Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تدير الدبلوماسية الأميركية أزمات الشرق الأوسط بعد حرب غزة؟

جولات بلينكن في المنطقة لم تحقق تقدماً على صعيد أهداف واشنطن المعلنة وتصطدم بمعارضة عربية مما يعكس تعقيدات وتحديات حرب غزة

قبيل جولته الثانية في المنطقة، شدد بلينكن على ملفين رئيسين "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحماية المدنيين في قطاع غزة" (أ ف ب)

بين الطائرة والسيارة والمروحية، تجلت "الزيارات المكوكية" لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في منطقة الشرق الأوسط للمرة الثانية وحول العالم في أقل من شهر، متنقلاً من عاصمة إلى أخرى في "جولات أزمة" لبحث تطورات الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة، من دون تحقيق تقدم يذكر بالنسبة إلى تصاعد وتيرة الصراع.

10 توقفات في ستة أيام شملت دولاً عربية وإسرائيل، تبعتها بعد نحو أسبوعين جولة أخرى شملت ست محطات في المنطقة، وتضمنت تل أبيب ورام الله وعمان وقبرص وبغداد وأنقرة واستغرقت أربعة أيام من دون أن تزيد زيارته في كل من هذه الأمكنة على بضع ساعات، قبل أن يكمل رحلته باتجاه طوكيو وسيول في أقصى الشرق الأسيوي، أعادت للأذهان "الجولات المكوكية" لوزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي الأشهر هنري كيسنجر إلى المنطقة ذاتها، في أجواء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، لكن مع الفوارق في التشبيه والسياقات.

"ليس مثل كيسنجر" و"الدخول الأميركي في الصراع يعوق عمل كبير دبلوماسييها" و"أزمة الشرق الأوسط الراهنة ليست كسابقاتها" و"أية مقارنة بجولتي كبيري الدبلوماسية الأميركية في 2023 وفي سبعينيات القرن الماضي تصب في مصلحة كيسنجر"، عناوين عدة أبرزتها التقارير والتحليلات الغربية في التعاطي مع جولات "بلينكن المكوكية" إلى منطقة الشرق الأوسط، للتعامل مع "مأزق الحالة الإسرائيلية"، في أعقاب حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وعملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها "حماس" والفصائل الفلسطينية في السابع من أكتوبر عام 2023.

ودخلت الحرب في قطاع غزة شهرها الثاني مع اقتراب تعداد الضحايا من حاجز الـ11 ألف شخص، معظمهم من المدنيين وبينهم أكثر من 4000 طفل، فيما تجاوز حاجز القتلى من الجانب الإسرائيلي 1400 قتيل.

وحتى الآن، يخضع قطاع غزة منذ التاسع من أكتوبر الماضي "لحصار كامل" من إسرائيل يشمل الحرمان من إمدادات المياه والغذاء والكهرباء، فيما يتخذ الوضع الإنساني المتدهور أصلاً أبعاداً كارثية وغير مسبوقة بالنسبة إلى السكان البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، وبعد عمليات قصف مركز في المرحلة الأولى من الحرب تشن إسرائيل منذ الـ27 من أكتوبر الماضي عمليات برية في شمال القطاع حيث تدور معارك عنيفة مع مقاتلي "حماس" والفصائل الفلسطينية بين أنقاض الدمار.

هل أعاق الانخراط الأميركي عمل بلينكن؟

على مدى أربعة أيام في الشرق الأوسط، عاد بلينكن في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري لمنطقة الشرق الأوسط، ولمدة أربعة أيام توقف في ست محطات، بحثاً عن تحقيق تقدم في ما يتعلق بفترات الهدنة الإنسانية التي تسعى واشنطن من خلالها إلى إدخال مزيد من المساعدات إلى غزة، فضلاً عن الاطلاع على الخطط الإسرائيلية العملياتية على الأرض وبحث أخر تطورات ملف "المخطوفين" لدى "حماس".

