في خضم المعارك العنيفة التي تشهدها ساحة الاقتصاد العالمي، تتزايد وتيرة التوقعات السلبية التي تشير إلى أن الاقتصاد العالمي على بعد خطوات من ركود عنيف بدأت ملامحه في الظهور، مع استمرار توقعات سلبية تؤكد اتجاه الاقتصاد العالمي نحو مزيد من الأزمات مع الركود الوشيك.
وبخلاف التقارير السلبية الصادرة عن المؤسسات الدولية، قلّص تقرير حديث تقديراته للنمو العالمي وعوائد السندات الحكومية، متوقعا أن تُنهي العوائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات، والتي تُعد مقياسا لتكاليف الإقراض العالمية، العام الحالي عند مستوى 1%.
وأضرّت الحرب التجارية العالمية الدائرة بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وبعض دول أوروبا من جهة أخرى، بمعدلات النمو الاقتصادي العالمي وعززت توقعات بشأن خفض أسعار الفائدة من جانب بنوك مركزية كبيرة، وأدت إلى انخفاض حاد في عوائد السندات هذا العام.
معدلات النمو تتراجع إلى هذه المستويات
في مذكرة بحثية حديثة، توقع بنك "يو.بي.إس" انخفاض النمو العالمي إلى 2.5% خلال الفصول المقبلة، مقارنة بنسبة سنوية قدرها 3.2% في السابق. وخفّض البنك تقديراته لعوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات بمقدار 25 نقطة أساس إلى 1% لعام 2019 و1.25% لعام 2020. وكان يتم تداول سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات عند 1.48% اليوم الأربعاء.
وعدّل البنك توقعاته لعوائد السندات الحكومية الألمانية لأجل 10 سنوات بالخفض بمقدار 55 نقطة أساس إلى -75 نقطة أساس بنهاية عام 2019، وبمقدار 60 نقطة أساس إلى -50 نقطة أساس بنهاية عام 2020. ويجرى تداول السندات الألمانية حاليا عند -0.68%.
كما قلّص البنك توقعاته بشأن عوائد سندات أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا. ويتوقع البنك انخفاض عوائد السندات الحكومية البريطانية لأجل 10 سنوات إلى مستوى 0.25% بنهاية العام، وتداولها عند مستوى 0.75% بنهاية 2020، انخفاضا من التقديرات السابقة عند 1.00% و1.30% على التوالي. ويجرى تداول السندات الحكومية البريطانية حاليا عند 0.45%.
قطاع الأعمال بمنطقة اليورو يواصل تراجعه
وفيما يخيم الغموض على مستقبل غالبية الأسواق والقطاعات، أظهر مسح حديث أن نمو قطاع الأعمال في منطقة اليورو سجّل وتيرة أسرع قليلا من التوقعات، لكنه ظل ضعيفا، إذ لم ينجح قطاع صناعة الخدمات المهيمن إلا في تعويض جزء من التباطؤ في قطاع الصناعات التحويلية.
وارتفعت القراءة النهائية لمؤشر "آي.إتش.إس. ماركت" المجمع لمديري المشتريات في منطقة اليورو، وهو يعد مقياسا جيدا لمتانة الاقتصاد الكلي، إلى 51.9 في أغسطس (آب) الماضي من 51.5 في يوليو (تموز) الماضي.
وتزيد القراءة النهائية قليلا عن الأولية البالغة 51.8، لكنها تظل قريبة على نحو خطير من مستوى الخمسين نقطة الفاصل بين النمو والانكماش.
وأظهرت البيانات أن مبيعات التجزئة في المنطقة نزلت متماشية مع التوقعات في يوليو (تموز) الماضي، لتعطي مؤشرا سلبيا من المستهلكين في بداية الربع الثالث.
وذكر المسح الذي أعدته شركة "آي.إتش.إس. ماركت"، أن المؤشر المجمع يشير إلى نمو اقتصادي نسبته 0.2% فقط في الربع الحالي، ما لم تحدث تغييرات كبرى في سبتمبر (أيلول) المقبل. وقالت الشركة التي أعدت المسح إن البيانات الرسمية تشير إلى أن النمو قد يكون أضعف.
وكان مسح نشرت نتائجه يوم الاثنين الماضي، أشار إلى أن نشاط الصناعات التحويلية انكمش للشهر السابع على التوالي في أغسطس (آب) الماضي، لكن البيانات التي صدرت اليوم الأربعاء تشير إلى تسارع نمو قطاع الخدمات ليرتفع مؤشر مديري المشتريات بالقطاع إلى 53.5 من 53.2 في يوليو (تموز)، متخطيا القراءة الأوليّة البالغة 53.4.
كيف تتصرف البنوك المركزية العالمية؟
في سياق متصل، يواجه محافظو البنوك المركزية حول العالم الأزمات التي تنتظر العالم مع توقعات بالاتجاه نحو ركود عنيف خلال الفترة المقبلة.
وزير الخزانة الأميركي الأسبق، لورانس سامرز، ذكر في رؤية تحليلية نشرها موقع "بروجيكيت سينديكيت"، أن قيام البنوك المركزية على مستوى العالم بتغيير أهداف التضخم واستراتيجيات التواصل أو حتى الميزانيات العمومية لا يمثل استجابة كافية للتحديات التي تواجه الاقتصادات الرئيسة في الوقت الراهن.
وأضاف "على العكس، فإن 10 سنوات من تراجع معدل التضخم أدنى المستهدف في جميع أنحاء العالم المتقدم وسط توقعات الأسواق باستمرار الوضع لمدة 30 عاماً مقبلة، إضافة إلى الفشل الذريع لجهود بنك اليابان المكثفة لزيادة معدل التضخم، وهو ما يشير إلى أن ما كان يعامل في السابق على أنه بمثابة أمر بديهي هو في الواقع مسألة مضللة: لا يمكن للبنوك المركزية دائماً تحديد معدلات التضخم من خلال السياسة النقدية".
وذكر أنه في الوقت الحالي، فإن أوروبا واليابان عالقتان فيما قد يطلق عليه "الثقب النقدي الأسود"، وهو فخ السيولة الذي يعني أن هناك مجالاً محدوداً للغاية للسياسة النقدية التوسعية. وتبعد الولايات المتحدة بمرحلة ركود اقتصادي واحدة فقط عن مصير مماثل، بالنظر إلى أنه لن يكون هناك مساحة كافية لخفض معدلات الفائدة عندما يأتي موعد الاتجاه الهابط المقبل.
وفي ظل سندات حكومية لأجل 10 سنوات بمعدلات فائدة عند 1.5% والفوائد الحقيقية السالبة، فإن المجال أمام التيسير الكمي والتوقعات المستقبلية لتوفير حافز تراكمي محدود للغاية، حتى مع افتراض أن هذه الأدوات فعالة، وهو أمر مشكوك فيه وفق النظريات الاقتصادية.
تراجع الطلب الكلي ونظرية "الركود المزمن"
الوزير الأميركي الأسبق كشف أن هذه التطورات ستوفر المزيد من الدعم لمفهوم الركود المزمن، لكن في الواقع فإن القضية أكثر عمقاً مما هو مقدّر بشكل عام. وبالنسبة إلى ما كان متوقعاً عندما سعى الوزير الأميركي الأسبق لإحياء مفهوم الركود المزمن في عام 2013، فإن مستويات العجز والديون الوطنية كانت أعلى بكثير، كما أن معدلات الفائدة الاسمية والحقيقية كانت أقل، لكن مع ذلك كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي يشهد تباطؤاً أكبر بكثير.
ويشير ذلك إلى مجموعة من القوى التي تعمل على تقليص الطلب الكلي والذي تم تخفيف آثاره بشكل جزئي فقط من خلال السياسات المالية. وتترسخ المناقشات التقليدية للسياسة المالية بالنظر لمشكلات الاقتصاد الكلي على أنها بمثابة انعكاس للاحتكاكات التي تؤدي إلى إبطاء التقارب مع توازن السوق.
وتكمن الفكرة في أن الجمع بين معدل التضخم المنخفض ومعدل الفائدة الحقيقي المحايد والآخذ في الهبوط، إضافة إلى الحد الأدنى الفعال لمعدلات الفائدة الاسمية، قد يحول دون استعادة حالة التوظيف الكامل. وبحسب هذه الرؤية، فإن أيّ شيء يمكن القيام به لخفض معدلات الفائدة الحقيقية يعتبر بمثابة أمر بنّاء، وفي ظل مرونة كافية في معدل الفائدة فإنه يمكن التغلب على الركود المزمن.
ومع كون المشكلة المباشرة تتمثل في معدلات الفائدة المفرطة، فإن النظر إلى البنوك المركزية والسياسات النقدية أولاً من أجل إيجاد حل يُعد أمراً طبيعياً.
وعلى نحو متزايد، نشك في أن الأمور قد تكون بهذا الوضوح، حيث إن الاتجاه شبه العالمي بين محافظي البنوك المركزية قد يكمن في تفسير التزامن بين معدلات الفائدة المنخفضة للغاية وعدم تسارع التضخم على أنه بمثابة دليل بأن معدل الفائدة الحقيقي المحايد قد انخفض، وعلى استخدام أطر السياسة النقدية التقليدية مع معدل فائدة حقيقي محايد متغير.
لماذا أصبحت التفسيرات المتشائمة أمراً طبيعياً؟
وأشار التقرير إلى أن مزيداً من التفسيرات المتشائمة في الوقت الحالي أصبحت أمراً طبيعياً، حيث إن هناك أسباباً قوية للاعتقاد بأن قدرة معدلات الفائدة المنخفضة على تحفيز الاقتصاد قد تضاءلت أو ربما سارت في الاتجاه العكسي.
وتراجعت حصة قطاعات السلع المعمرة الحساسة لمعدلات الفائدة في الناتج المحلي الإجمالي.
وتزايدت أهمية تأثير الادخار المستهدف مع انخفاض معدلات الفائدة، في حين أن الأثر السلبي لتقليص معدلات الفائدة على الدخل المتاح قد تزايد مع ارتفاع الديون الحكومية. ويقوض تراجع معدلات الفائدة في البيئة الحالية المراكز الرأسمالية للوسطاء الماليين (البنوك وغيرها) وبالتبعية قدرتهم على الإقراض.
ومع عولمة الدورة الاقتصادية، فإن مسار سعر الصرف بات أقل أهمية بالنسبة إلى السياسة النقدية، كما أنه نظراً لأن معدلات الفائدة الحقيقية سالبة فمن المشكوك فيه أن تمثل تكلفة رأس المال أمراً مهما بالنسبة إلى الاستثمار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنظر إلى أكثر الحالات سلبية أولاً، فمع تسبب تقليص معدلات الفائدة في آثار إيجابية وسلبية على الطلب، فربما لا يكون هناك معدل فائدة حقيقي متوافق مع الاستفادة المتكاملة من الموارد. وربما يعمل خفض معدل الفائدة أدنى مستوى معين على تقييد الطلب بدلاً من زيادته، وفي هذه الحالة، لن تكون السياسة النقدية عاجزة عن تحقيق التشغيل الكامل للعمالة فحسب، بل ستكون كذلك عاجزة عن رفع معدل التضخم.
وإذا كان الطلب يتراجع باستمرار عن القدرة، فإن منحنى "فيليبس" يعني أن معدل التضخم سيميل إلى الانخفاض وليس الارتفاع. وحتى إذا أدت تخفيضات معدل الفائدة عند كل النقاط تقريباً إلى زيادة الطلب، فإن هناك أسباباً وجيهة للقلق إذا كان هذا التأثير سيكون ضعيفاً.
ويمكن إبطال أي أثر إيجابي قصير الأجل على الطلب بالآثار السلبية الناجمة عن معدلات الفائدة المنخفضة على الأداء اللاحق، وهو ما قد يحدث لأسباب ذات صلة بالاقتصاد الكلي أو الاقتصاد الجزئي.
معدلات الفائدة المنخفضة وتعزيز الديون
ومن منظور الاقتصاد الكلي، فإن معدلات الفائدة المنخفضة تعزز ديون الرافعة المالية وفقاعات الأصول عبر تقليل تكاليف الاقتراض كما تشجع المستثمرين على السعي لتحقيق عوائد.
وعلى نطاق أوسع، فإن الباحثين في مجال الفقاعات بدايةً من المؤرخ الاقتصادي "تشارلز كيندلبيرغر" ومن بعده، يؤكدون دائماً على دور الأموال الرخيصة والسيولة الوفيرة.
ومن منظور الاقتصاد الجزئي، تعمل معدلات الفائدة المنخفضة على تقويض قوة الوسطاء الماليين من خلال تقليص ربحيتهم وعرقلة الكفاءة في تخصيص رؤوس الأموال من خلال تمكين حتى الشركات الأكثر ضعفاً من تلبية التزامات خدمة الدين، وربما تمنع كذلك المنافسة عن طريق تفضيل الشركات القائمة.
كما يوجد خطر بالنسبة إلى اقتصاد تستطيع فيه الشركات الاقتراض والاستثمار بشكل مربح، حتى وإن كان عائد المشروع المعني لا يحقق أيّ عائد. وتشير هذه الاعتبارات إلى أن تقليص معدلات الفائدة قد لا يكون مجرد أمر غير كافٍ، بل ربما يأتي بنتائج عكسية في حقيقة الأمر.
وإذا كان تخفيض معدلات الفائدة غير كافٍ أو ذا نتائج عكسية، فإن براعة محافظي البنوك المركزية في تيسير السياسة النقدية في بيئة من الركود المزمن هو أمر غير مطلوب، ولكن المطلوب هو الاعتراف بالعجز من أجل تحفيز الجهود التي تبذلها الحكومات لتعزيز الطلب من خلال السياسات المالية وغيرها من الوسائل.