Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تبييض الأموال يبتلع الاقتصاد الليبي

مراقبون يطالبون البنك المركزي بخصم 5 في المئة مباشرة من إيرادات النفط

تضخم الدين العام المحلي في ليبيا مرتبط بوتيرة معدل الفساد (أ ف ب)

ملخص

 بين حكومتين في الشرق والغرب، يجد الاقتصاد الليبي نفسه ضحية مخالفات مالية وعمليات تبييض وحصار السوق السوداء.

أعلن وزير الاقتصاد في حكومة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس محمد الحويج ارتفاع الدين العام المحلي مسجلاً 200 مليار دينار ليبي (42 مليار دولار) بسبب الإنفاق الحكومي الموازي، موضحاً أن الإنفاق الموازي للحكومات أسهم في "فوضى وتخبط داخل سوق العملات الصعبة في البلاد".

من جهته قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة إن الإنفاق الحكومي الموازي تجاوز أكثر من 15 مليار دينار ليبي (3 مليارات دولار)، مشيراً إلى أن "الإنفاق الموازي" أخذ من أموال المودعين في المصارف التجارية، وتسبب في ازدياد الطلب على شراء العملة الصعبة في السوق السوداء.

وأضاف الدبيبة أن الإنفاق الموازي لم يخضع للجنة المالية العليا أو ديوان المحاسبة أو هيئة الرقابة الإدارية، مشدداً على التزام حكومته بسياسات مصرف ليبيا المركزي النقدية للحفاظ على قيمة الدينار وتوازن الاقتصاد.

أزمة مفتعلة

تصريحات قوبلت ببيان من الحكومة الليبية المعينة من البرلمان برئاسة أسامة حماد اعتبر فيه حديث الدبيبة "مجرد محاولة يائسة لتبرير إخفاقه في جميع المجالات وآخرها افتعال أزمة وهمية لزيادة أسعار النقد الأجنبي"، مضيفاً أنه يحاول القفز على تقرير ديوان المحاسبة وما ورد فيه من فساد مالي وإداري تمثل في إهدار المال العام وإنفاق مئات المليارات دون سند قانوني.

واعتبر أن ارتفاع أسعار النقد الأجنبي أمر مفتعل ولا مبرر له لأن المصرف المركزي مستمر في صرف النقد الأجنبي عبر القنوات المحددة وبالسعر المحدد رسمياً.

وطالب حماد الجهات المتخصصة باتخاذ إجراءاتها اللازمة تجاه ما ورد في تقرير ديوان المحاسبة وتطبيق القانون على مرتكبي الجرائم وصيانة المال العام، بخاصة أن الحكومة المنتهية (وزارة الدبيبة) تنازلت وبالمجان عن العقارات والاستثمارات الخارجية المملوكة للدولة الليبية في مقابل مكاسب سياسية لتحقيق مصلحة غير مشروعة وبهدف استمرارها في اغتصاب السلطة، وفق تعبيره.

ونوه حماد بأن حكومته ومنذ منحها الثقة من مجلس النواب تتولى عملية الإنفاق وفقاً للموازنات المعتمدة من البرلمان، موضحاً أن حكومته مستمرة في تنفيذ خطط التنمية والإعمار.

وأثارت هذه الحرب الكلامية بين الحكومتين مخاوف المتخصصين بالاقتصاد الليبي من انخراط البلاد في أزمة مالية حادة، بخاصة أن قيمة الدين العام المحلي وصلت إلى 55 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ما هي الأسباب؟

بدوره قال أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي هاني رحومة إنه من المعلوم أن الدَين العام هو مجموع الأموال التي تقترضها الحكومة من الأفراد والمؤسسات لمواجهة أحوال طارئة ولتحقيق أهداف مختلف عندما لا تكفي الإيرادات العامة لتغطية النفقات العامة التي تتطلبها هذه الأحوال الطارئة، مثل الحرب وحال التضخم.

وأبرز رحومة في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن تضخم الدين العام المحلي مرتبط بوتيرة معدل الفساد التي تزداد من عام لآخر في ليبيا، فوفق ديوان المحاسبة فإن إنفاق الدولة الليبية عام 2022 بلغ 656 مليار دينار ليبي (135 مليار دولار) في مقابل 622 مليار دينار ليبي (122 مليار دولار) كإيرادات، أي بعجز بلغ 34 مليار دينار ليبي (7 مليارات دولار)، ليشكل العجز الأكبر في البلاد منذ عام 2012.

وبخصوص الأسباب التي أدت إلى ارتفاع الدين العام المحلي، أوضح رحومة أن الهدر والفساد المالي الذي يأخذ أشكالاً مختلفة مثل تهريب السلع والوقود وفساد الاعتمادات وغيرها من قنوات الصرف تتجلى مظاهره في مرحلة موالية في زيادة الإنفاق العام بليبيا على مستويات عدة، من بينها الرواتب بسبب ارتفاع أعداد موظفي الدولة والذي يصل إلى 27 في المئة من إجمال عدد السكان في ليبيا، وهي نسبة لا توجد في معظم دول العالم، إذ أظهر تقرير ديوان المحاسبة للعام الماضي زيادة في بند الرواتب بما قيمته 4 مليارات دينار ليبي (824 مليون دولار).

ورأى أن "ما أثقل كاهل الدين العام المحلي للدولة الليبية هو استمرار شراء المؤسسة الوطنية للنفط للمحروقات بالمبادلة بما يعادل 42 مليار دينار ليبي (8.6 مليار دولار)، ثم التصرف فيها من دون إثباتها في سجلات الدولة وفق تقرير ديوان المحاسبة.

ووفق رحومة فإن ما سبق يعني عدم وجود أي مؤسسة أو جهة تُلم بحجم إيرادات النفط ومبيعاته بدقة عدا بعض المسؤولين الكبار في المؤسسة الوطنية للنفط، على رغم أن المصرف المركزي وديوان المحاسبة على علم بهذه المشكلة ولكنهم يتسترون عليه.

وأشار إلى أن السبب الرئيس الآخر في العجز يتمثل في خلل إدارة الدولة، إذ يجب أن يتم ضبط إيقاع الصرف بناء على قانون الموازنة، وهو أمر تلاشى بالكامل، إذ لا يوجد حالياً قانون ولا ترتيبات مالية على الصرف في ليبيا.

وأبرز أن عدم وجود قانون موازنة زاد هدر المال العام والتوسع في الإنفاق، فمن المعلوم أن من أهم مزايا قانون الموازنة ضبط إيقاع الصرف لتبقى الحكومة ووزارة المالية والمصرف المركزي منضبطة بالصرف في إطار التبويب الذي وضعه القانون، فبقاء ليبيا منذ عام 2012 من دون قانون للموازنة عمق الإشكال المالي للبلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحمل المتحدث ذاته ديوان المحاسبة الوضع المالي الذي وصلت إليه الدولة الليبية، إذ إن رقابته لأوجه الصرف مصاحبة طوال السنة المالية للهيئات الحكومية وليس في آخرها، كما أن الديوان يملك صلاحيات قانونية بإيقاف وإحالة الفاسدين مالياً للنائب العام.

وأوضح رحومة أن ديوان المحاسبة وبعدم قيامه بمهماته المكلف إياها تحول إلى جهة عامة تصدر التقارير المالية لا أكثر، ومن هذه الأمثلة أن تقريره الأخير تحدث عن أن كثيراً من مؤسسات الدولة صرفت أموالاً باستخدام التكليف المباشر لا المناقصات مما أضاع الفرصة للتأكد من الجودة والسعر للخدمات المطلوبة، وبالتالي فالفساد وارتفاع الدين العام تتحملهما الحكومة ومجلس النواب ومجلس الدولة ومصرف ليبيا المركزي وكل من في السلطة.

الانعكاسات

وقال المستشار الاقتصادي بمركز الأداء الاستراتيجي بمدريد طارق إبراهيم إن الدين العام منتشر في كثير من الاقتصادات حول دول العالم المتطورة والنامية شرط أن تبقى قيمة الدين العام مقبولة، لكن أن يبلغ الدين العام 55 في المئة من الناتج المحلي أو أكثر فهنا يكمن الخطر، وهو ما يتماهى مع الحال الليبية باعتبار أن إجمال الدين العام بلغ منتصف عام 2022 نحو 200 مليار دينار ليبي (42 مليار دولار) في مقابل ناتج محلي في حدود 100 مليار دينار ليبي (21 مليار دولار).

ونوه إلى أن المديونية ازدادت بنسبة كبيرة خلال فترة حكومة الدبيبة بسبب الفساد المالي الذي يتجسد في أشكال عدة، ومنها تهريب السلع والوقود والفساد الذي ينخر الاعتمادات في القطب الغربي، مشيراً إلى مضار تراكم الدين العام المحلي بهذا الشكل لا سيما أنه سيحول دون تحقيق أي تقدم على مسار تعافي الاقتصاد الليبي، فتحريك عجلة الاقتصاد سيكون شبه مستحيل مع تسارع الإنفاق الاستهلاكي، لأن تحفيز النشاط الاقتصادي يقوم على زيادة الإنفاق في البنية التحتية من طريق ضخ البنوك لأموال في شكل قروض لفائدة رجال الأعمال لتحقيق القيمة المضافة عبر زيادة النشاط الإنتاجي والخدمي.

وأوضح أنه خلال الفترة الحالية فجميع هذه العناصر غير موجودة على خلفية تجاوز الدين العام المستوى الطبيعي، وهو ما سيجعل من التنمية مستحيلة وستتضرر كثير من القطاعات مثل الكهرباء والصحة والمرافق.

وقال المستشار الاقتصادي إن ارتفاع الدين العام المحلي سيفتح الباب على مصرعيه لتبيض الأموال وتهريبها خارج البلد، بخاصة أن ليبيا لها حكومتان كاملتا الصلاحية في الإنفاق بمختلف أنواعه، ولكن الفارق أن مصادر تمويل حكومة الدبيبة تركز على عائدات النفط، أما حكومة أسامة حماد فتعتمد في صرفها على الاقتراض من المصارف التجارية وهذه القروض يتم المضاربة بها في العملة الدولية والذهب في السوق الموازية (السوداء)، وهؤلاء المضاربين جلهم مرتبطين بالجريمة المنظمة ومن بينها تهريب البشر وتجارة المخدرات، وفي النهاية تزيد من تبديد ثروات وتهريب الأموال وتبييضها.

المعالجة

من جانبه تمسك أستاذ الاقتصاد بجامعة مصراته عبدالحميد الفضيل بأن الانقسام السياسي الذي عانته ليبيا طوال الأعوام الماضية أدى إلى انخفاض الإيرادات النفطية وعجز الموازنة العامة بسبب الإغلاق القصري للحقول والموانئ النفطية، وبالتالي ترتب على ذلك ظهور مشكلة الدين العام المحلي وتناميه بقيم كبيرة.

وبلغ إجمال الدين العام المحلي للفترة الممتدة من 2014 وحتى 2020 لجميع الحكومات المتعاقبة والموازية ما قيمته 154 مليار دينار ليبي (31.7 مليار دولار)، إذ وصلت قيمة الدين العام المحلي المترتب على الحكومات الموازية إلى ما قيمته 69.9 مليار دينار ليبي (14.5 مليار دولار)، وشكل ما نسبته 45.5 في المئة.

وبعد التصريحات الأخيرة لوزير الاقتصاد في حكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج يمكن استنتاج أن هناك ديناً عاماً محلياً جديداً ترتب على الصرف الحكومي الموازي تراكم خلال الفترة الممتدة من عام 2021 وحتى أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بلغ ما قيمته 45.9 مليار دينار ليبي (9.45 مليار دولار)، على رغم أن هذه السلف تمت من دون إطار تشريعي ينظمها وفقاً لقوانين الدين العام والتي لا تجيز لوزارة المالية الاقتراض إلا بقانون، وكذلك المخالفة الصريحة لقانون المصارف رقم (1)1 لسنة 2005 والتي تجيز للبنك المركزي منح سلف موقته لوزارة المالية شرط ألا تزيد على خُمس الإيرادات المقدرة للموازنة العامة، وهو ما لم يحدث بسبب الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد.

واقترح الفضيل معالجة تراكم الدين العام المحلي من خلال العمل على إجراءات مطابقة للأزمة من وزارة المالية ومصرف ليبيا المركزي للمصادقة على قيم الدين العام المحلي للتنسيق ووضع مشروع جدولة زمنية من قبل الجهات المعنية لسداد هذا الدين العام، والعمل على التوجه نحو الخصم المباشر من قبل مصرف ليبيا المركزي من الإيرادات النفطية بنسبة خمسة في المئة مع ضرورة أن يكون الإنفاق الحكومي مقتصراً على حكومة واحدة تتبنى سياسة ترشيد الإنفاق وعدم التوسع فيه.

اقرأ المزيد