وبخلاف حديثه الذي تركز "على أنه يهودي جاء للتأكد من جاهزية إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وليس فقط ككبير الدبلوماسيين الأميركيين خلال جولته الأولى منتصف أكتوبر الماضي التي شملت زيارة إسرائيل مرتين وتخللها هروب إلى الملجأ، فضلاً عن التوقف في الرياض والدوحة وأبو ظبي وعمان والقاهرة، "عكست التصريحات وطبيعة النقاشات المطروحة التي تصدرت جولة بلينكن الثانية في المنطقة حجم التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب على وقع تراجع الدعم الشعبي العالمي لإسرائيل في الحرب إثر الأضرار الواسعة التي خلفها قصفها للمدنيين في قطاع غزة"، وفق ما تقول مجلة "بيزنيس إنسايدر".

وقبيل جولته الثانية في المنطقة، شدد بلينكن على ملفين رئيسين "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحماية المدنيين في قطاع غزة"، وكتب في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية يقول إن "الولايات المتحدة ستضمن حصول إسرائيل على ما تحتاج إليه للدفاع عن شعبها ضد جميع التهديدات، بما في ذلك من إيران والجماعات الوكيلة لها. وفي الوقت نفسه، فإن الطريقة التي تدافع بها إسرائيل عن نفسها مهمة"، مضيفاً أن "المدنيين الفلسطينيين ليسوا مسؤولين عن الفظائع التي ترتكبها حماس أو عن الأزمة الإنسانية الخطرة في غزة. إنهم ضحاياها. وكما هي الحال مع المدنيين في أي صراع، يجب حماية حياتهم. وهذا يعني أن تدفق الغذاء والماء والدواء والوقود وغيرها من المساعدات الإنسانية الأساسية إلى غزة يجب أن يزداد بصورة فورية وعلى نحو كبير".

وأبقت إسرائيل على إحكام حصارها لقطاع غزة من دون السماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية، قبل أن توافق بجهود أميركية ومصرية وقطرية على السماح "المحدود" لدخول المساعدات، من دون إدخال الوقود، إلا أنه وبحسب المنظمات الدولية والإنسانية، لا يزال "من دون المستوى".

 

ووفق رؤية بلينكن، في مقالته المعنونة "الدفاع عن إسرائيل أمر ضروري. وكذلك مساعدة المدنيين في غزة"، ذكر أن "المدنيين الفلسطينيين يجب أن يكونوا قادرين على البقاء بعيداً من الأذى. ويعني ذلك أنه يجب اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لحماية المواقع الإنسانية. ويعني ذلك أنه يجب الأخذ في الاعتبار فترات توقف إنسانية لهذه الأغراض"، لكنه عاد وذكر أن "التزام هذه المعايير أمر صعب في أي صراع، ناهيك عن مواجهة عدو يستخدم المدنيين باستخفاف ووحشية كدروع بشرية ويطلق الصواريخ من المستشفيات والمدارس والمباني السكنية. وعلى رغم هذه التحديات، فإن منع وقوع كارثة إنسانية في غزة أمر حيوي لأمن إسرائيل"، على حد وصفه، معرباً عن قلقه في الوقت ذاته من "احتمالات أن يتوسع الصراع".

وفي ختام جولته الثانية وقبيل مغادرته إلى طوكيو ضمن الجزء الآسيوي من جولته، أوضح بلينكن أن "واشنطن تركز على إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة وستواصل العمل مع الإسرائيليين في ما يتعلق بخطوات للحد من الخسائر في صفوف المدنيين"، لكنه أقر بعدم تحقيق انفراجة، وقال "كل ذلك تقدم حاصل".

"هل أحرز بلينكن تقدماً على صعيد الأهداف المرجوة من المقاربة الأميركية في الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة؟"، تجيب صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، قائلة إن الأمر لا يبدو كذلك، لا سيما أمام المقاربة الذي تتبناها واشنطن مع رفض "الدعوات المتزايدة من أنحاء العالم إلى وقف إطلاق النار، على اعتبار أن هذا الأمر لا يخدم سوى مقاتلي حماس، مع التأكيد على المضي قدماً نحو إقرار هدن إنسانية موقتة"، شارحة في الوقت ذاته أن أحد الأهداف الكبرى للتحرك الدبلوماسي الأميركي في الصراع هو التشديد على "عدم تمدد الصراع أو اتساع رقعته في المنطقة، وعليه تسعى إلى التأكيد على الأطراف كافة بتجنب سيناريوهات كهذه".

