Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الكتاب ضد الموت" مزحة إلياس كانيتي الأخيرة تجسدت أمثولة أخلاقية

صاحب "أصوات مراكش" يطوي مؤلفه المستحيل ويرحل واثقاً من أنه لن يصدر أبداً

إلياس كانيتي (1905 – 1994) (غيتي)

ملخص

يبقى كتاب كانيتي "أصوات مراكش" واحداً من أجمل كتبه

ثلاثة أمور ظل إلياس كانيتي يهجس بها حتى سنواته الأخيرة، وهو الذي عاش طوال القرن الـ20 تقريباً، إذ ولد عام 1905، ليرحل عن عالمنا بعد ذلك بنحو 90 عاماً، أي في عام 1994، متوجاً بجائزة "نوبل" الأدبية 1981 التي سيقول كثر إنه كان من كبار "المجهولين" الذين فازوا بها: وتلك الأمور الثلاثة كانت على التوالي، المرأة بصورة عامة، فهتلر، والموت من بعده. بالنسبة إلى الديكتاتور النازي كان كانيتي قد صفى حسابه الشخصي معه من خلال رواية باتت شهيرة له، لم يتخيله فيها مقتولاً تحت وطأة هجوم الحلفاء على مخبئه الجبلي ما وضع حداً للحرب العالمية الثانية، بل مخطوفاً من قبل شبان يهود جعلوا من أنفسهم آلهة انتقام توجهوا به إلى الأرجنتين لمحاكمته. أما المرأة التي كان ذا مغزى عميق العنوان الذي اختير لملف عن علاقته بها، إذ عنون "كانيتي الرجل الذي كان يلتهم النساء التهاماً"، ويكاد يقول كل شيء عن علاقته بها. وأما بالنسبة إلى الموت أخيراً، فإنه بقي اللغز الأكبر في حياة الرجل. بل حتى، المشروع الفكري الأكبر الذي كان يعرف، منذ شرع في الاشتغال عليه باكراً منذ نهاية سنوات الـ30، أنهه لن يستكمله أبداً، باعتباره "الكتاب المستحيل"، إذ كيف نكتب عن الموت من دون أن نعيشه وكيف نعيشه على أية حال؟

 

"كتاب ضد الموت"

ومع ذلك، ما إن انقضت سنوات قليلة على رحيل الكاتب حتى صدر في ألمانيا، ثم في بلدان ولغات أخرى كتاب هو من أضخم كتبه (نحو 500 صفحة)، يحمل العنوان الذي كان كانيتي قد اختاره منذ كتب السطور الأولى لما سيكون عليه هذا الكتاب بعد نصف قرن وأكثر: "الكتاب ضد الموت". ومع ذلك لم ينجز كانيتي من الكتاب خلال نصف القرن ذاك، سوى عنوانه، وإن كان النص النهائي الذي سيحمله "الكتاب ضد الموت" يضم فقرات وعبارات وأفكاراً وشذرات واصل كانيتي تدوينها على أوراقه آملاً منها أن تكون في نهاية الأمر كتابه الموعود، غير واثق على أية حال من أنه قد يصدر يوماً بالفعل. ولا سيما خلال حياته، أما بعد موته، فمن يعبأ؟ هو لن يكون هنا لمعرفة ذلك. والحقيقة أنه كان ثمة من يعبأ، إذ ها هو الكتاب صدر بالفعل ولسنا ندري طبعاً ما إذا كان قد صدر بالصورة التي كان كانيتي يريد له أن يكون، غير أنه في الواقع أتى كتاباً كتب نفسه بنفسه مستغرقاً فترة طويلة جداً تتعلق على أية حال بالطريقة التي كتبه بها مؤلفه. فالواقع أن كانيتي، ومنذ خطرت الفكرة في باله، راح يخط، وبشكل يومي على أوراقه، يوماً بيوم، كل عبارة تخطر في باله أو يقرؤها في مكان ما أو تقال له، أو يسمعها بأية لغة من تلك اللغات العديدة التي سنرى كم أنه كان يتقن منها، بما في ذلك شذرات بالعربية عرف كيف يلتقطها، بخاصة في مراكش المغربية التي كتب عنها نصاً بالغ الجمال بعنوان "أصوات مراكش" سينقل إلى لغة الضاد مرات ومرات، ويعتبره كثر من المثقفين المغاربة واحداً من النصوص الجميلة التي كتبت عن مدينتهم البديعة. ولئن كان كانيتي قد أعلن، منذ السطور الأولى في كتابه المضاد للموت، أنه يريد منه أن يكون بصورة أو بأخرى نصاً لمقاومة الموت، فإن كثراً راحوا يتعاملون معه بوصفه كتاب الموتى المعاصر تيمناً بكتاب الموتى المصري الفرعوني.

 

بنية مدروسة

غير أن كانيتي حرص، منذ البداية، على ألا تكون بنية كتابه اعتباطية، بل بنية مدروسة ومن منطلق مهيكل هيكلة رواية حقيقية، حتى وإن لم يستخدم في وصف الكتاب صفة رواية على الإطلاق. وتقوم البنية على تخيل رجل أعطي له أن يعرف أنه سيعيش 100 عام لا أقل ولا أكثر، فقرر أن يعطي سنواته الفائضة للآخرين يتقاسمونها في ما بينهم، شرط أن يقرر هو أنهم أناس لكل منهم قيمته الاستثنائية، ويأتي قراره خلال تجوال يقوم به حول العالم يلتقي خلاله الآخرين ويقرر من منهم يحتاج إلى تلك السنوات أو حتى الأيام أو ربما الساعات الإضافية التي تمنحه من الوقت ما يكفيه للقيام بما يتعين عليه فعله. وتنتشر الحكاية وتنطلق الصراعات، ولكن دائماً من خلال ما يرصده فاعل الخير هذا من تصرفات مختاريه وحسن استخدامهم الزمن الإضافي الذي منحه لهم. وصاحبنا ليس أحمق بالتأكيد، بل هو كائن في غاية الذكاء يعرف تماماً إلى أن سيصل به مشروعه، حتى وإن كان غير واثق من أن المشروع سيكتمل أصلاً. ويعرف أنه سيحاط بالدجالين والسماسرة الذين سيخترعون كل يوم مستحقين جدداً يدخلونهم على خط المشروع، ودائماً من خلال عباءة الموت والعبارات الفضفاضة المتعلقة به، والتي تشكل عماد ذلك النص "المستحيل"، ولكن أيضاً من خلال ما سيتحول إليه تفتت الزمن وتوزعه على أعداد كبيرة من المستحقين، وبخاصة الذين اشتروا مستحقاتهم من السماسرة، ففي نهاية الأمر من الواضح أن صاحبنا واصل خوض المشروع لثقته بأنه في نهاية الأمر، لن يوصل إلى أي مكان. ومن هنا ما يبدو واضحاً من أن إلياس كانيتي حين توقف ذات لحظة عن مواصلة التدوين كان يخيل إليه أن أحداً لن يوصل الكتاب إلى قرائه، ولكن ها هم فعلوا. وتحقق الكتاب المستحيل، على رغم إرادة صاحبه وتوقعاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيرة غير استثنائية

ولد إلياس كانيتي في مدينة روتشوك في بلغاريا عام 1905، لكنه لم يبق هناك سوى ستة أعوام، إذ إنه اضطر، عام 1911، إلى اللحاق بوالديه في إنجلترا، وبعد ذلك بسنتين، حين توفي أبوه، توجه كانيتي إلى النمسا ليعيش بضع سنين غادر بعدها للتنقل بين ألمانيا وسويسرا، حيث حصل علومه الثانوية، وهو بعد ذلك عاد إلى فيينا، عاصمة النمسا، لكي يحصل دراسته الجامعية ويحوز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. والحقيقة أن مدينة فيينا هي المدينة التي أحبها كانيتي أكثر من أي مدينة أخرى، كما عبر عن ذلك في عديد من نصوصه، خصوصاً في نص شهير كتبه ليلقيه في العاصمة النمسوية خلال الاحتفال بالذكرى الـ50 للكاتب هرمان بروخ، غير أن كانيتي اضطر لمغادرة فيينا، بين من غادرها من كبار الكتاب والمبدعين التقدميين والديمقراطيين، عام 1938 يوم دخلتها القوات الهتلرية، وهذا أمر لن يغفره كانيتي لهتلر بعد ذلك، على الإطلاق.

لغة الأعداء

غادر كانيتي النمسا، وتوجه منذ ذلك الحين ليعيش في إنجلترا، حيث سيمضي القسم الأعظم من سنواته، ممتهناً حرفتي الكتابة والترجمة في الوقت نفسه. صحيح أن كانيتي عاش عقوداً عديدة من حياته في إنجلترا، وأن لغته الأم كانت الإسبانية، إلا أنه فضل دائماً أن يكتب بالألمانية، لغة أعدائه الهتلريين، فأبدع بها عديداً من النصوص التي جعلته يعد من كبار كتاب الألمانية في القرن الـ20. مهما يكن، فإن كانيتي حين كان يسأل عن ذلك التناقض وعما كان يدفعه إلى استخدام لغة تحل لديه في المرتبة الرابعة من حيث وجودها في حياته، كان يقول إنما يتبع في ذلك مثال كافكا (فرانز)، ويريد أن يظل شقيقاً، في الكتابة، لعديد من كبار كتاب الألمانية الذين يحبهم، من بروخ إلى كارل كراوس إلى بريخت (برتولت).

رواية "الحرق" (1935) كانت أول رواية كبيرة كتبها كانيتي، وظلت على الدوام، مع ذلك، تعد روايته الكبرى، إذ يروي فيها الكاتب حكاية مثقف يغرم بامرأة تذله وتهينه وتغدر به حتى ينتهي الأمر إلى إحراق نفسه وسط كتبه. العمل الشهير التالي لكانيتي مسرحيته "كوميديا الوحدات" (1950) التي تتحدث عن حكومة تمنع الناس من استخدام المرايا أو من تعليق صورهم! وفي مسرحية تالية له عنوانها "موتى مع وقف التنفيذ" (1956) يطالعنا قادة دولة شمولية وقد آلوا على أنفسهم أن يوقفوا ألم الناس إزاء الموت بتحديد موعد محدد لموت كل واحد منهم. ويكون أن تقوم ثورة باسم "اللايقين" يقودها أناس لم يعودوا راغبين في معرفة تاريخ موتهم بصورة مسبقة. مهما يكن يبقى كتاب كانيتي "أصوات مراكش" واحداً من أجمل كتبه وربما الكتاب الذي يقرؤه كل مثقف أوروبي قبل أن يقوم بزيارة تلك المدينة المغربية الاستثنائية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة