Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لوحات المغربي غزلاني تنقل مباهج وآلام الأرض

يحذرنا عبر أعماله الفنية من عواقب التخريب التدريجي الذي يمارسه الإنسان على كوكبه

التشكيلي المغربي مصطفى غزلاني في ورشته (صفحة الفنان على فيسبوك)

ملخص

تدفعنا لوحات التشكيلي المغربي مصطفى الغزلاني إلى التفكير في ما آلت إليه وما قد تؤول إليه بسبب الوجود البشري.

في معرضه الجديد، المقام حالياً بأتيليه "أثر أرت" بمدينة المحمدية تحت عنوان "الأرض، محمولي الحميمي"، يطرح التشكيلي المغربي مصطفى غزلاني عبر لوحاته المعروضة أسئلة غزيرة حول علاقتنا بالأرض، وحضورها في حياتنا ومدى انتباهنا إليها باعتبارها عنصراً يشكل وجودنا.

تنقل إلينا لوحات الغزلاني مباهج الأرض وآلامها أيضاً، وتدفعنا إلى التفكير في ما آلت إليه، وما قد تؤول إليه بسبب الوجود البشري. وبقدر ما تترجم الأعمال الفنية لغزلاني أشكال التفاعل الإنساني مع الأرض، بقدر ما تحذرنا من عواقب التخريب التدريجي الذي يمارسه الإنسان على كوكبه.

تحاول لوحات غزلاني أن تستحضر أشكالاً تفاعلية عديدة، إذ يمكن للمتلقي أن يرى تفاصيل الأرض ويلمسها، ويسمع أصواتها، ويشم أيضاً روائحها. إننا أمام تجربة تحتفي بالحواس وتختبر مختلف الجوارح.

لا يرسم الفنان المغربي الأرض فقط، بل ينقل عناصرها إلى لوحاته، إذ يتحول التراب والحصى والأغصان والأوراق إلى عناصر مدمجة داخل العمل الفني.

غالباً ما تشكل الطفولة ملمحاً من ملامح الإبداع في فترات لاحقة من عمر الإنسان. وتبدو هذه النظرية جلية في تجربة مصطفى غزلاني، فتشكلت علاقته بالأرض قبل مرحلة الإدراك المعرفي، إذ كان يبدع لعبه في الطفولة المبكرة من الطين، وكان يصنع عربات ومنازل وحيوانات طينية، ثم يجففها في الظل، وذلك في سياق تجارب نحتية إطارها الأساس هو اللعب.

هذه الثقافة الرعوية، التي ينتمي إليها معظم مجايليه من الأطفال القرويين، كانت بمثابة مرجعية فنية سيتردد صداها في مختلف الأعمال التشكيلية لغزلاني. وربما ما يمارسه الفنان الآن هو الاستمرار في اللعب، لكنه لعب مسنود بمعرفة نظرية وبتصور فني، وباستراتيجية تتوخى نقل فلسفة الفنان إلى المتلقي عبر عناصر مشتركة يعرفها الطرفان، لعل الطين هو العنصر الأبرز فيها.

رسائل الأرض

يهيمن اللون البني ومشتقاته على لوحات غزلاني بما هو امتداد طبيعي لحضور التراب والطين والحجر باعتبارها عناصر مشكلة للأرض، لكن المتمعن في هذه اللوحات سينتبه إلى أنها لا تكاد تخلو من اللون الأسود، وإن كان حضوره في الغالب يتخذ شكل الخلفيات أو العناصر الصغيرة التي تقف دلالاتها في الضفة المقابلة لدلالات العناصر الكبيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فإذا كان البني رمزاً صريحاً للتراب، والأصفر دليلاً على الصحراء، والأزرق رمزاً للماء، والأخضر دليلاً على الخصوبة، فإن الأسود بحضوره القليل لن يكون بالضرورة معادلاً لليل الأرض، بل قد يكون المقابل الفني لغاباتها المحروقة.

يريد غزلاني أن يجعل اللوحة حمالة رسائل، ولا يكتفي بالأثر الفني أو الوقع الذي تخلقه اللوحة بعناصرها في نفسية المتلقي، بل يصر على أن يضيف لها عنصراً لغوياً آخر يرسخ هذه الرسائل، وهو العنوان. فإذا كانت اللوحة التي سماها "المرج المرح" تبعث على الابتهاج بسبب تناغم ألوانها، البني (الأرض) والرمادي (الغيوم الماطرة) والأزرق (الماء) والأخضر (الخصوبة)، في دلالة على استقرار الطبيعة وممارستها لوظيفتها، فإن أعمالاً أخرى تحمل رسائل ذات طابع تحذيري.