وفي أكثر من مناسبة أعلنت واشنطن على لسان بلينكن والرئيس الأميركي جو بايدن رفض دعوات وقف إطلاق النار، وتستعوض عن ذلك بالحديث عن مطالباتها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالموافقة على "هدن إنسانية"، وهو الأمر الذي يربطه الأخير بـ"التوصل إلى اتفاق في شأن الرهائن".

نقطة أخرى بدت شائكة وعكست حجم التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب تجلت في "سؤال اليوم التالي" ومستقبل قطاع غزة ما بعد الحرب الراهنة، مما دفع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية إلى اعتبار أن الرؤى التي طرحها بلينكن مع نظرائه في المنطقة خلال جولته الثانية "لم تلقَ أي ترحيب أو تأييد وقوبلت برفض واسع"، مما عكس المأزق الذي تعانيه واشنطن مع حلفائها التقليديين في التصعيد الحالي.

وبحسب الصحيفة الأميركية، قال بلينكن قبل جولته الثانية إن الولايات المتحدة ودولاً أخرى تدرس "مجموعة متنوعة من البدائل المحتملة" لمستقبل قطاع غزة إذا عُزلت حركة "حماس" من الحكم، ونقلت عنه تصريحات أدلى بها خلال جلسة استماع للجنة المخصصات في مجلس الشيوخ قبل يومين من جولته الثانية، بأن الوضع الراهن الذي تتولى فيه "حماس" المسؤولية في القطاع المكتظ بالسكان لا يمكن أن يستمر، لكن تل أبيب لا تريد إدارة غزة أيضاً، متحدثاً عن عدد من البدائل المحتملة التي تجري دراستها، فيما شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنتين وزاريتين للعمل على بلورة موقف إزاء مستقبل القطاع.

ومن بين الخطط التي يجري الحديث حولها في وسائل الإعلام الأميركية، نشر قوة متعددة الجنسيات ربما تضم قوات أميركية وهو ما نفته واشنطن لاحقاً، أو وضع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة بصورة موقتة، بينما يرى بلينكن أن ما سيكون أكثر منطقية في مرحلة ما هو وجود "سلطة فلسطينية فاعلة ومتجددة" تتولى حكم غزة، لكن السؤال المطروح هو ما إذا كان تحقيق ذلك ممكناً، وأوضح وزير الخارجية الأميركية في حديثه أمام الكونغرس أنه "إذا لم نتمكن من ذلك، فهناك ترتيبات موقتة غيرها قد تشمل عدداً من الدول الأخرى في المنطقة. وقد تشمل وكالات دولية تساعد في توفير الأمن والحكم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"نيويورك تايمز" ذاتها ذكرت في تقارير أخرى أن جولة بلينكن في المنطقة بدت "غير فاعلة" وأكدت حجم وتعقيد الأزمة الدبلوماسية التي يواجهها كبير الدبلوماسيين الأميركيين، موضحة أن جولته الأولى منتصف أكتوبر الماضي كانت مقررة ليومين وامتدت لستة أيام و10 محطات توقف. وأشارت نقلاً عن مصادر لم تسمِّها إلى أن "حجم وتعقيد الأزمة يتجلى في تشابك الأهداف بين التأكيد على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل واتساع النقد العربي على الرد الإسرائيلي، فضلاً عن ملف المختطفين والعمل على منع انتشار النزاع لكي يضم إيران وحزب الله ويورط الولايات المتحدة فيه".

وبعكس أزمات سابقة، كشفت الحرب الراهنة في غزة وتداعياتها الإنسانية عن انقسام في المجتمع الأميركي، ويواجه بايدن ضغوطاً متزايدة في الداخل لإرغام إسرائيل على اتخاذ خطوات لتقليل أعداد القتلى المدنيين خلال حملتها العسكرية، إلى جانب الضغط من أجل وقف القتال لتسليم المساعدات ونقل السكان إلى أماكن أخرى، مما يصعب مهمات بلينكن.

