ملخص
من بن جونسون إلى تسفايغ شروط البحار العجوز تصل إلى شتراوس فيُموسقها عملاً أخاذاً
في عام 1931 كان عامان قد مرا على الخسارة الشخصية التي مني بها الموسيقي ريتشارد شتراوس برحيل الكاتب هوغو فون هوفمنشتال الذي كتب له في السابق نصوص العدد الأكبر من أوبراته الـ10 التي كان قد لحنها حتى ذلك الحين. ومن هنا كان يشعر في حاجة ماسة إلى كاتب جديد يكتب له مذاك وصاعداً. ولقد جاء الحل بالصدفة في شخص ستيفان تسفايغ الذي اقترح عليه يوماً اقتباساً أوبرالياً لمسرحية الإنجليزي بن جونسون "المرأة الصموت". حينها ما إن حكى تسفايغ الحكاية لشتراوس حتى استهوت الفكرة هذا الأخير ووجد في العمل إمكانات كبيرة من أهمها أن في النص ما يمكنه من تحقيق حلم كبير كثيراً ما راوده وهو أن يلحن أخيراً شيئاً على غرار "حلاق إشبيلية". وها هو يجد هنا ضالته المنشودة. وهكذا ولدت تلك الأوبرا التي حملت العنوان نفسه وتوقيعات كبيرة ثلاثة في الوقت نفسه بن جونسون غريم شكسبير الشرس في الأزمنة الخالية، وشتراوس نفسه، وتسفايغ الذي كان بدوره يخوض هنا تجربة جديدة. وهكذا انطلق العمل جدياً بتعاون لن يدوم طويلاً بين الكاتب والموسيقي الصديقين، وذلك لسبب لا يد لهما فيه. فخلال السنتين اللتين استغرقهما التحضير لـ"المرأة الصموت" كان النازيون قد استولوا على الحكم في ألمانيا ولا يناسبهم السماح بتقديم عمل من كتابة "اليهودي تسفايغ" – الذي سرعان ما سيرحل عن تلك الديار. وحده بقي شتراوس يخوض المعركة مصراً على تقديم الأوبرا مهما كان كاتبها. في النهاية سيخسر شتراوس المعركة ويستقيل من مناصبه الإدارية في الدولة النازية. ستختفي الأوبرا بعض الوقت لتظهر لاحقاً في درسدن وتعتبر من أجمل الأوبرات التي كتبت في زمانها كما تعتبران تجديداً أساسياً في مسار ريتشارد شتراوس المهني الذي سيظل يدين، ودائماً بحسب قوله، لصديقه الكاتب لكونه حقق له حلمه القديم بتلك الفكرة الرائعة.
أوبرا في الظل
لكن صراع شتراوس مع السلطات وغياب تسفايغ رمى "المرأة الصموت" في الظل لتعود وتظهر لاحقاً، إنما فقط في عروض ألمانية ثم في تسجيلات لن تنتشر في "العالم الخارجي"، أي الأوروبي، إلا في سنوات الـ80، لا سيما في فرنسا حيث كان عتب النقاد كبيراً لكون مثل "هذا العمل الكبير والمفاجئ ظل مخفياً حتى الآن". المهم عادت أوبرا "المرأة الصموت" وبفضل تسجيل متجدد لها تحتل مكانتها باعتبارها واحدة من أوبرات شتراوس الأكثر طرافة ومهارة في ألحانها وحتى في توزيعها على رغم "بدائيته أحياناً". واحتلت مكانها بوصفها الأوبرا التي تحمل الرقم 11 كرونولوجيا بين مجموع أوبرات شتراوس البالغ عددها 15 أوبرا، إلى جانب تحف له مثل "فارس الوردة". بل إن كثراً راحوا يفضلونها على أوبرا "دون باسكوالي" لدونيزيتي التي تتناول واقتباساً من بن جونسون أيضاً، الموضوع نفسه. وبخاصة أن الدورين الرئيسين في ذلك التسجيل الذي ظهر آتياً من غياهب الزمن، أداهما المغنيان الأسطوريان ثيو آدم وجانيت سكوفوتي في عروض دريسدن التي لم تقل عنهما أسطورية. باختصار هكذا عادت الحياة يومها إلى تلك الأوبرا فعاشت من جديد وتألقت.
شروط البحار العجوز
ولكن عم تتحدث أوبرا تتحلق من حول ما يفيدنا العنوان بكونه "امرأة صموتاً"؟ ببساطة عن بحار عجوز أمضى شبابه وهو يحلم بأن يتزوج يوماً امرأة شرطه الوحيد عليها أن تكون صموتاً وشابة وعذبة. وهو لئن لم يكن قد تزوج حتى الآن فما هذا إلا لأنه لم يتمكن من العثور على امرأة تجمع تلك الصفات الثلاث معاً. وهكذا في نهاية الأمر يقوم حلاق من نفس النوع الذي نلتقيه في أوبرا "حلاق إشبيلية" –ومن المؤكد أن الأمر ليس صدفة هنا- وهو على أي حال ابن أخت البحار وصديقه الصدوق والمؤتمن على أسراره، يقوم في نهاية الأمر بترتيب الأمور، على سبيل المزاح على الأرجح، بحيث يساعد خاله على تجاوز محنته والتخلص، أخيراً، من شروطه القاسية وإدراك أنه "إن لم يكن ما يريد فليرد ما يكون". وهكذا يبعث إلى البحار بغير علم هذا الأخير بزوجته هو مدعية أنها المرأة المناسبة. ومن هنا نجدنا في قلب الحكاية التي كان يفترض في البداية أن تكون نوعاً من أمثولة أخلاقية تفهم البحار أن المرأة التي يريدها لا يمكن أن يكون لها وجود في هذا العالم.