وفي لوحة بعنوان "تعبت الأرض" تبدو الرسالة صريحة وواضحة، إذ يأتي العنوان تفاعلاً مع ما توحي به الصورة من الأعباء التي تراكمت على سطح الكوكب، والتي يتحمل فيها الوجود البشري المسؤولية بمفرده. إن حضور اللون البني بشكل طاغ في هذه اللوحة، منفصلاً عن الأزرق والأخضر، يدل على عزلة الأرض ومواجهتها لمحنتها على انفراد.

أما في لوحة بعنوان "صلاة الماء" يتخذ الأزرق شكل دائرة غير مكتملة، بما تحمله هذه الهيئة من حالات التضرع والتواصل الروحي، كما أن النقص في الدائرة قد يرمز إلى نقص في هذا العنصر الطبيعي، ثم في لوحة أخرى بعنوان "حكاية ماء" يبدو الأزرق خافتاً، في دلالة على الندرة.

وتبدو لوحة "أثير ظمأ" مكتملة الدائرة، لكنها تتخلى عن الأزرق وتتخذ البني لوناً لها، في دلالة على النضوب والجفاف. ويأتي هذا التأويل تناغماً مع ما يريد غزلاني من بثه في المتلقي كرسائل تحذر من غد متوتر بسبب استنزاف الماء.

من هنا يبدو واضحاً حضور الأزرق في لوحات الفنان المغربي بما هو رمز للحياة، تناغماً مع مقولة إدواردو غاليانو، "ما يجري في الأنهار هو دم الأرض"، من ثم إذا توقف هذا الدم عن الجريان توقفت معه الحياة.

ضد اليأس

قبل أن يتخذ غزلاني من الأرض موضوعته الأثيرة كان اشتغل في بداياته على ثيمة الظل، إذ حمل معرضه الأول في أواخر التسعينيات عنوان "ظلال" وشارك بأعماله التي احتفت بالظل في معارض فردية وجماعية بالمغرب وسويسرا، لمدة ست سنوات قبل أن يتحول إلى الاشتغال على موضوعة الأرض في تجربة ظل وفيا لها إلى اللحظة الراهنة.

لا تحضر الأرض في لوحات مصطفى غزلاني فقط، بل إنها حاضرة قبل ذلك في أعماله الأدبية منذ كتابه الشعري الأول "خرائط الغيم" الذي صدر في التسعينيات، وكانت الأرض ثيمته الكبرى. واللافت أن غزلاني يزاوج منذ البداية بين الرسم والكتابة، فله فضلاً عن "خرائط الغيم" مجموعتان شعريتان، "أشياء أخرى" و"رعاة بلا أحصنة" وثلاث روايات، "بيض الرماد" و"جراء" و"الوافدون"، إضافة إلى بحث فني بعنوان "التعبير الرعوي".

 

 

حاول غزلاني أن يخلق لتجربته إطاراً نظرياً، عبر إشراك ثلاثة فنانين آخرين معه، هم عبدالمالك بومليك والإمام دجيمي ومحمد نجاحي، إذ أعلن الأربعة سنة 2010 عن ميلاد "جماعة أرض"، وأقاموا معارض تحت هذا المسمى الفني، تزامناً مع ندوات توضح تصور الجماعة وأشكال اشتغالها. وكانت أعمالهم تحتفي بالأرض كموضوعة، وتعتمد أيضاً في تشكلها على عناصر أرضية كالتراب والحجر والحديد والخشب والرمل وغيرها.

توحي لوحات غزلاني بالرحابة والحرية والانطلاق، إنها على الضفة المقابلة لعبارة خوسي ساراماغو "الأرض ليست سوى سجن". تحمل اللوحات طابع التحذير مراراً لكنها لا تقع في اليأس والعدمية.

يبدو عنوان إحدى لوحاته بمثابة شعار يكشف عن فلسفة الفنان، "أحمل كسرة وطني وأحارب الظلام". ويعرف غزلاني أيضاً جملة صموئيل بكيت الشهيرة، "أنت على الأرض. لا يوجد علاج لذلك"، لكنه يؤمن على النقيض بأن الوجود على الأرض ليس بالضرورة ورطة، بل هو نعمة وجودية ينبغي التمتع بها والحفاظ عليها. وما اللوحات التي يرسمها منذ سنوات بألوانها وعناصرها الأرضية إلا تثمين لهذه النعمة وامتداد لهذه المتعة الوجودية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة