Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوروبا واحدة أم اثنتان؟

تتوحد أمام الويلات التي تواجهها وتزدوج إزاء عضوية أوكرانيا وحرب غزة وسياسات الهجرة

أوروبا التي يصورها آش ليست وطناً واحداً أو بلاداً متفرقة ولكنها أوطان متفرقة (أ ف ب)

ملخص

لعل مصلحة أوروبا وطريقها الذي ألفته في مسيرة تقدمها هي أن تنشب هذه الحرب بشكل أو بآخر وأن تنتهي بانتصار واضح لا يكون للطرف الذي يجذب القارة كلها إلى الوراء.

في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، حينما اقتحم أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مبنى الكونغرس بقصد إعاقة العملية الانتخابية، لم أشعر بالتشفي وأنا أرى ديمقراطية عريقة تتعرض لهجوم شعبوي همجي، لأنني بطريقة ما ميزت بين سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أفسدت في العالم أكثر مما أصلحت، وبين ممارسة حضارية لي مصلحة شخصية في أن تترسخ وتصقل نفسها بمرور الزمن، عسى أن يأتي يوم يجدها العالم إرثاً حضارياً صالحاً لأن يحتذي به بقية البشر في حكم أنفسهم بأنفسهم حكماً عادلاً رشيداً.

وبالمثل لا أجد في نفسي إلا الأسف حين أرى التيارات الشوفينية ضيقة الأفق تكسب كل يوم أرضاً في أوروبا، لا يعني هذا أنني غافل عن الأذى الكبير الذي ألحقته، ولم تزل تلحقه، بلاد أوروبية بأغلب العالم، ولكن لي مصلحة، وأنا مواطن في هذا العالم الذي لا تكف أجزاؤه على رغم أنوفنا جميعاً عن التأثير في بعضها بعضاً في أن تمضي مسيرة الحضارة البشرية إلى الأفضل دونما انتكاسات مخزية إلى الماضي، أو ركود في حاضر غير مشرف، ولا أرى لعاقل مصلحة في أن تزداد البلاد الشقية في العالم عدداً.

هكذا أجد في نفسي الأسى الذي يصفه جان فيرنر ميولر في صدر مقالته عن كتاب "أوطان: تاريخ شخصي لأوروبا" للمؤرخ والصحافي البريطاني توماس غارتن آش الصادر حديثاً في أكثر من 380 صفحة عن  مطبعة جامعة ييل.

سقوط جدار برلين

يقول ميولر "فورين بوليسي" في الـ29 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 إن كل من يبلغ من العمر ما يتيح له أن يكون شهد سقوط جدار برلين "فمن المرجح أن يعتريه الأسى وهو يقرأ ’الأوطان‘ لتوماس غارتن آش، المؤرخ والصحافي البريطاني المرموق الذي يعد ’أوروبا‘ و’الحرية‘ القضيتين الأقرب إلى قلبه، فاليوم إذ تشهد القارة صعود الشعبوية المناهضة لليبرالية وتعيش أضخم حرب مرت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، باتت لحظة الانتصار تلك (أي سقوط جدار برلين) ذكرى بعيدة".

تبلغ سردية آش ذروتها، بحسب أندرو مورافشيك "فورين أفيرز" الـ22 من أغسطس (آب) 2023 "بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989، فهي لحظة فارقة بالنسبة إليه، إذ بدا حينها أن المشاركة الثقافية والسياسات البرغماتية والشرعية الأخلاقية تتقارب جميعاً في قضية عادلة، لكن تلك اللحظة لم تدم، ففي بلاد كثيرة، رحلت أنظمة الحكم الشيوعية لتحل محلها حكومات مشكوك في مؤهلاتها الديمقراطية، وقد يكون الاتحاد الأوروبي الآن قوياً ومستقراً، لكنه هجر مطمحه التأسيسي إلى أن يصبح الولايات المتحدة الأوروبية، والهجرة التي تضفي على المجتمعات الأوروبية مزيداً من التنوع ثقافياً والقوة اقتصادياً، تولد الآن احتجاجات وضغائن شعبوية، والحدود بين بلاد أوروبا أكثر انفتاحاً مما كانت من قبل، لكن أنصار الأممية الليبرالية معرضون للتهديد".

