Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعادة إحياء أجهزة الاستخبارات والتجسس الروسية

كيف غيرت حرب أوكرانيا قواعد اللعبة بالنسبة إلى عملاء الكرملين ومنافسيهم الغربيين

كسوف جزئي للشمس وشعار النبالة الروسي في موسكو، أكتوبر 2022 (رويترز)

في أبريل (نيسان) 2023، تمكنت شخصية بارزة تحمل الجنسية الروسية، ويشتبه في علاقاتها بالاستخبارات الروسية، من الهرب بشكل مثير من السلطات الإيطالية. وكان أرتيم أوس، وهو رجل أعمال روسي وابن محافظ روسي سابق، قد اعتقل في ميلانو قبل بضعة أشهر بتهمة تهريب تكنولوجيا عسكرية أميركية حساسة إلى روسيا. ووفقاً للائحة الاتهام الصادرة عن محكمة فيدرالية في بروكلين، نيويورك، في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، تاجر أوس بشكل غير قانوني بأشباه الموصلات المستعملة في بناء الصواريخ الباليستية ومجموعة متنوعة من الأسلحة الأخرى، وبعضها استخدم في الحرب في أوكرانيا. وبينما كان أوس ينتظر تسليمه إلى الولايات المتحدة، ساعدته عصابة إجرامية صربية في التسلل إلى خارج إيطاليا والعودة إلى روسيا.

وكان هذا الهرب، الذي تناولته صحيفة "وول ستريت جورنال" في الربيع الماضي، مجرد حادثة واحدة من سلسلة حوادث وقعت أخيراً وأبرزت مدى نجاح قوات الاستخبارات الروسية في إعادة تنظيم صفوفها منذ بداية الحرب في أوكرانيا. ومنذ عام 2022، في الأشهر التي أعقبت شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزوه، بدت وكالات الاستخبارات الروسية مضطربة ومرتبكة، وطردت الدول الأوروبية الدبلوماسيين الروس واحداً تلو الآخر. وبلغ عدد المسؤولين الروس الذين طردوا من أوروبا، بحسب تقدير بريطاني، نحو 600، ويعتقد أن 400 منهم يحتمل أن يكونوا جواسيس. وأخطأ الـ"أف أس بي" [الأمن الفيدرالي الروسي]، وهو جهاز الأمن الداخلي الروسي، أخطأ خطأً فادحاً في تقدير صلابة المقاومة التي من المحتمل أن تواجهها القوات الروسية في أوكرانيا، وافترض أن روسيا قادرة على الاستيلاء على كييف بسرعة، مما أسهم في أداء روسيا المحرج والمهين.

ويبدو، اليوم، أن شبكة الاستخبارات الأجنبية الروسية عادت بقوة لكي تثأر. وهي غدت أكثر ابتكاراً، وتعتمد بشكل متزايد على الرعايا الأجانب، على غرار العصابة الصربية التي ساعدت أوس على سبيل المثال، من أجل مساعدتها على تجنب القيود المفروضة على الروس. وتعاملت وكالات الاستخبارات الغربية، قبل الحرب، مع عمليات روسية ينفذها مواطنون روس، على خلاف الحال اليوم. فأنشطة الاستخبارات الروسية تعتمد على مجموعة من المواطنين الأجانب. ولا يقتصر التجسس على الغرب، أو على تتبع شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، بل يمارس ضغوطاً متزايدة على المنفيين الروس ومعارضي نظام بوتين الذين فروا إلى الخارج منذ بدء الحرب. وتشير أدلة إلى أنشطة من هذا النوع في كل مكان من جورجيا وصربيا، إلى دول حلف شمال الأطلسي مثل بلغاريا وبولندا. وفي أوائل عام 2023، على سبيل المثال، اعتقل المسؤولون البريطانيون خمسة بلغاريين اتهموا بالتجسس لجهة روسيا، بما في ذلك محاولة مراقبة المنفيين الروس في لندن.

وفي الوقت نفسه يبدو أن وكالات التجسس الروسية غيرت توجهاتها. فقبل الحرب، كانت أجهزة الاستخبارات الرئيسة الثلاثة، وهي جهاز الاستخبارات الأجنبية "أس في آر" SVR وجهاز الاستخبارات العسكرية الخارجي "جي آر يو" GRU و"أف أس بي" FSB [الأمن الداخلي]، تتقاسم العمل في ما بينها. وكان مفهوماً بشكل عام، أن يركز جهاز "أس في آر" غالباً على التجسس السياسي والصناعي، بينما انصب عمل جهاز "جي آر يو" على القضايا العسكرية. وفي المقابل، كان جهاز "أف أس بي" ينصرف في المقام الأول إلى روسيا نفسها، مستخدماً فرعه الأجنبي بشكل أساس من أجل تنظيم عمليات ضد الروس في الخارج، وحماية الأنظمة الصديقة في الدول المجاورة. ولم تعد هذه الفروق واضحة. فالوكالات الثلاث منخرطة في الحرب في أوكرانيا انخراطاً عميقاً، وكانت تنشط في تجنيد عملاء جدد بين الروس المنفيين حديثاً في الخارج.

والحق أن لعودة جهاز التجسس إلى موسكو آثاراً قوية على دول الغرب وعلى جهودها الرامية إلى مواجهة التدخل الروسي وعمليات الاستخبارات الروسية. وإذا صحت المؤشرات الأخيرة قد تتهدد أنشطة الاستخبارات الروسية في أوروبا، وأماكن أخرى، دول أوروبا فوق ما تهددتها في المراحل الأولى من الحرب. وفي الوقت نفسه تصف هذه التحولات وصفاً أكثر عمقاً حكم بوتين، في زمن الحرب، المدى الذي بلغته هيكلة وكالات الاستخبارات الروسية على نحو يتماشى مع النماذج السوفياتية السابقة. وبوتين لا يحاول التعويض عن الفشل الذي مني به جهاز "كي جي بي" السوفياتي في مواجهته مع الغرب، أواخر القرن الـ20، فحسب، بل يحاول كذلك استعادة مجد جهاز ستالين السري الضخم، الذي حقق نجاحاً كبيراً ضد الغرب في العقود بين الثورة البلشفية والحرب العالمية الثانية.

حرب الـ100 عام

وقبل أن تبدأ روسيا حربها الشاملة في أوكرانيا عام 2022، بدت أجهزة الاستخبارات في البلاد ضعيفة إلى حد ما. وكانت عانت مدة طويلة النزاع الداخلي في صفوفها، وشهدت معارك على النفوذ، فضلاً عن انهيار الثقة بين الجنرالات والرتب الأدنى، مما أدى إلى تأخير وفشل كبيرين في نقل المعلومات من الميدان إلى القيادات العليا. وفي الوقت نفسه عرفت عمليات الاستخبارات الروسية، على نحو مشهود، بافتقارها إلى التنظيم والدقة، مثلما حصل في عمليات التسميم الفاشلة للضابط العسكري الروسي السابق، سيرغي سكريبال، في المملكة المتحدة في عام 2018، وزعيم المعارضة أليكسي نافالني في عام 2020. وبدا أن أجهزة التجسس فقدت قدراً كبيراً من بريقها السابق، وهي مشكلة خرجت إلى العلن مع القراءة الخاطئة والمحرجة للوضع في أوكرانيا أثناء مراحل التخطيط للغزو الروسي.

ولكن مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، جددت وكالات الاستخبارات الروسية تنظيم صفوفها، وحفزها تعيين هدف قوي لعملياتها. وبدلاً من التركيز على أخطائها، والتساؤل عن سبب فشلها التام في توقع مقاومة الغزو الأوكرانية، مضت الوكالات قدماً، واكتسبت قوة جديدة من فكرة خوضها مواجهة مع الغرب كله. ولم يقتصر الأمر على زيادة أنشطتها وإجراءاتها في أوروبا، وفي البلدان المجاورة، فحسب، بل كثف جهاز "أف أس بي" محاربة العمليات الأوكرانية على الأراضي الروسية. واعتبر امتناع بوتين من إجراء تغيير جذري في الأجهزة الأمنية على رغم كارثة عام 2022، إجراءً إيجابياً. فمنذ تسعينيات القرن الـ20 المضطربة، سادت وجهة نظر مشتركة على نطاق واسع بين ضباط الاستخبارات وجنودها مفادها أن إصلاح الوكالات يؤدي إلى إضعافها.

ولكن وراء الإجراءات الجديدة يكمن هدف أكبر هو إحياء الحرب الروسية الاستخباراتية الشاملة ضد الغرب. وترى الوكالات الروسية الرئيسة أن هذه الحرب ترجع بالزمن إلى السنوات الأولى من الحقبة السوفياتية. ويقدر مسؤولو الاستخبارات الروسية أن الحرب في أوكرانيا هي الحدث الذي أطلق الجولة الثالثة من حرب الجاسوسية الكبرى التي تدور رحاها منذ عام 1917.

 

يحاول بوتين استعادة مجد جهاز ستالين السري الضخم.

بعد فترة وجيزة من الثورة البلشفية، بدأت الجولة الأولى من هذا الصراع، وفيها واجه العملاء السوفيات الأوائل نظراءهم البريطانيين أولاً. وفي الفصل الأول من الصراع، نجح العملاء السوفيات في تقويض كل محاولات الخارج تأجيج مقاومة النظام البلشفي. وانتهجوا في هذا السبيل نهج عملية "الراية الزائفة" [عملية سياسية أو عسكرية سرية تنفذها جهة ما بقصد إلقاء اللوم على الخصم، وصيغت العبارة أولاً في ضوء رفع سفن القراصنة رايات دول أخرى من أجل خداع السفن التجارية لكي تعتقد بأنها تتعامل مع سفينة صديقة] الناجحة للغاية، أطلقوا عليها اسم "تراست" [أي الثقة]. واستدرجوا المهاجرين الروس الناشطين سياسياً، والجواسيس البريطانيين، إلى الاتحاد السوفياتي من أجل مساعدة منظمة وهمية مناهضة للبلشفية. وتعرفوا، من هذا السبيل، إلى هوية هؤلاء النشطاء المناهضين للسوفيات وقتلوهم. وبلغ الصراع ذروته في خلال الحرب العالمية الثانية، عندما نجح الجواسيس الروس في اختراق الاستخبارات البريطانية، وتمكنوا، في الولايات المتحدة، من الوصول إلى مشروع "مانهاتن" وسرقوا أسرار القنبلة الذرية. واعتقد المسؤولون السوفيات، عموماً، أنهم انتصروا في الجولة الأولى على الغرب.

ولكن الجولة الثانية من الحرب الاستخباراتية لم تنته على نحو إيجابي في ميزان موسكو. وفي أثناء الحرب الباردة، فشل جهاز "كي جي بي" في إنقاذ النظام السوفياتي الذي أقسم على حمايته. وفي أوائل تسعينيات القرن الـ20، كاد الجهاز ينهار بعد تقسيمه وتفكيكه. وقد خلف ذلك ندوباً دائمة في بوتين، فهو شهد هذا الانهيار مباشرة، وشاهد نخبته الأمنية تكافح من أجل إعادة بناء الدولة الروسية التي فقدت قوتها السابقة (وفي نهاية المطاف بنى بوتين جهاز "أف أس بي" مستنداً على ركائز جهاز "كي جي بي" السابقة).

ومع بداية صراع جديد كبير مع الغرب، اليوم، تسعى وكالات الاستخبارات الروسية إلى التعافي من الانتكاسات التي تكشفت في نهاية الحرب الباردة. وهي تشعر بأن فرصة جديدة تلوح في الأفق، وترى الحرب في أوكرانيا بمثابة إشارة استهلال للجولة الثالثة من الحرب الاستخباراتية. ولا شك في أن الشعور بضرورة استمرار أجهزة الاستخبارات السوفياتية، ومواصلة جهودها الماضية، قد اتخذ شكلاً واضحاً في روسيا. ففي سبتمبر (أيلول)، دشن رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، تمثالاً جديداً لمؤسس الشرطة السرية السوفياتية في باحة المقر الرئيس لجهاز "أس في آر" في موسكو. وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، عزز جهاز "أف أس بي" هذه الرسالة من طريق الاحتفال بالذكرى المئوية لإنشاء "أو جي بي يو" OGPU، الشرطة السرية السوفياتية. وأكد الدور الذي لعبته "أو جي بي يو" في سحق منظمات المهاجرين السياسيين.

لكن الاستمرارية تتعدى الاحتفال بالمآثر السوفياتية الأولى. ففي المدة التي سبقت الحرب، ومذ ذاك، استخدم بوتين، بشكل ملحوظ، جنرالات "كي جي بي" السابقين الذين شاركوه حماسته للانتقام من الشعور بالإذلال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويؤدي نيكولاي غريبين، الذي شغل في ثمانينيات القرن الـ20 منصب نائب رئيس عمليات التضليل الأجنبية في فرع الاستخبارات الخارجية في جهاز "كي جي بي"، دوراً قيادياً في مركز بحوث روسي جديد افتتح في عام 2021، هو "معهد البحوث الوطني لتطوير الاتصالات". ويسعى المعهد في صوغ رأي مؤيد للكرملين في البلدان القريبة من روسيا، مع إيلاء مكانة خاصة لبيلاروس (كتب غريبين بنفسه عدداً من التقارير البحثية حول الرأي العام في بيلاروس). كذلك، كان ألكسندر ميخائيلوف يخدم في ثمانينيات القرن الـ20 في مديرية جهاز استخبارات "كي جي بي" الخامسة، والمعروفة بسمعتها السيئة. فهي الفرع الذي أوكلت إليه مهمة القضاء على عمليات التخريب الأيديولوجي، والمنشقون والموسيقيون وقادة الكنيسة جزء منها، وهو الفرع المسؤول عن إدارة عمليات تضليل لمصلحة جهاز "أف أس بي" في التسعينيات. ومنذ خريف عام 2021، قبل أشهر قليلة من الغزو، أصبح ميخائيلوف الناطق غير الرسمي باسم جهاز "أف أس بي" أمام وسائل الإعلام الروسية، وروج لآراء تبنتها الوكالة في حوادث أوكرانيا. وتصف الاستخبارات الروسية الحرب بأنها حرب الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا، والأوكرانيون هم مجرد دمى في أيدي أسيادهم الغربيين.

 

 

وعلى غرار بوتين، استخلصت وكالات التجسس الروسية بعض الدروس المهمة من حروب الاستخبارات السوفياتية السابقة. ولأنها وضعت روسيا بشكل مباشر في مواجهة الغرب، حملت الحرب في أوكرانيا الكرملين ووكالات التجسس التابعة على إعادة التفكير في مسائل مهمة كثيرة تتعلق بالأمن القومي، ولم تقم من كثب منذ عام 1991. فعلى سبيل المثال، طرحت مسألة حدود روسيا وما إذا كان ينبغي إغلاقها. وهو قرار اختار الكرملين معارضته. وعاد ذلك بالنفع على أجهزة الاستخبارات التي يسعها استغلال الهجرة الجماعية الجديدة للمواطنين الروس إلى أوروبا، وغيرها من البلدان المجاورة، ويمكنها التعويض عن طرد الدبلوماسيين الروس من العواصم الأوروبية. ومن الواضح أن بوتين عازم على تجنب الأخطاء التي ارتكبت خلال الحرب الباردة، عندما فرض السوفيات قيوداً شديدة على حركة الناس عبر الحدود، فأعاقت عمل الاستخبارات السوفياتية.

لكن الكرملين واجه مشكلة ملحة أخرى هي الحفاظ على الانضباط داخل صفوفه. وكان بوسع بوتين أن يتبع نهج ستالين، فيباشر عمليات تطهير واسعة النطاق وقمع جماعي. ولكنه، على ما يبدو، أدرك أن تلك التدابير جاءت بنتائج عكسية على السوفيات في نهاية المطاف. ويدرك بوتين أن زرع الخوف أداة مفيدة، أما عمليات التطهير الصريحة فمن شأنها أن تلحق الضرر بالوكالات، على ما حدث في ثلاثينيات القرن الـ20، يوم فقدت استخبارات الاتحاد السوفياتي الأجنبية أفضل عملائها. وهكذا، اعتقل رئيس فرع الاستخبارات الأجنبية في جهاز "أف أس بي"، سيرغي بيسيدا في البداية، واحتجز وعزل بعد الأيام الكارثية الأولى لغزو أوكرانيا. وأعيد إلى منصبه بعد أسابيع قليلة، ولم تحصل عمليات التطهير الواسعة التي توقع كثر أن يشهدها جهازا "جي آر يو" و"أف أس بي" بعد التمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين، رئيس شركة "فاغنر" شبه العسكرية، في يونيو (حزيران) 2023.

وعموماً، تبنى بوتين نهجاً مرناً وعملياً في التعامل مع أجهزة استخباراته، فوازن ببراعة بين غرس الخوف الدائم من عمليات التطهير، وتشجيع الأجهزة على أن تكون أكثر إبداعاً وابتكاراً في بسط سيطرتها واستعادة نفوذها في الغرب. ويبدو أن إحدى النتائج المترتبة كانت ارتفاعاً ملحوظاً في العمليات الخارجية الأكثر طموحاً العام الماضي، ومنها عمليات تخريب، فضلاً عن تسلل العميل الروسي إلى خارج إيطاليا، وتكثيف مساعي تجنيد العملاء في عدد من دول الناتو. وتجلى ذلك بشكل بارز في قضية العضو في وكالة الاستخبارات الألمانية BND الذي ألقي القبض عليه في ديسمبر (كانون الأول) 2022 بتهمة نقل معلومات سرية للغاية إلى الحكومة الروسية. وهو يخضع الآن لمحاكمة بتهمة الخيانة.

جواسيس مثلنا

وفي خضم جهودها المبذولة من أجل تجديد دورها، تعلمت وكالات التجسس الروسية درساً مهماً آخر من السنوات السوفياتية، وهو استخدام الأيديولوجيا استخداماً استراتيجياً. ففي ثلاثينيات القرن الـ20، تمكنت موسكو من جذب عدد من الغربيين إلى القضية السوفياتية، وتركيز حججها على أوجه القصور الغربية بدلاً من الترويج للعقيدة الماركسية. وفي ذلك الوقت، أدرك العملاء السوفيات أنهم لا يحتاجون حقاً إلى الترويج لأيديولوجية شيوعية كاملة، ويمكنهم، عوض ذلك، تصوير الاتحاد السوفياتي في صورة بديل عن الإمبريالية الغربية، وتسليط الضوء على معايير الغرب المزدوجة ونفاقه، وإبراز صورة إيجابية لزعيم [سوفياتي] وقف ضد القوى العالمية. وهذه الأفكار هي بالضبط ما يسع الوكالات الروسية الآن ترويجه للحلفاء والمجندين المحتملين في الحرب الاستخباراتية الروسية الجديدة على الغرب. وبينما تستعد روسيا لدخول العام الثالث من الحرب، تدرك وكالات استخباراتها أن الكرملين يدعمها، ويشاركها ارتيابها وأحكامها المسبقة. ويشير هذا الواقع إلى أنه يمكن لأجهزة التجسس الاعتماد على الحماية التي يوفرها لها الكرملين، لكن هذا لا يعني أن بوتين نفسه آمن على بقائه في السلطة.

على مدى الجزء الأكبر من السنوات الـ20 الماضية، واجه بوتين صعوبات في إدارة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الضخمة والمنتشرة داخل بلاده الشاسعة وخارجها. وفي أوائل العقد الأول من القرن الـ21، قضى على مفهوم المنافسة بين أجهزة التجسس الذي أقره الرئيس السابق بوريس يلتسين، وأحل جهاز الأمن الفيدرالي "أف أس بي" محل الوكالة الأولى والأبرز. وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، في عام 2014، حاول بوتين كبح استخباراته، فزج عدداً من الضباط من ذوي الرتب المتوسطة في السجن بتهم الفساد، ولكن هذا لم يؤد إلى إحكام سيطرة الكرملين على الوكالات. ومع الحرب في أوكرانيا، يحاول بوتين تجنب أخطاء الماضي والحفاظ على ولاء قواته الاستخباراتية. ونجح في الأثناء، في زيادة عديدها ونفوذها على نحو لم نشهده في أي مرحلة سابقة من الحرب.

ولكن من غير الواضح ما إذا أسهمت هذه الإجراءات في تعزيز سيطرته عليها. وإلى الآن، لم يفعل بوتين شيئاً لمعالجة هذه المشكلة: فهو لا يرغب في تكرار أخطاء ستالين، والأمر بعملية تطهير واسعة لوكالات استخباراته، لكنه يدرك أنه، خلافاً للحقبة السوفياتية التي كان الحزب الشيوعي يسيطر في أثنائها على جهاز "كي جي بي"، لا يملك سوى عدد قليل من الأدوات الكفيلة بكبح جماح تلك الوكالات. وإذا ساءت أمور روسيا في الحرب، فقد تعني الديناميكية الأحادية الجانب أن جواسيس بوتين قد لا يسارعون إلى إنقاذه.

*أندريه سولداتوف باحث بارز غير مقيم في المركز الأوروبي لدراسة السياسات ومحرر Agentura.ru وأحد مؤسسيه، ومراقب أنشطة الأجهزة السرية الروسية.

**إيرينا بوروغان باحثة بارزة غير مقيمة في المركز الأوروبي لدراسة السياسات، وتشغل منصب نائب رئيس تحرير Agentura.ru، وهي واحدة من مؤسسيه.

للمؤلفين كتاب بعنوان "المواطنون: المنفيون الروس الذين واجهوا الكرملين".

مترجم من فورين أفيرز، ديسمبر (كانون الأول) 2023

المزيد من آراء