينزي كان قد بات منسياً. ومعه نسي واقعاً أنه كان هو الذي عبر دراسات نشرها عند نهايات العقد الأربعيني من القرن الماضي، من كشف للأميركيين ولغير الأميركيين أيضاً "العادات الجنسية لدى الأميركيين" مما شكل صدمة هائلة في مجتمع أميركي كان من المجتمعات الأكثر محافظة في العالم تعبر عن ذلك احتشامية هوليوود تحديداً ليس فقط عبر قوانين تفرضها الرقابة، بل أكثر من ذلك عبر تفاهمات إنتاجية تميز السينما الأميركية عن السينمات الأوروبية "الفاحشة" جاعلة من مشهد قبلة في فيلم ثورة أخلاقية هائلة!
الجنس على خطى السياسة
من هنا وعلى غرار ما كان حدث بالنسبة إلى السياسة في السينما منذ "فيتنام" و"فضيحة ووترغيت" قبل ذلك بنحو ربع قرن، ها هي هوليوود نفسها تغوص الآن في "ثورة جنسية" مماثلة وصلت في العام الذي نتحدث عنه إلى تحقيق فيلم "كينزي" عن ذلك العالم الطبيب الذي كان كثر لا سيما منهم أهل السينما قد نسوا أنه كان هو من عبَّر عن تلك الثورة قبل ما يقارب نصف قرن.
وكان الفيلم مغامرة إنتاجية في نظر الذين أشفقوا على صانعيه. لكنه لم يكن كذلك بالنسبة إلى الجمهور العريض الذي أقبل على الفيلم يشاهده ليكتشف "حقائق" كانت غائبة عنه، ولا بالنسبة إلى النقاد الذين حيوا شجاعته إذ شاهدوه في المهرجانات، من دون أن يعتبروه تحفة سينمائية. ففي نهاية الأمر لم يكن "كينزي" فيلماً كبيراً. كان فيلماً جريئاً ومنصفاً وحسب. ومن هنا سرعان ما غاب تماماً ولم يعد أحد يتحدث عنه.
ومن المنطقي أن العام الجديد 2024، الذي سيكون عام الذكرى العشرين لظهور ذلك الفيلم، لن يعيده إلى الحياة ولا حتى في العروض التلفزيونية. فمن ذا الذي قد يبالي اليوم بفيلم يتنطح للحكي عن عالم يقول للأميركيين كل ما يعرفونه، من ثم لن يهتموا اليوم بمعرفته أكثر وقد غاب تماماً الجيل الذي شكلت تلك الدراسات العلمية ثورة بالنسبة إليه؟
فرويد على الطريقة الأميركية
مهما يكن، لا شك أن الفيلم يستحق وقفة منا هنا. فهو على أي حال نموذج في الكيفية التي يمكن بها للسينما أن تستعير من الواقع التاريخي موضوعاً تعتبره نوعاً من إعادة اعتبار. موضوع يعود ثلاثة أرباع القرن يوماً بيوم إلى الوراء وتحديداً إلى يوم الخامس من يناير (كانون الثاني) 1948 حين حدث ما يعتبره الفيلم ثورة حقيقية في الثقافة الأميركية ليطلق منه موضوعه على الشاشة.
في ذلك اليوم ظهر لدى دار نشر علمية –طبية أميركية كتاب الدكتور ألفرد كينزي المعنون "سلوك الرجل الجنسي"، ليكون ذلك اليوم التاريخ الحقيقي لبداية تكلم الأميركيين عن الجنس بصراحة مطلقة لم يكن ثمة سابق لها في تاريخ ذلك المجتمع.
يومها، وفي الأقل في الدوائر العلمية الأميركية، بدأ النظر إلى الدكتور كينزي بوصفه "فرويد أميركا" إن لم يقارن بالتدريج بالعقول الكبيرة النيرة في تاريخ العالم، من غاليلي إلى تشارلز داروين.
والحقيقة أن هذا ما يقوله لنا الفيلم منذ مفتتحه، ولكن من دون أن ينسى أن يفيدنا بأن الرجل كان يحارب في الوقت نفسه ولا يزال يحارب ويحاول كثر نسف أفكاره حتى اليوم.
العودة إلى التربية العائلية
وما الفيلم منذ ذلك التأكيد، سوى استعادة لحياة كينزي المتحدر من أب شديد المحافظة، وكانت تتآكله منذ طفولته المبكرة أمراض لا تهدأ، لكن اكتشافه في فتوته للطبيعة وللتعايش مع الحيوانات ورصد سلوكياتها، سيكون وسيلته للبرء من تلك الأمراض. وهو لن ينسى ذلك أبداً، لا سيما حين اختار لاحقاً أن يدرس السيكولوجيا وعلم الأحياء في الجامعة التي درس فيها أول الأمر، جامعة هارفرد، قبل أن ينتقل ليعمل باحثاً في جامعة إنديانا حيث سيشتغل على حشرات نادرة مركزاً اهتمامه على سلوكها الجنسي!
ومهما يكن فمن الواضح أن هذا كله كان من شأنه في الفيلم أن يبدو مملاً لولا أن كينزي، سيكتشف حين يتزوج من الفتاة التي يحبها، كلارا ماكميلان أن ثمة في تربيته الجنسية ما يصعب علاقته بزوجته ومن هنا يبدأ عبر تطبيق دراسته حشراته بالاهتمام بالأمر اهتماماً يجعله يكتشف هذه المرة أن ما يعانيه إنما هو ما يعانيه معظم الأميركيين. وحتى لئن كان الزوجان قد أنجبا تباعاً ثلاثة أطفال فإن كينزي سيرى أن الزواج والإنجاب إنما يقفان خارج العلاقة الجنسية: لقد جعلتهما التربية نوعاً من مسلك تقني لا أكثر. وهنا راح كينزي يطرح على سؤال الـ"لماذا؟" الذي يقلب الفيلم هنا رأساً على عقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدايات مختصرة
الحال أن الأمر الجيد في هذا الفيلم الذي حققه بيل كوندون الذي كان قبل "كينزي" معروفاً بأفلامه التلفزيونية كما بكتابته عديداً من السيناريوهات وأشهرها سيناريو فيلم "شيكاغو"، وقام بالدور الرئيس (دور الدكتور كينزي) فيه ليام نيزون في واحد من آخر الأفلام الجادة التي مثلها قبل انخراطه البائس في أفلام الحركة والمغامرة، هو أنه اختصر كل تلك البدايات مما أنقذه من ملل كان يمكنه الوقوع فيه ليحول الفيلم بعد ذلك إلى تصوير نوع من الصراعات يعيشهما كينزي، لعل أبرزها وأهمها إلى الصراع مع المجتمع الذي وقف سداً صلباً في وجه نظرته الثورية التي كان همها أن تعيد جزءاً كبيراً من الفشل الجنسي في الحياة الأميركية إلى التربية الزاهدة و"المحتشمة نفاقاً" التي يفرضها المجتمع من ناحية، الصراع الذي يخوضه العالم مع ذاته من ناحية ثانية.
ولا شك أن الحل الذي ارتآه كينزي للصراعين كمن في ذلك الاستفتاء الضخم الذي اشتغل عليه ومساعدوه سنوات عديدة، وأسفر عن تلك الدراسة التي لا سابق لها لا في التاريخ الأميركي ولا في التاريخ العالمي.
وهو الاستفتاء الذي شكل نشر استنتاجاته وتفاصيله في الكتاب الذي كان يفترض به أن يكون مجرد مطبوعة طبية علمية تقرأ من العلماء المتخصصين ومن غير المتوقع أن تنتشر بين الناس العاديين. الناس الذين سيصرخ كينزي ذات لحظة وقد أرعبه وسره في الوقت نفسه أن يكونوا هم الأكثر قدرة على تفهم تلك الاستنتاجات التي تخلص إليها دراسة الاستفتاءات التي أجريت مع ألوف الأميركيين.
لقد أرعبه ذلك لأنه شعر أنه قد دخل إلى حميمية الناس من دون استئذانهم، لكنه سره أن يجد عبر ذلك الدخول تفسيراً مدهشاً لجزء من حياة الناس كان خافياً عنهم لكنه بات الآن معروضاً أمامهم ليفهوا جزءاً أساسياً من تاريخهم الخاص، التاريخ الذي بات لا بد لهم من اكتشافه والتعامل معه، إن لم يكن لتغيير ذواتهم، ففي الأقل لتبديل الأساليب التي يربون بها الجيل التالي لهم. وربما تماماً على غرار ما حدث للدكتور كينزي نفسه، ويطالعنا في جانب أساس من الفيلم، حيث في مقابل نجاحه المهني الثوري، دفع هو نفسه الثمن فشلاً في حياته الخاصة. فشلا ربما شكل تركيز الفيلم عليه خلال قسمه الأخير عيباً أساسياً من عيوب فيلم كان لا بد له أن يصور العيوب على أي حال.