Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألكسندر فلمنغ "سيد البنسلين" وأبو المضادات الحيوية

أنقذ البشرية ولا يزال من الأوبئة والأمراض الخطيرة وصدفة قادته إلى اكتشافه

عالم البكتيريا البريطاني ألكسندر فلمنغ عند وصوله إلى باريس في سبتمبر 1945 (أ ف ب)

ملخص

تساءل الأوروبيون والعالم طويلاً، عما كان يمكن أن يحدث في زمن "الإنفلونزا الإسبانية" عام 1918، وكيف كان لاكتشافه هذا أن ينقذ ملايين الأرواح التي ذهبت إلى العالم الآخر، حين عجز الطب والأطباء عن مداوة الوباء اللعين.

كيف كان للعالم أن يمضي من دون هذا الاكتشاف الذي سيساعد لاحقاً في إنقاذ الملايين من البشر؟

لعله من الصواب الإقرار بأنه من غير التوصل إلى ما بلغه الباحث الاسكتلندي الأصل ألكسندر فلمنغ، لبات العالم وحتى الساعة في حيرة وقلق أمام أمراض، مثل الحمى القرمزية والتهابات المفاصل والالتهاب الرئوي وتسمم الدم وأمراض العظام والزهري والسيلان والسل والغرغرينة.

هنا ليس سراً القول إن تلك الأمراض، منفردة أو مجتمعة، كانت كفيلة بأن تقضي على البشرية قضاءً مبرماً، ناهيك بما استجد من أمراض وما يظهر تباعاً من أوبئة.

تساءل الأوروبيون والعالم طويلاً عما كان يمكن أن يحدث في زمن "الإنفلونزا الإسبانية" عام 1918، وكيف كان لاكتشافه هذا أن ينقذ ملايين الأرواح التي ذهبت إلى العالم الآخر، حين عجز الطب والأطباء عن مداواة الوباء اللعين.

ترى ما قصة أبو "المضادات الحيوية" المعاصر، ثم التساؤل المهم الآخر: هل كان هناك من استكمل مسيرة اختراعه هذا، ولم يعد العالم يتذكره، في حين ذهب الفوز كله للأول ولم يترك مكاناً للتالين الذين مكنوه بالفعل من إنجاز ما أنجز؟

ألكسندر فلمنغ... وبدايات من لوشفيلد

ولد ألكسندر فلمنغ، السير فلمنغ لاحقاً، في السادس من أغسطس (آب) عام 1881، في مدينة لوشفيلد فارم، الواقعة قرب أيرشاير في اسكتلندا، لأب مزارع، لا علاقة له بالأبحاث الطبية، ولا معرفة تذكر بالاختبارات والتجارب المعملية.

تلقى تعليمه الأولي في مدينته الصغيرة، إلى أن بلغ الـ12 من عمره، ومن بعدها انتقل إلى أكاديمية "كيلمار نوك"، التي بقي فيها لمدة عامين.

في الـ13 من عمره انتقل ليقيم مع أحد إخوته الكبار في لندن، وكان يعمل طبيباً، وهناك التحق بكلية "ريجنت ستريت بولتكنيك"، ودرس فيها لمدة ثلاث سنوات.

هل كان للقدر أن يحرم العالم برمته، من أقصاه إلى أقصاه، من مخترع عبقري واختراع جوهري، لا سيما بعد أن ترك فلمنغ وتحت ظروف اقتصادية ضاغطة مجال الدراسة، ليعمل في شركة متخصصة بالشحن لمدة أربع سنوات؟

على أن القدر كان رحيماً بالإنسانية وليس بالشاب فلمنغ فحسب، ذلك أنه في الـ20 من عمره، ورث بعض المال من عمه، فقرر إنفاقه على إكمال دراسته، فالتحق بكلية الطب في مستشفى "سانت ماري" ولفت إليه الانتباه في وقت مبكر، فقد بدت علامات التفوق والنبوغ بادية على محياه، مما جعل منه في عام 1906 أي وهو في منتصف العشرينيات، مساعد باحث مع العالم "ألمروث رايت"، رئيس قسم التلقيح في مستشفى سانت ماري.

بعد عامين أي في 1908، تخرج فلمنغ بدرجة البكالوريوس في الطب والجراحة، إلا أنه لم يمارس الجراحة أبداً طوال حياته، فقد تحول شغفه إلى الأبحاث في المختبر مع "ألمروث رايت"، إلى جانب إعطائه محاضرات في المستشفى عينها حتى عام 1914، ليبدأ بعد ذلك مسيرة حياتية جديدة مثيرة.

في قلب الحرب العالمية الأولى

التحق فلمنغ بالجيش خلال الحرب العالمية الأولى، ووجد نفسه كقائد للفيلق الطبي عاجزاً عن إنقاذ آلاف الجنود الذين يعانون الجروح والتهاباتها.

وسط أهوال القتلى والجرحى خلال الحرب العالمية التي استمرت من عام 1914 إلى 1919، كان فلمنغ منشغلاً في عالم دراسات التعقيم، وقد راعه أن كثيراً إن لم يكن كل المطهرات المستخدمة في مداواة الجروح، تؤذي خلايا الجسم أكثر مما تؤذيها الميكروبات نفسها.

من هنا بدأت تتخلق في ذهن فلمنغ حاجة الجسم إلى مادة تقضي على البكتيريا، وفي الوقت نفسه لا تسبب ضرراً لخلاياه.

كانت خطوته الأولى في عالم المكتشفات الطبية، التوصل إلى مادة أطلق عليها "الليزوزيم"، التي تمتلك القدرة على تحطيم وتفكيك البكتيريا، وهذه المادة توجد بصورة طبيعية في مخاط الأنف ومصل دم الإنسان والدموع واللعاب والحليب.

غير أن المسيرة العلمية لم تكتمل وذلك بعد أن أخفق فلمنغ في عزل هذه المادة، وتعزيز خصائصها المطهرة، كما أدرك أنها لا تقضي على الميكروبات الضارة للإنسان، وعلى رغم طرافة هذا الاكتشاف فإنه لم يكن شيئاً عظيماً، فقد كان الأعظم قادماً في الطريق.

ولعل وجود مختبر خاص بأبحاث الجروح، في مدينة بولوني الفرنسية، وتجاربه فيه بتشجيع من العالم "رايت" خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، هو ما وفر الحاضنة العلمية لفلمنغ ليصل إلى ذروة اكتشافاته، ذلك الذي سيبدل الأوضاع ويغير الطباع، وينقذ الملايين من المرضى والمصابين عبر الزمان والمكان... ماذا عن ذلك؟

البنسلين... صدفة تقود حتى الإنجاز

هل يمكن للصدفة أن تبدل لا مصير رجل واحد، بل أجيال من الرجال؟

غالب الظن أن هذا هو ما حدث مع فلمنغ، ففي عام 1928 غادر مختبره لمدة أسبوعين ليذهب في عطلة.

كان كسله هذه المرة عن تنظيف وترتيب المعمل، والانتهاء من التجارب القائمة، أمراً ملحوظاً، وقد كان من بين ما ترك طبق يحوي مزرعة للبكتيريا العنقودية، كان قد تركه في الهواء الطلق سهواً خارج طاولة المختبر.

والثابت أنه كما لفتت التفاحة إسحاق نيوتن ليصل من خلالها إلى قوانين الجاذبية، لفت الطبق وما عليه انتباه فلمنغ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لاحظ الباحث – الطبيب، أن المنطقة المحيطة بالعفن لم تنم فيها البكتيريا، فتوصل إلى استنتاج مفاده أن العفن يفرز مادة لها القدرة على منع نمو البكتيريا.

كان العفن الذي اكتشفه فلمنغ من نوع نادر يسمى "بانسيليوم نوتاتم"، ولهذا السبب أطلق على اكتشافه اسم "البنسلين"، أي العقار المستخلص من العفونة، وتأكد أنه مادة ليست سامة للإنسان أو الحيوان، وقد نشر نتائج دراسته في المجلة البريطانية لعلم الأمراض التجريبية عام 1929.

هل فتح هذا الكشف بداية الأمر أعين العلماء على قصة البكتيريا؟

المؤكد أنه رسخ في أذهان العلماء والباحثين أهميتها الكبيرة، لا سيما أنها تعيش على أجسامنا وبداخلنا من بين أشياء كثيرة أخرى، ونستخلص بمساعدتها مغذيات معينة من الطعام، مما يعني أننا لا نعيش وحدنا، بل مع كائنات مجهرية فوق الأرض. إلا أن هذا لا يعني أن هناك بعض أنواع البكتيريا المسماة بالبكتيريا المسببة للمرض، وهي كائنات حية مجهرية تغزو الأجسام وتصيبها بالعدوى.

لم يعتقد فلمنغ أو أي من زملائه آنذاك أن اكتشافه هذا قد يكون ذا أهمية كبيرة، ولم تظهر أهميته الفعلية إلا بعد مرور عقد من الزمن.

غير أن إحدى النتائج الجانبية المباشرة التي طفت على السطح تمثلت في قناعة فلمنغ بأن هناك حرباً بيولوجية قائمة بين الكائنات الحية المجهرية المختلفة، ونزاعاً مشتعلاً من أجل الاستحواذ على مساحات في أي بيئة غنية بالمغذيات.

هل يعني ذلك أن فلمنغ لم يكتشف البنسلين؟

يقطع بعض العلماء بأن الرجل لم يكتشف البنسلين، إنما رصد فقط أن مستعمرة لفطر مجهري قد أنتجت البنسلين باعتباره وسيلة للتنافس مع البكتيريا والحصول على المغذيات الموجودة على أحد الأطباق شبه المهملة.

لم تلفت نتائج دراسة فلمنغ النظر أول الأمر، مع أنه أعلن أن هذه المادة من الممكن أن تكون لها فوائد طبية خطرة، لكن لأنه لم يستطع أن يبتكر طريقة لاستخلاصها أو تنقيتها، لتتحول إلى عقار طبي قابل للتناول والاستعمال، ظل اكتشافه السحري 10 سنوات من دون أن يستفيد منه أحد.

عصر هوارد فلوري وإرنست تشين

حتى عام 1930 لم يكن البنسلين بشكله المعروف قد خرج إلى النور، لكن في ذلك الوقت قرأ اثنان من الباحثين البريطانيين هما: السير هاوارد فلوري، وإرنست تشين، ما كتبه فلمنغ عن البنسلين.

سيقدر لاحقاً لهذين العالمين، أن يحولا البنسلين من مجرد فضول مخبري إلى دواء منقذ للحياة.

كانت بداية العمل عبر تنقية ومعرفة كيمياء البنسلين بشكل جدي في عام 1939، وذلك حينما كانت ظروف الحرب العالمية الثانية قد جعلت البحوث بالغة الصعوبة.

احتاج الفريق إلى تجهيز ما يصل إلى 500 ليتر أسبوعياً من ترشح العفن لتنفيذ البرنامج على حيوانات التجارب والتجارب السريرية.

 

بدأت تنمية العفن هذا بأعداد هائلة وتجهيزات غريبة من أوعية الزراعة، مثل حمامات أو حاويات سريرية أو علب الطعام.

لاحقاً صمم وعاء تخمير مخصصاً لتسهيل التفريغ ولتوفير المساحة، ولتجديد السائل أسفل العفن، وقد عرفت القصة بعنوان "فتيات البنسلين" واللاتي تم توظيفهن لقاء جنيهين استرلينيين يومياً للتلقيح والعناية بالتخمير عامة، وفي كل الأحوال فقد تحول مختبر أكسفورد في الواقع إلى مصنع للبنسلين.

جرى استخلاص البنسلين لاحقاً على يد عالم الكيمياء الحيوية نورمان هيتلي وبكميات ضخمة من الرشح الخارج من خط الإنتاج، ثم إعادته إلى الماء باستخدام نظام التيار المعاكس.

بعد ذلك استخدم إدوارد أبراهام وهو عالم آخر في عالم الكيمياء الحيوية الذي وظف للمساعدة في زيادة الإنتاج التقنية المكتشفة حديثاً من عمود الألمنيوم المستخدم للتحليل الركوماتوغرافي، لإزالة الشوائب من البنسلين قبل التجارب السريرية.

بحلول عام 1940 كان فلوري قد أجرى تجارب حيوية أظهرت أنه يمكن للبنسلين حماية الفئران ضد عدوى المكورات العقدية القاتلة، ثم في الـ12 من فبراير (شباط) 1941، أصبح الشرطي ألبرت ألكسندر، البالغ من العمر 43 سنة، أول متلق لبنسلين أكسفورد، حين خدش جانب فمه في أثناء تشذيب الورد، وأصيب بعدوى مهددة للحياة متمثلة في خراجات ضخمة أثرت في عينيه ووجهه ورئتيه.

حقن الشرطي البريطاني بالبنسلين، وتعافى بشكل ملحوظ في خلال أيام، غير أن إمدادات البنسلين نفدت مما أدى إلى وفاته.

في أعقاب ذلك ظهرت نتائج أفضل مع مرضى آخرين، وسرعان ما كانت هناك خطط لإتاحة البنسلين للقوات البريطانية في ساحة المعارك.

البنسلين علامة فارقة في الحروب

بدا البنسلين علامة فارقة في ميادين المعارك وساحات القتال، ففي الحرب العالمية الأولى كانت البكتيريا القاتلة الناتجة من الجروح تنهش في نفوس الجنود، مما تسبب في وفيات غير اعتيادية للبشرية.

غير أنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كان البنسلين قد أنقذ الملايين الأخرى من الأرواح، بعد أن استخدم بقوة لعلاج مرضى وجرحى الحرب، بل إنه قد توفر للمدنيين في كل من بريطانيا وأميركا.

لم تكن ظروف صناعة البنسلين خلال الحرب العالمية الثانية يسيرة، وقد كان لا بد من توفر كميات كبيرة من أجل التجارب السريرية المكثفة المطلوبة للتأكد من النتائج المبكرة. بدا واضحاً في ذلك الوقت أن إمكانات بريطانيا أضعف من أن تقوم بهذه المهمة بمفردها، لا سيما بعد أن انصبت طاقات المصانع في أعمال المجهود الحربي.

بدت الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الوقت بمثابة المنقذ، ولهذا سافر فلوري وزميله نورمان هيتلي بدعم من مؤسسة روكفلر إلى الولايات المتحدة في صيف عام 1941، لمعرفة ما إذا كان بإمكانهما جلب اهتمام صناعة الأدوية الأميركية في محاولة إنتاج البنسلين على نطاق واسع.

ساعد عالم وظائف الأعضاء جون فولتون في جعل زملائه البريطانيين على اتصال بأفراد قد يكونون قادرين على مساعدتهم في تحقيق هدفهم. وقد أحيلوا على روبرت ثوم اختصاصي علم الفطريات وخبير في عفن البنسليوم من وزارة الزراعة الأميركية، وأخيراً إلى مختبر البحوث الإقليمي الشمالي في إلينوي بسبب خبرة قسم التخمير هناك.

أثبت هذا الاتصال أنه مهم لنجاح المشروع، إذ كان مختبر البحوث الإقليمي الشمالي مساهماً رئيساً في الابتكارات التي جعلت إنتاج البنسلين على نطاق واسع أمراً ممكناً.

البنسلين وعالم المضادات الحيوية

لم تكن آلية عمل البنسلين وقدرته على منع نمو البكتيريا مفهومة حتى عام 1980، غير أن مزيداً من الأبحاث العلمية تعرفنا كيف أنه يمنع نشاط إنزيمات معينة تفرزها البكتيريا يطلق عليها بروتينات ربط البنسلين، وهي بروتينات لازمة لتمكين معظم أنواع البكتيريا من تكوين جدار يحمي خلاياها، إذ إنه من دون ذلك الجدار تكون البكتيريا أكثر عرضة للبيئة، وقد تموت بسهولة عندما تتغير البيئة من حولها، وفي حضور البنسلين لا تستطيع البكتيريا تكوين هذا الجدار لتحمي نفسها، ومن ثم تموت.

اعتبر البنسلين الأخ الأكبر ضمن عائلة متشابهة من المضادات الحيوية تسمى "لاكتام"، وتكتسب كثير من البكتيريا مقاومة ضد "البيتا لاكتام"، إما من خلال إفرازها لإنزيمات تثبط هذه المضادات الحيوية، أو من خلال حصولها على نسخة معدلة من بروتينات أخرى لا ترتبط بالبنسلين بتاتاً.

هل تنبأ فلمنغ بالفعل بأنه في لحظة زمنية بعينها ستتمكن البكتيريا من مقاومة المضادات الحيوية؟

هذا ما حدث بالفعل فخلال تلقيه جائزة نوبل عام 1945 أعلن فلمنغ عن تنبئه بأن البكتيريا قد تصبح يوماً ما مقاومة للمضادات الحيوية، وقد يحدث ذلك بسبب قدرتها على التحور لا غير، لأنها تستطيع التكيف سريعاً للتغلب على أي حاجز يحول دون نموها.

وبحسب فلمنغ نفسه، قد تكون التغييرات التي تساعد البكتيريا على التكيف عبارة عن تغيرات عشوائية تطرأ على حمضها النووي، وتكون هذه العملية سريعة للغاية، وقد يلاحظ حدوثها فور تعرض البكتيريا للمضاد الحيوي.

كان فلمنغ أول من تكلم عما يسمى "النقل الأفقي للجينات"، فقد لاحظ أنه إضافة إلى أن كثيراً من الكائنات الحية المجهرية التي تنتج مضادات حيوية لديها جينات تجعلها مقاومة، لتلك المضادات الحيوية، فالبكتيريا لديها قدرة فائقة على اكتساب الحمض النووي من الكائنات الحية الأخرى، لتكتسب قدرات جديدة، وهذا ما يعرف بـ"النقل الأفقي للجينات".

لم يكن اكتشاف فلمنغ للبنسلين ممكناً إلا في مختبر تملأه الملوثات، وقد لعبت الصدفة بالتأكيد دورها في اكتشاف واحد من أهم الأدوية في تاريخ البشرية، ولسوء الحظ يخوض علماء الأحياء المجهرية حرباً شرسة مع البكتيريا المسببة للأمراض بسبب مقاومتها المضاد الحيوي واليوم وبعد قرابة الـ100 عام من اكتشاف البنسلين، يتساءل البعض هل من موعد جديد للبشرية مع بدائل جديدة وفعالة للبنسلين؟

"أرتي لايسين" هل ترث البنسلين؟

قبل بضعة أعوام، وبالتحديد عام 2018، تحدث عالم الأحياء الجزيئية مارت غريسل عما فعله فلمنغ قبل نحو قرن فقال "أنجز فلمنغ عملاً رائعاً في مجال العناية الصحية"، غير أنه ذكر بما ذهب إليه فلمنغ من قدرة البكتيريا على تطوير ذاتها بذاتها، وضعف المضادات الحيوية في مواجهتها.

من هذا المنطلق عمل "غريسل" جاهداً على تطوير طريقة تساعد في التغلب على ضعف فاعلية المضادات الحيوية، فليس من المستبعد إيجاد علاجات جديدة في الذكرى المئوية لاكتشاف البنسلين. من بين العلاجات المطروحة جزئيات يطلق عليها "أرتي لايسين"، وهي عبارة عن بروتينات يتم تعديلها وتشكل بالأساس من البكتيريا وفيروسات متخصصة في البكتيريا كخلايا مضيفة.

ويزعزع هذا النوع من الجزئيات استقرار جدار الخلية للبكتيريا ويدمر تلك الخلايا، وتستطيع هذه البروتينات القضاء على الكائنات المسببة للأمراض والحيلولة دون مقاومتها.

 

ما "أرتي لايسين" على وجه التحديد؟

إنها ليست مضادات حيوية، بل جزيئات أكبر من المضادات الحيوية ألف مرة، وتعمل بشكل مختلف تماماً، ويمكن لـ"أرتي لايسين" أن تستهدف كل فئات البكتيريا الرئيسة السالبة منها والإيجابية، كما يمكن استخدام هذا النوع لعلاج تعفن الدم مثلاً. وبينما تستخدم المضادات الحيوية لإنقاذ البكتيريا المعززة للصحة تستهدف "أرتي لايسين" البكتيريا المسببة للمرض.

وفي حالة الإصابة بالتهابات جلدية أقل خطورة قد يمكن التدخل لقتل جرثومة واحدة فقط والحفاظ على الميكروبيوم (التنوع البكتيري الطبيعي للجلد)، لأن الميكروبيوم يحمي الجلد أيضاً من حدوث عدوى جديدة.

وبخلاف المضادات الحيوية، فإن جزيئات "أرتي لايسين" تستهدف جدار الخلية، ويصعب عليها إعادة بناء البكتيريا لأنها لا تتحرك، ومن ناحية أخرى تبدو مستقلة تماماً عن عملية التمثيل الغذائي، على العكس من ذلك تعيد المضادات الحيوية بناء البكتيريا بمساعدة الطفرات الموجودة في الجينات.

فلمنغ المكرم من العالم

توفي فلمنغ عام 1955 عن عمر يقارب الـ80 سنة، أضحى فيها نجماً لامعاً في سماء الحياة العلمية العالمية، كما حظي بزواج سعيد وبولد وحيد.

عام 1943 انتخب فلمنغ عضواً في الجمعية الملكية ليوشح بوسام فيها وبعدها بعامين حصل على جائزة نوبل في الطب، وبالتحديد في علم وظائف الأعضاء، كما كان عضواً في الأكاديمية البابوية للعلوم، وزميلاً للجمعية الملكية، ولقب بلقب فارس من قبل منظومة الشرف البريطاني، مثله مثل "جورج السادس" ملك المملكة المتحدة عام 1944.

وعلى رغم مرور عقود من الزمن لا تزال البشرية تتذكر فلمنغ، وهو ما صنعته بالفعل مجلة "التايم" الأميركية الشهيرة عام 1999، حين اعتبرته واحداً من أهم الشخصيات في القرن الـ20 وقد كتبت يومها تقول "كان اكتشاف فلمنج مغيراً للتاريخ".

وفي منتصف عام 2009 تم الاحتفال بفلمنغ على سلسلة جديدة من الأوراق النقدية.

ولعل أكبر تكريم قدمه البريطانيون لفلمنغ هو دفنه في كاتدرائية "سان بول" في لندن، إلى جانب الملوك والعظماء عبر التاريخ البريطاني.

المزيد من تحقيقات ومطولات