ملخص
باسكال رامبرت دخل عالم السرادق المصري بأتراحه وأفراحه معتمداً النفس الملحمي البريختي
لجأ المخرج الفرنسي باسكال رامبرت إلى فكرة تبدو بسيطة في عرضه المسرحي الأول له في مصر، والذي قدم في ساحة روابط، وسط القاهرة، في مهرجان "وسط البلد للفنون المعاصرة" (دي – كاف). العرض موجه أساساً إلى الجمهور المصري، وبمشاركة ممثلين مصريين وعرب، لذلك كان عليه أن يهتدي إلى فكرة يستطيع من خلالها أن يمس شيئاً لدى هذا الجمهور، ويقربه من العرض، ويشعره أنه يعبر عنه، ويورطه في التعاطي معه، ويحفزه على التفكير والسؤال.
الفكرة التي مهدت له الطريق تمثلت في "الصوان"، وهو سرادق كبير يأخذ شكلاً مستطيلاً أو مربعاً، يتم بناؤه بواسطة أقمشة ذات زخارف دينية مثبتة بأعمدة خشبية. وتصنع هذه الأقمشة في منطقة الخيامية - نسبة إلى الخيمة - في القاهرة القديمة، أو القاهرة الفاطمية.
هذا الصوان (السرادق) يستخدمه المصريون لاستقبال المعزين في حالات الموت، أو المهنئين في حالات الزواج، وهي الحالات التي تجمع الأهل والأصدقاء والجيران، حتى لو جاءوا من أماكن بعيدة، من داخل البلاد أو من خارجها. فهاتان المناسبتان، تحديداً، هما أكثر ما يجمع الأهل والأصدقاء والجيران، مهما تباعدت المسافات بينهم.
معايشة ورصد
لم تأتِ الفكرة أو الحيلة اعتباطاً، أو من خلال القراءة في عادات المصريين وتقاليدهم، من دون معايشة على أرض الواقع. قام المخرج الفرنسي بزيارات عدة للقاهرة وبعض المحافظات، وبخاصة المناطق الشعبية التي تقطنها الطبقة الوسطى، تلك التي ما زالت حريصة على إحياء مناسبات الموت والزواج داخل سرادقات، بعيداً من قاعات الفنادق والأندية وسواها. حضر بنفسه بعض هذه المناسبات ليعايش ويرصد سلوكيات المصريين، وطبيعة أحاديثهم في مثل هذه المناسبات، فضلاً عن سعيه إلى التعرف على ما يشغل المصريين، هنا والآن، لتكون الكتابة قريبة إلى روح الجمهور الذي يتوجه إليه، ومعبرة عن أحواله، في السراء والضراء، كما يقولون.
نص العرض الذي ترجمته إلى اللهجة المصرية الفنانة منحة البطراوي يتناول قصة عائلة مصرية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، التي تآكلت، أو كادت، تلتقي في سرادق عزاء الجد. وفي انتظار المعزين تدور حوارات نتعرف من خلالها على طبيعة الشخصيات. الأب الذي رحل والده، يسترجع كيف كانت العلاقة متوترة بينه وبين أبيه الراحل. هذا الأب مثقف وشاعر، اضطرته الظروف إلى الهجرة من الإسكندرية إلى القاهرة، وفتح محلاً لبيع العصائر، في إشارة ذات دلالة إلى معاناة هذه الطبقة والتغيرات الاجتماعية السلبية التي طاولتها. وهناك الابن، لاعب المصارعة، الذي غادر مصر إلى إحدى الدول الأوروبية لممارسة اللعبة في أجواء أكثر تقديراً للاعب، واهتماما به. وهناك ارتبط بفتاة سورية مهاجرة هرباً من ظروف الحرب في بلادها، وهو أيضاً على خلاف مع والده. وهناك أيضاً شقيقه الذي يلعب المصارعة هو الآخر، لكنه بقي في مصر يعاني الظروف السيئة التي يعانيها ممارسو اللعبة في بلدهم، والابنة التي تنتظر عملاً، وتربطها علاقة حب بشاب من الجيران، والصديق الذي يعمل في مؤسسة لرعاية أطفال الشوارع، ويعاني هو وزوجته ظروف الحياة الصعبة، كلهم ينتمون إلى هذه الطبقة التي تكافح وسط واقع مأزوم، وكل منهم له حكايته.
هذه العائلة نفسها تلتقي بعد سنوات عدة في السرادق نفسه، الذي تحول إلى سرادق للفرح في مناسبة زواج الابن العائد من الخارج، ثم تعود وتلتقي مجدداً في سرادق عزاء الأب. هكذا يمضي نص العرض في مراوحاته بين حالات العائلة المتقلبة، العائلة التي تمثل قطاعاً عريضاً من الشعب المصري.
إن الحياة، كما يجسدها نص العرض، ما هي إلا سرادق كبير تتعدد حالاته ما بين الحزن والفرح، ما بين الانكسار والنهوض، ما بين اليأس والأمل. هكذا رأى المخرج والكاتب في "الصوان"، تلك الرمزية التي يعبر من خلالها عن شريحة مهمة في المجتمع المصري، تواصل الحياة، وتحاول تجاوز صعوباتها، والانتصار على مآسيها داخل سرادقها ذي الوجهين، الضاحك والباكي.
ديكور واقعي
كل ما يمكن الاستغناء عنه يجب الاستغناء عنه. هكذا عمل المخرج الذي لجأ إلى ديكور واقعي، بسيط ومباشر. سرادق عزاء يتحول إلى سرادق فرح بتغيير وضعية المكان المخصص لقارئ القرآن الكريم، ليستبدل مقعدين للعريس والعروس بها، وكذلك تغيير وضعية مقاعد الضيوف. وفي الأعلى تضاء اللمبات الملونة كإشارة إلى أننا في محل فرح، فتظل هذه اللمبات مطفأة في مشاهد العزاء. لا شيء أكثر من ذلك.
الإضاءة غير مؤثرة عموماً، أو بمعنى أدق اقتصرت وظيفتها على الإنارة فقط، وكذلك على تحديد طبيعة المشهد، فرح أو حزن. وهو أمر قصد إليه المخرج الذي سار على نهج بريخت في مسرحه الملحمي، باستثناء الديكور، الذي جاء على عكس عروض هذا المسرح، التي لا تحاول تقديم ديكورات تحدد البيئة المكانية للحدث. فالديكور عند بريخت لا يشرح مكانية الحدث بالتفصيل كما في المسرح الواقعي، بل يشير إليها في إيجاز حتى لا يندمج المشاهد في الأحداث، إذا شعر بواقعية الظروف المحيطة بها.
ومن ملامح الملحمية في العرض غياب فكرة البناء الهرمي التقليدي، فالبناء جاء دائرياً بعيداً من بناء أرسطو، معتمداً أكثر على فكرة التركيب لا النمو، المشهد لا يقود إلى الآخر، بل كل مشهد مستقل بذاته. أما المشاهد، كما عند بريخت، فقد تحول إلى مراقب للأحداث أمامه، لا رغبة من صناع العرض في إثارة مشاعره، أو الحصول على تعاطفه، الغرض هو دفعه إلى التفكير والسؤال.
لا تمثيل تقريباً
على النهج نفسه سار التمثيل الذي شارك فيه 10 ممثلين: ناندا محمد ومحمد حاتم وأحمد مالك وسارة عبدالرحمن ومجدي عطوان ونهى الخولي ورأفت البيومي وليلى غنيم ومروان الجبلاوي ويحيى حسين. لا تمثيل تقريباً، أو لا اندماج في أداء الشخصية، دائماً هناك تلك المسافة التي بين الممثل وبين الشخصية التي يؤديها، وكأنه يقول أنا الإنسان، أنا الممثل، أنا الشخصية، الثلاثة موجودون على خشبة المسرح في وقت واحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى بساطة العرض، في كل عناصره، نجح المخرج في تقديم عمل يتماس مع الروح المصرية، ويغوص عميقاً في داخلها، مناقشاً همومها ومشكلاتها بهدوء، سواء من خلال السرد، أو الحوار، أو الأداء التمثيلي الأقرب إلى الحيادية، ليقدم في النهاية رؤيته التي تساعد المشاهد على فهم العالم حوله، وليطرح، هو الآخر، رؤيته النقدية الاجتماعية تجاه هذا العالم.
لم يأتِ باسكال رامبرت كسائح، ينظر سريعاً إلى سطح المجتمع ويمضي إلى حال سبيله، بل عايش هذا المجتمع والتحم به، وتأمل أحواله ملياً، وتعرف على ما يشغله، راغباً في التعبير عنه بصدق، فجاء عرضه ملبياً حاجة هذا المجتمع، ومثيراً تأملاته وأسئلته.
باسكال رامبرت كاتب فرنسي، ومصمم حركة، ومخرج مسرحي وسينمائي وتلفزيوني، ترجمت أعماله ونشرت وعرضت بأكثر من 20 لغة حول العالم، وفي عام 2012، عرضت مسرحيته العالمية الشهيرة "نهاية الحب" أكثر من 180 مرة بـ23 لغة مختلفة، وحصلت على جائزة أفضل مسرحية باللغة الفرنسية من نقابة النقاد الفرنسيين. وحصلت مسرحية "بروفة" التي قدمها عام 2014 على الجائزة السنوية في الأدب والفلسفة من الأكاديمية الفرنسية. وقدم في القاهرة ضمن مهرجان "دي - كاف" في 2015 عرض "تاريخ مختصر لاقتصاد العالم بالرقص". وفي 2016 نال جائزة المسرح من الأكاديمية الفرنسية عن مجمل أعماله.