هذا ولم يذكر أندرو مورافشيك حرب روسيا في أوكرانيا، غير أن غارتن آش ذكرها بنفسه قبل أيام قليلة في مقالة له بـ"الغارديان" في الـ13 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري ذات عنوان يوشك أن يغنيك عن قراءة متنها (الحرب أم السلام؟ الدكتاتورية أم الديمقراطية؟ مستقبل أوروبا على المحك)، فأوروبا كما يظهر من هذا العنوان مخيرة لا بين درجات متقاربة من مصير ما، ولكنها مصائر متناقضة، فكأنها بطل تراجيدي حائر بين ضدين.

يكتب آش في مقالته أنه زار أكثر من 20 بلداً أوروبياً خلال العام الحالي فرأى في أسفاره أوربيين اثنتين، في إحداهما لم تزل القطارات فائقة السرعة تنقلك عبر حدود لا تكاد تنتبه إليها إذ تتنقل في سلاسة بين بلاد ديمقراطية ليبرالية شديدة التكامل عاقدة العزم على حل كل ما بقي من صراعاتها عبر السبل السلمية، "لكن ليس عليك إلا استقلال قطار بطيء قديم لسويعات قلائل باتجاه الشرق فإذا بك تقضي وقتاً في ملاجئ من القنابل وتتحدث مع جنود مثخني الجراح يحكون حكايات من الخنادق شبيهة بحكايات الحرب العالمية الأولى".

ويمضي فيقول إنه لكي لا ينسى المرء وجود هذه الأوروبا الأخرى فليس عليه أن يفعل إلا ما يفعله آش "أحافظ على تشغيل تطبيق إنذار أوكرانيا الجوي في هاتفي، لتذكرني إنذارات الغارات الجوية على المدن الأوكرانية كل يوم بهذه الأوروبا الأخرى".

نطاق واسع

يستهل غارتن آش كتاب الأوطان بمفتتح لعله يفسر عنوان كتابه، بقدر ما يلقي الضوء على جذور "التاريخ الشخصي" لإيمانه بأوروبا "في غرفة أمامية صغيرة، وسط روائح غير مألوفة هي روائح تبغ غلواز والقهوة السادة القوية، أجلس مع الأسرة الفرنسية المضيفة قبالة تليفزيون صغير أبيض وأسود، أنا في الـ14 من العمر، في برنامج تبادل طلابي، أساعد في الترجمة"، وقال أرمسترونغ "هذه خطوة صغيرة لإنسان، خطوة عظيمة للإنسانية، يصعب الآن أن أستعيد إحساسي بنأي أوروبا الشديد وأنا تلميذ في عام 1969، لن أقول إن فرنسا بدت في مثل بعد القمر، لكنها كانت خلاصة لكل ما دأب الإنجليز على وضعه في كلمة أجنبي، فهم هناك يأكلون الضفادع ويركبون الدراجات النارية ويكثرون من ممارسة الجنس".

تكتب مجلة "كيركوس" في استعراضها للكتاب أنه "قبل سنين غير كثيرة للغاية، بحسب ما يكتب آش، لم يكن أغلب الأوروبيين يسافرون إلى بلد أوروبي آخر إلا لأداء الخدمة العسكرية خلال حرب، ثم جاءت أسعار السفر الزهيدة وانتشار وسائل الاتصالات والرفاهية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فأدت بتوسيع النطاق أمام الأوروبيين، وترسيخ الإحساس بأن دول الماضي الوطنية أقل أهمية من الهوية الإقليمية، فحتى في آخر سنوات حكم فرانكو كان السائحون يفيضون على إسبانيا بمعدل سائح لكل مواطن إسباني، بما يعكس تحول الألمان والبريطانيين والإيطاليين إلى أوروبيين بـ’التجربة الشخصية المباشرة‘".

يرصد آش تشعب وتعمق علاقته الشخصية لا بفرنسا وحدها على مدار السنين التالية، وإنما بالقارة كلها كجغرافيا وكفكرة وكانتماء، ومستشهداً بكافكا "إن هوياتنا منحة لنا، وأيضاً صنيعة أيدينا، فلا يمكن أن نختار آباءنا، ولكن بوسعنا أن نختار ما نصبح إياه، لقد كتب كافكا على بطاقة بريدية إلى خطيبته ’أنا صيني‘، فلو قلت إنني أنتمي أساساً إلى وسط أوروبا، فلن أزعم بهذا انتساباً فعلياً وإنما هو انتساب طوعي".