وهكذا يكون المنطلق لفصول الأوبرا الأربعة التي، وتحديداً بفضل ضحكات الصبية الفاقعة وروحها المرحة وطيبة قلب البحار وترصده لكل حركة وسكنة من "زوجته" الموعودة، تتحول إلى نوع بالغ الأناقة من الكوميديا ييل آرتي الإيطالية الشهيرة التي تقوم على المفارقات وضروب الخداع والعبارات المبتذلة وما إلى ذلك. وبالطبع فإن المطلوب في نهاية المطاف ليس أقل من تلقين البحار درساً في "الواقع البشري"، بمعنى أن الهزل المطلق إنما يستخدم هنا للوصول إلى خاتمة تتسم بقدر كبير من الواقعية والحكمة.
بين الفكاهة والحكمة
والحقيقة أنه منذ العروض الأولى لـ"المرأة الصموت" في درسدن وصولاً إلى عرضها الأسطوري في المدينة نفسها في عام 1975 الذي سيكون هو ما ينشر هذا العمل على نطاق أوروبي عريض، جرى التعامل معها من قبل النقد الألماني أولاً كعمل يمزج بين الفكاهة في أقصى درجاتها، والحكمة في أعمق أعماقها، وذلك من دون أن يبدو على موضوعها وكأنه يتعمد الإفلات من مهاوي التاريخ الذي كان يكشر عن أنيابه خلال فترة التحضير لعروضها الأولى. لكن هذه الأبعاد لم تكن كل ما يسم هذا العمل الذي من الواضح أن شتراوس قد حرك للتوصل إلى تحقيق أحلامه الموسيقية التجديدية من خلاله كل موهبته فأتت النتيجة مزجاً خلاقاً كما سيقول النقاد الفرنسيون لاحقاً، بين البراعة الأوركسترالية في دينامية تتناقض مع الفجائعية التي اعتادت أن تهيمن على أوبرات شتراوس نفسه الكبرى، وبين الألحان الغنائية التي عرف بعضها، وبخاصة تلك التي أنشدها ثيو آدم بمفرده كيف يخرج من إطار العمل الأوبرالي ليستقل بنفسه غناء شعبياً حقيقياً. بل لعل ما يمكننا أن نتوقف عنده بعض الشيء هنا هو ذلك التناقض الذي لا بد أن يحسه المرء وهو يستعرض في ذهنه أجواء وألحان "المرأة الصموت"، على ضوء قراءته مثلاً لكتاب شتيفان تسفايغ نفسه "عالم الأمس" الذي يصف فيه الكاتب الذي سينتحر مع زوجته بعد سنوات في البرازيل، تلك الحياة التي أتى النازيون ليضعوا نهاية لها، على ضوء كل ذلك المرح والسعادة والاحتفال بالحياة وهي كلها أمور تشكل الأسس التي يقوم عليها العالم الموصوف في "المرأة الصموت". ففي هذا السياق سيبدو وكأن ذلك الزمن نفسه كان يشهد سباقاً محموماً بين الموت والحياة، بين اليأس والأمل بمعنى أن "المرأة الصموت" تكاد في هذا المجال تبدو وكأنها تجل لآخر لحظات السعادة في عمر البشرية ذات لحظة مفصلية في تاريخها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أوبرا مشتتة
بل إن هذا الواقع لم يكن طارئاً على الأوبرا التي تفتتح فصولها على أي حال بنوع من ألعاب نارية مبهجة وصاخبة يكون دورها أن تقدم لنا شخصية البحار وهو يحتج على كل ذلك الصخب بإعلانه أنه يحب الصمت والهدوء ويزعجه ذلك كله هو الذي لم يتزوج حتى الآن لأنه لا يمكنه أن يرتبط إلا بالمرأة الصموت! وعلى هذا النحو يكون منطلق بقية فصول الأوبرا التي تروي لنا الكيفية التي تمكن بها ابن الأخت من "إنقاذ" خاله البحار من أزمته وتدريبه على العيش بحكمة سديدة مع البشر سواء كانوا من الصامتين أو من الصاخبين. والحقيقة أن وصول البحار إلى سلوك درب الحكمة هذه يستغرق نحو ثلاث ساعات من الغناء والأداءات الأوركسترالية التي يسميها شتراوس عادة "المحادثات من طريق الموسيقى الأوركسترالية" ومن الغناء الفردي والجماعي. ومن هنا فإنه نادراً ما يتم عرض "المرأة الصموت" بنسختها الكاملة، بل باتت تبدو في معظم الأحيان مشتتة إذ تتوزع إلى متن رئيسي يقدم وحده وإلى كونشرتوات متعددة وإلى غناء فردي كما أشرنا أعلاه. أما بالنسبة إلى الحياة الموسيقية الفرنسية التي اكتشفتها في أصلها الألماني عند بداية الثمانينيات، فإنها قدمت للمرة الأولى عام 1981 في أوبرا مدينة ليون تحت إشراف ماريك جانوفسكي.