وتنقل "نيويورك تايمز" عن آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأميركي السابق، قوله إن هناك تبايناً بين "جولة بلينكن وجولات كيسنجر المكوكية في المنطقة"، مشيراً إلى أنه وعلى رغم أن الأخير لا يزال يحتفظ بالرقم الأول في الدبلوماسية المكوكية، إذ قام بـ33 رحلة لكي يتوصل إلى فك ارتباط سوري- إسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973، فإن زيارات وزير الخارجية الأميركي الراهن "تعكس عدم اليقين والفوضى في الأزمة التي لم تعرف الإدارة بأنها مقبلة والتعقيدات والتحديات لما هو آتٍ".

كيسنجر وإدارة "لعبة التوازنات"

على رغم اختلاف السياقات والتوازنات، تعرضت الدبلوماسية الأميركية لاختبار مشابه في "دعمها المطلق لإسرائيل" وإدارة أزمة حرب السادس من أكتوبر 1973، حين شنت القوات المصرية والسورية في توقيت واحد وبدعم عربي، هجوماً واسعاً على إسرائيل لاستعادة أراضٍ كانت أحتلتها الأخيرة عام 1967.

ومن بين غبار حرب أكتوبر، صعدت "الدبلوماسية المكوكية" لكيسنجر الذي اضطلع خلالها بدور رئيس في التأثير في مجريات توازنات القوى في المنطقة، بعشرات الزيارات بين دمشق والقاهرة وتل أبيب وعواصم عربية أخرى، ليتوصل في النهاية إلى اتفاقات وقف لإطلاق النار والتهدئة (اتفاقان في سيناء بين مصر وإسرائيل واتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل في الجولان)، وكذلك أسهم في رفع "أوبك" لحظرها النفطي الأميركي.

 

وبحسب ما أورده هنري كيسنجر خلال حديثه الأخير في الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر إلى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، فإنه والرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون وطاقم البيت الأبيض عملوا بصورة قوية وحثيثة منذ البداية على "منع نصر عربي على إسرائيل، ورأينا في نصر كهذا ضربة للولايات المتحدة نفسها لأنه كان من الممكن تفسيره على أنه انتصار سوفياتي علينا"، مشيراً إلى أنه وفي الوقت نفسه، أدى ذلك ليس فقط إلى التأثير في سير المعارك على الأرض، بل كان له وزن كبير في المحادثات اللاحقة التي انتهت إلى اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن والقاهرة.

وذكر كيسنجر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ثم أصبح وزيراً للخارجية، أن هذا الموقف اتخذ "فور وصول النبأ عن نشوب الحرب"، وقال إن "صورة المعركة كانت مختلفة تماماً عن تلك التي رسمها الخبراء الأميركيون في مخيلتهم عندما انتشر خبر الهجوم المصري. فقد دارت كل المحادثات حول الحرب على افتراض أن التفوق العسكري كان لمصلحة إسرائيل. لم نأخذ على محمل الجد أبداً إمكان اضطرارنا إلى التعامل مع وضع يتمتع فيه السوفيات بميزة أو تفوق ما"، مشيراً كذلك إلى أن واشنطن قررت منذ اللحظة الأولى إقامة جسر جوي من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل لإعادة تزويدها بالأسلحة.

لكن، كيف أدار كيسنجر الجهود السياسية والدبلوماسية عبر جولاته المكوكية في المنطقة للتوصل إلى تهدئة، جاءت ثمارها الأولى في اتفاق وقف إطلاق النار الأول على الجبهة المصرية في الـ22 من من أكتوبر 1973؟

وفق ما كتبه السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى مارتن إنديك في كتابه "سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط"، عن استراتيجية كيسنجر في الشرق الأوسط، فقد "كان الأخير ناجحاً في كسب ثقة العرب، وهو ما يفتقر إليه عدد من وزراء الخارجية الذين أتوا من بعده وتعاملهم مع هيكلة عملية السلام في الشرق الأوسط والتي يعززها دور نشط للولايات المتحدة"، موضحاً أن كيسنجر "تمكن من المراوغة بمهارة فائقة لتحقيق أربعة أهداف طموحة ومتناقضة إلى حد ما وفي آن واحد، ضمان انتصار إسرائيل كحليف لأميركا على القوات المصرية والسورية المدعومة من الاتحاد السوفياتي، ومنع وقوع هزيمة فادحة للجيش المصري حتى يتمكن زعيمه أنور السادات من الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل تعيد له جزءاً من الأرض، وإثبات أن الولايات المتحدة هي وحدها القادرة على تحقيق نتائج للعرب على طاولة المفاوضات، وأخيراً الحفاظ على الانفراجة في العلاقات مع موسكو على رغم أنه كان يعمل على تقويض النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط".

ويتابع إنديك، "كانت المفارقة الكبيرة في هذه الحقبة تكمن في أنه حتى تحقق السلام في الشرق الأوسط عليك أن تبدأ الحرب أولاً. كانت تلك هي نية السادات وفهمها كيسنجر الذي انطلق إلى العمل في اللحظة التي علم فيها باندلاع الحرب لأنه أدرك بسرعة أنها خلقت فرصة سانحة يمكنه استخدامها لتشكيل واقع جديد"، وذلك في إشارة إلى القناة السرية التي كانت تربط كيسنجر بمستشار الأمن القومي للرئيس السادات حافظ إسماعيل قبل أشهر من الحرب.

وبحسب رواية كيسنجر ذاته، ففي فبراير (شباط) عام 1973، أي قبل نحو ثمانية أشهر من الحرب، أرسل الرئيس السادات مستشاره لشؤون الأمن القومي حافظ إسماعيل إلى واشنطن لبحث إمكان التحرك نحو عملية سلام، قائلاً إن "المبادرة كانت مبنية على وجهة النظر العربية التي تنص على انسحاب إسرائيلي إلى الحدود التي سبقت حرب 1967 في جميع القطاعات، مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل، إلا أن جميع الأطراف الإسرائيلية عارضتها بشدة، وكذلك هو والرئيس نيكسون".

وعن تفاصيل جولاته المكوكية، يقول وليام كوانت في كتابه "عملية السلام" إن كيسنجر قام "بالتطبيق العملي لما يقتنع به أي أنه لا بد من أن تسير القوة والدبلوماسية جنباً إلى جنب، وأنه لا يمكن للولايات المتحدة مطلقاً أن تعتمد في الشرق الأوسط على القوة وحدها أو على المفاوضات وحدها، وكان إيجاد التوازن الحرج بين الاثنين هو محك اختبار حنكة رجل الدولة، ولا بد من النظر إلى إمدادات السلاح للإسرائيليين أو للعرب كجزء من العملية الدبلوماسية وليس كمسألة عسكرية بحتة، ومهما كانت المشكلات التي واجهت كيسنجر في تعامله مع هذا المبدأ، فإنه كان يرى بوضوح أن الاعتبارات السياسية ترجح الاعتبارات العسكرية في هذا النوع من القرارات"، مضيفاً  أن "معرفة كيسنجر بالأمور التي يريد أن يتجنبها كانت أفضل من معرفته بما يريد أن يحققه من أهداف إيجابية، وكانت حرب أكتوبر بمثابة المرجع المباشر الذي يعود له دائماً، إذ كان الدرس المجرد المستمد من تلك الأزمة هو أن الوضع القائم في الشرق الأوسط متقلب وخطر وقد يتفاقم، مما يؤدي إلى آثار خطرة على المصالح الأميركية العالمية والإقليمية، لذلك كان من اللازم تثبيت الوضع القائم من خلال الجمع بين الدبلوماسية وشحنات السلاح، كما يتعين البدء بعملية سياسية تقدم للعرب بديلاً عن الحرب".

في المقابل، ووفق رواية وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي، (استقال من منصبه اعتراضاً على زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977)، في مذكراته "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط"، فقد تم "تضخيم دور صورة كيسنجر"، إذ إن "صفاته وطموحه وتصلبه وقوته في تحقيق أهدافه غير كافية لتبرير قيامه بهذا الدور، كما أنه لم يحقق نجاحاً من خلال استراتيجية شاملة مترابطة في شأن تحقيق تسوية عادلة في الشرق الأوسط، لأنه لم تكن لديه مثل هذه الاستراتيجية"، معتبراً أن "ما ساعد كيسنجر على تحقيق هذا الدور البارز في الشرق الأوسط هو فوق كل شيء وجود السادات رئيساً لمصر".

المزيد من تقارير