يؤكد متخصص العلوم السياسية بجامعة برينستن، جان فيرنر ميولر هذه الهوية بل الجنسية الأوربية لآش إذ يقول إنه "الأكثر أوروبية بين الإنجليز، والأكثر إنجليزية بين الأوروبيين، فهو طلق الحديث بلغات أوروبية كثيرة، رحالة لا يكل داخل القارة يعد كثيراً من بلادها ’أوطانه‘، أخذ على عاتقه منذ أمد بعيد أن يفسر للبريطانيين كثيراً مما يعتبروه أجنبياً مضحكاً، ولقد كان ممن أقنعوا رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر بأن توحيد الألمانيتين لا ينطوي على خطر (كما أنه أيضاً الذي سأله الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ببراءة قبل زيارته الأولى لأوروبا إن كان ينبغي للولايات المتحدة أن ترغب في نجاح الاتحاد الأوروبي)".

يروي غارتن آش في تاريخه الشخصي لأوروبا رحلات شبابه في القارة عندما كانت لا تزال عالماً من الحدود والعملات المختلفة لا يكاد شباب اليوم المعتادون على اليورو وشركات الطيران منخفضة الموازنة يقدرون على تخيله، وأيضاً قصة استقراره في برلين الشرقية للعمل على أطروحة الدكتوراه في التاريخ الألماني ثم انجذابه إلى الكتابة عن الأحداث الجارية وتأليفه كتاباً عن الديكتاتورية في ألمانيا الشرقية، ثم ينتقل إلى سرد شهادته المباشرة عن بدايات حركة التضامن، أي النضال العمالي البولندي، في أوائل الثمانينيات، لكن الكتاب وإن يكن تاريخاً شخصياً لا يقتصر على الشهادات المباشرة، فالشخصي في هذا الكتاب هو الذي يضفي دفئاً على العام والتاريخي.

يبين غارتن آش ببراعة في ما يرى ميولر أن عوامل مختلفة تحالفت لتحقق انتصار أوروبا في عام 1989، لقد كانت الثمانينيات عصر ركود اقتصادي في أوروبا، توقف فيه مشروع التكامل وسيطرت مخاوف الحرب النووية والكوارث البيئية على الجدال العام في شتى أرجاء القارة (حتى أن آش ينقل من يومياته قوله في الـ31 من ديسمبر 1980 "سنشهد حرباً نووياً في هذا العقد")، ولكن أفراداً، في رأي آش، هم الذين أحدثوا الفارق، من أمثال مارغريت تاتشر والرئيس الروسي ميخائيل غروباتشوف والرئيس الأميركي رونالد ريغان وطبعاً المستشار الألماني هيلموت كول ورئيس المفوضية الأوروبية جاك ديلور".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"فبفضل أولئك الأفراد، وبفضل احتمال إكمال سوق أوروبية مشتركة بحلول عام 1992، وخطط كانت قائمة منذ ما قبل سقوط سور برلين، لاستحداث اليورو أصبحت أوروبا تبدو جذابة من جديد، بل إن غروباتشوف رأى ما وصفه بـ’النهصة العملاقة‘ التالية للجمهورية السوفياتية المتدهورة، وقوي ذلك الانطباع بإصراره على خلق ’وطن أوروبي مشترك’ (وذلك من التعبيرات المنتشرة في الكتاب ولا يملك المرء حيالها أن يسيطر على مرارته بعد حرب روسيا في أوكرانيا)".

"بات الزعماء يثقون في بعضهم بعضاً، وحدثت تغييرات سعيدة الحظ في القيادات، إذ رأى غورباتشوف أن جورج دبليو بوش أفضل من سلفه (خصوصاً وأنه اجتنب بحكمة نبرة الزهو في تعليقه على انهيار الاتحاد السوفياتي)، كما بات القادة يثقون في الشعوب الأوروبية المختلفة، فتأثر غورباتشوف، على سبيل المثال باستقبال ألمانيا الغربية الدافئ له في عام 1989، وبخاصة عمال الصلب الذين هتفوا له ’غوربي غوربي‘ ممهدين الطريق لمصطلح الغوربيمانيا (أو الولع بغورباتشوف)، فاقتنع الزعيم السوفياتي بأنه السماح للألمانيتين بالتوحد لا ينطوي على تهديد للسلام الأوروبي".

يكتب جان فيرنر ميولر أن آش يتناول السنين الممتدة في ما بين سقوط سور برلين وأزمة 2008 المالية تحت عنوان خادع هو "الانتصار" ولكن مثلما نعرف الآن، ومثلما يوضح آش نفسه مراراً، فإن الوصف الأنسب لها هو "عقود الغطرسة وخيبة الأمل"، فمن المؤكد أن الحرية تقدمت مع قيام بلاد في وسط وشرق أوروبا على فترات متقطعة، بإنشاء ديمقراطيات وأسواق واستعدادها للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لكن ليس دونما ثمن باهظ من التماسك الاجتماعي.

كما أن هذه السنوات تشهد بأن إحلال الديمقراطية في الدول الأوروبية "عملية أشد هشاشة مما يحلو لكثير من الأوروبيين أن يتصوروا، لقد ولد غارتن آش في أوربا الدكتاتورية سنة 1955، وفي نشأته كان 289 مليون أوروبي يعيشون في ديمقراطيات بينما يعيش 389 مليوناً في ظل أنظمة حكم استبدادية لم تكن تقتصر فقط على البلاد الواقعة وراء الستار الحديدي بل تمتد كذلك إلى جنوب أوروبا، فكالن أتباع فرانكو (في إسبانيا) لا يزالون يرفعون أيديهم بالتحية الفاشية، والعسكر اليونانيون الذين وصلوا إلى الحكم في 1967 لا يكتفون بالتعذيب والقتل لكنهم منعوا كذلك ’إطالة الشعر، وتقصير التنانير، ودراسة علم الاجتماع‘ بحسب ما يكتب".

السلام والتكامل

"وتلك الذاكرة الجمعية الخاصة بالحرب والاستبداد هي التي دفعت، وفق سردية آش، إلى السلام والتكامل في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه بعد عقدين من الزمن تعززت فيهما الحياة الحرة في القارة يبدو أن ’محرك الذاكرة‘ هذا يتعثر، فلم ينضم بلد إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2013، والبريطانيون صوتوا من أجل الخروج من الكتلة، والجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي مهدد بالحرب وبرسوخ شخصيات استبدادية من أمثال فكتور أوربان في المجر".

"و’الأوطان‘ يرصد كل هذه التحولات في المشروع الأوروبي، في رحلة مؤثرة على مدار السنوات الـ50 الماضية، وتأمل لليبرالية يستخلص دروساً لما يعده آش بزوغ عصر جديد بدأ بحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي بدأها في أوكرانيا".

غير أن غارتن آش، بحسب ما يرى أندرو مورافشيك "يظل بوضوح على قناعة بأن الدفاع عن مثال أوروبا الحرة الواحدة المتنوعة الذي آمن به في شبابه ضرورة، شأن تحسين هذا المثال وتوسيعه، وإن اعترف بأن عمراً من الكفاح الفكري من أجل تحقيق تلك الغاية لم يبين أن بالإمكان تحقيقه".

تتساءل مجلة "كيركوس" هل أوروبا كيان واحد حقاً أما أنها محض بناء قائم على الأمنيات؟ مؤكد أن هذا سؤال مركزي لدى آش، ولعل إجابته مضمرة في عنوان كتابه نفسه، فأوروبا التي يصورها آش ليست وطناً واحداً، وليست أيضاً بلاداً متفرقة، ولكنها "أوطان متفرقة" إن كان لهذا معنى.

ولعل إجابة سؤال "كيركوس" تكمن في موضع وسط بين الخياري اللذين ينطوي السؤال عليهما، فأوروبا تبدو وحدة واحدة حقاً أمام الويلات" كما نراها مهددة بالحرب المستعرة في الشرق، وبخطر ذوبان الغطاء الجليدي في الشمال، وباحتمال فوز ترمب برئاسة ثانية في الغرب، وبضغوط الهجرة الدائمة من الجنوب.

لكنها أيضاً، كما يكتب غارتن آش أوروبيان إزاء عضوية أوكرانيا، وإزاء حرب غزة، وإزاء سياسات الهجرة، وإزاء الليبرالية، وإزاء قضايا كثيرة أخرى، وذلك محض انقسام، لا حرب، ولعل هذه هي المشكلة، لعل مصلحة أوروبا وطريقها الذي ألفته في مسيرة تقدمها هي أن تنشب هذه الحرب بشكل أو بآخر، وأن تنتهي بانتصار واضح، أرجو ألا يكون للطرف الذي يجذب أوروبا كلها إلى الوراء.

عنوان الكتاب:  Homelands: A Personal History of Europe

تأليف:  TIMOTHY GARTON ASH

الناشر:  ‎ Yale University Press

اقرأ المزيد

المزيد من كتب