Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللثام... قطعة القماش الأشد غموضا عبر التاريخ

تمتد قصة القناع عبر العصور والحضارات رابطة وسيلة التستر هذه بمجموعة متنوعة من الاستخدامات العملية والدلالات الثقافية

البطل الثوري المقنّع في فيلم V for Vendetta (موقع الفيلم)

ملخص

تمتد قصة القناع عبر العصور والحضارات رابطة وسيلة التستر هذه بمجموعة متنوعة من الاستخدامات العملية والدلالات الثقافية

في ليلة أصابني الأرق خلالها قبل بضعة أيام، رحت أتسكع في أزقة العالم الافتراضي في محاولة للعثور على ركن يكون لي مهرباً موقتاً من القساوة والألم الشديدين الطاغيين على الأخبار في الآونة الأخيرة. أثناء استعراض صفحة على "فيسبوك" أتابعها بشكل منتظم تنشر أقوالاً مأثورة أدبية واقتباسات تحفيزية، صادفتني مقولة للكاتبة الأميركية الأكثر مبيعاً، مورغان ريتشارد أوليفيير، هي: "في النهاية، سيكشف الناس دائماً بطريقة ما مَن هم. عليك فقط منحهم المساحة والوقت لفعل ذلك. لا يوجد قناع يمكن ارتداؤه إلى الأبد".

بالطبع تتحدث الروائية هنا عن الأقنعة المجازية، لكن ماذا عن اللُثُم الفعلية التي يختبئ وراءها أشخاص بتنا نراهم بكثرة على المنصات الإعلامية، إما يهددون أو يتوعدون أو يهللون لما يرونه إنجازاً أو نصراً حققوه أنفسهم أو الجماعات الموالية لهم؟

إلى أي مدى يستطيع من يحاولون إخفاء هوياتهم الحقيقية التستر وراء قطعة القماش هذه التي تعتبر رمزاً للغموض على مر العصور وعبر الثقافات وفي الواقع والأدب المتخيل، حتى أن هناك الآن نسخة إلكترونية منها تحمل اسم "المستخدم المجهول"؟ ولماذا يلجؤون إلى وسائل الحجب هذه أساساً؟

قناع ... لثام ... كمامة

في حين أن هذه المفردات تستخدم عادة للدلالة على الشيء نفسه إلا أنها عناصر مختلفة من الناحية الشكلية والوظيفية. فاللثام هو قطعة مصنوعة من القماش تستخدم لتغطية الأنف والفم وبقية الجزء السفلي من الوجه. أما القناع فيمكن أن يخاط من القماش أو الجلد أو نسيج النايلون أو يصنع من البلاستيك، ويغطي الوجه بشكل كامل أو جزئي وقد يكون بسيطاً أو مزيناً بتصميمات معقدة. في المقابل، تتمتع الكمامة بأقل رمزية هنا من بين الثلاثة، فالغرض الرئيس منها هو وقاية مرتديها والآخرين من انتقال الأمراض المعدية والجسيمات الصغيرة والأبخرة الضارة، وهناك أنواع مختلفة منها كالجراحية والقماشية والقطنية والصناعية، تختلف بحسب درجة فعاليتها في تصفية الهواء المستنشَق وذاك المطروح مع الزفير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تاريخ غامض

يمتد تاريخ استخدام القناع واللثام لآلاف السنين، ويصعب تحديد الثقافة التي استخدمتهما أولاً، لكن المعروف هو أنهما كانا منتشرين في ثقافات وحضارات مختلفة وكانت لهما أغراض متنوعة. في مصر القديمة ارتدى النبلاء والفراعنة القناع واللثام لغايات الحفاظ على الهوية والتقاليد الدينية، وكانوا يصنعون أقنعة خاصة لمراسم الجنائز والطقوس الدينية يرتديها الكهنة، إضافة إلى تكريم ملوكهم بتغطية مومياواتهم بأقنعة، كذلك الذي عثر عليه عام 1925 في مقبرة الملك توت عنخ آمون، ليصبح أشهر قناع عرفته البشرية.

وفي الحضارة الصينية القديمة، كانت هناك تقاليد لارتداء الأقنعة – بخاصة تلك التي تغطي العينين فقط - واللثم في بعض المناسبات والمسرحيات، حيث شكل لبسها جزءاً من الأعراف الفنية والثقافية.

وفي الهند المجاورة وأجزاء أخرى من جنوب آسيا، ارتدت النساء التقليديات النوع المعروف بـ البرقع من أغطية الوجه وكان مصنوعاً من الحرير الشفاف والخيوط المذهبة أو الملونة التي تتناسب ألوانها مع زي الـ "ساري" لإضفاء لمسة من السحر والغموض الأنثوي على وجوههن، أكثر من كونه رمزاً لتحفظ المرأة والتزامها الديني.

وبين سكان أميركا الأصليين، كان القادة الروحانيون والشامان يرتدون أقنعة في الطقوس والاحتفالات الروحانية والثقافية.

تمثل الأقنعة واللثم جزءاً من التراث الثقافي في الحضارة الأوروبية، وتستخدم على مر العصور لتأدية وظائف متعددة عكست التطورات الاجتماعية والثقافية مع الزمن. في فترات مختلفة من التاريخ الأوروبي، كانت الأقنعة رائجة في الفن والمسرح. يحتوي متحف ميتروبوليتان في نيويورك على تمثال إغريقي برونزي يعود إلى القرن 2-3 قبل الميلاد يجسد راقصة أو فنانة إيمائية تقدم أداء كان منتشراً في مدينة الإسكندرية. من جهتهم أبدع النحاتون الرومان وتفننوا في تكوين تماثيل لنساء يرتدين خُمُراً شفافة لإبراز قدراتهم على تجسيد مثل هذه الأغطية الهشة على الصخور الصلبة. وفي العصور الوسطى، كانت الأقنعة تستخدم في المسرحيات الكوميدية الهزلية والدرامية، أما في الفترات الحديثة، اشتهر استخدامها في الأعمال المأخوذة من التراث الكلاسيكي الإغريقي.

كذلك يشيع ارتداؤها في المهرجانات والاحتفالات الأوروبية التقليدية لأغراض الاحتفال والتنكر، كما في كرنفال البندقية الشهير في إيطاليا الذي يتميز المشاركون به بأقنعتهم الزاهية والمبهرة.

وفي بعض الفترات التاريخية والمجتمعات الأوروبية، استُخدمت الأقنعة لأغراض دينية، حيث كانت ترمز إلى القديسين أو الشياطين أو كائنات أسطورية خارقة. وكذلك كانت بعض القرى الأوروبية القديمة تتبع طقوساً سنوية وتقاليد تشمل التخفي وراء الأقنعة.

وفي المقابل، كان هناك انتشار واسع للثم والأقنعة في العصور الوسطى بين اللصوص والمجرمين الذين اكتشفوا هذه الوسيلة السهلة لإخفاء هويتهم أثناء ارتكاب الجرائم وعمليات السطو والسرقة.

امتدت هذه الاستعمالات إلى أميركا أيضاً، إلى جانب تبني القناع من قبل بعض الجماعات الدينية المتطرفة في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، تختلف استخداماته ورمزيته تبعاً للمجموعة والعقيدة. يشكل القناع جزءاً من الهوية الجماعية للمجموعة، وقد يكون له دور رمزي في التفرد والانتماء إلى هذه الجماعات، ويتراوح استخدامه بين الطقوس والاحتفالات الدينية إلى التخفي عن أعين السلطات أو للتحرك في الظلام. من أبرز هذه الجماعات جماعة "كو كلاكس كلان" المتطرفة التي تأسست في الولايات المتحدة الأميركية عام 1865 التي تشتهر بزيها القماشي الأبيض المكون من رداء وقناع أبيض مخيف.

يشيع في بعض الثقافات والمناطق العربية مثل الطوارق والبدو والصحراء تغطية الجزء السفلي من الوجه أو العينين والفم، وتظهر تنوعاً ثقافياً واجتماعياً لهذه المجتمعات.

يعد العامل البيئي الدافع الأول لتبني هذه الإطلالة المميزة، حين تكون اللثم مفيدة لحماية المرء من الرمال والغبار وأشعة الشمس الحارقة. كذلك تعد الخصوصية والتحجب عن أعين الغرباء، بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء، سبباً لاستخدام اللثام أو الخمار. تشير الكاتبة لين ثورنتون في كتاب "النساء في لوحات المستشرقين" أن الخمار أو غطاء الوجه كان عنصراً يظهر بكثرة في أعمال الفنانين الذين سحرهم الشرق وفتنهم غموض نسائه.

وبعيداً من المعتقدات الدينية، يعتبر غطاء الوجه جزءاً من الهوية الثقافية ورمزاً للفخر بها، ويعد ارتداؤه عنصراً تقليدياً أساسياً في المناسبات الخاصة والأعياد وحفلات الزفاف.

تعددت الاستخدامات والرمزية واحدة

يمتلك القناع واللثام رمزية ومعاني متعددة تختلف تبعاً للثقافة والزمان والسياق، أبرزها الغموض والتحجب والإخفاء، حيث يمكّن ارتداء المرء أحدهما من إخفاء هويته ووجهه بشكل جزئي أو كامل. وفي حين يمكن أن يخلق هذا شيئاً من الفضول والاهتمام، قد يؤدي أيضاً إلى بعض التشويش واللغط كما حدث في أغسطس (آب) الماضي لما قام جنود إسرائيليون برصد عدد من "المشتبه فيهم الملثمين" في مستوطنة معاليه ليفونا قرب مدينة نابلس، وإطلاق النار عليهم. ليتبين لاحقاً أنهم لم يكونوا سوى "مواطنين إسرائيليين ملثمين" وأدت الحادثة إلى مقتل اثنين من بينهم.

في بعض الثقافات والسياقات الفنية تمكن الاستعانة بالقناع للتعبير عن حالة شعورية بإيماءة ثابتة لنقل مشاعر الفنان بطريقة مبالغ فيها أو مسرحية، أو كرمز للتناقضات الداخلية والأقنعة الاجتماعية المجازية، أو لأغراض التنكر والتسلية وإثارة التساؤلات حول هوية مرتديها.

كما يلجأ بعض الفنانين إلى ارتداء أقنعة إلى جانب الأزياء الغريبة في حفلاتهم أو التسجيلات المصورة لأغنياتهم. تعد مادونا وليدي غاغا من أشهر الفنانات المحبات لإضافة هذا العنصر إلى إطلالاتهن، إلى جانب كيم كاردشيان التي ظهرت عام 2021 في رداء أسود يغطيها من رأسها حتى أخمص قدميها خلال حضورها حفل مِت غالا، فصارت أشهر شخصية "متخفية" معروفة.

كذلك تلعب أغطية الوجه دوراً في طقوس دينية وروحانية وقد ترمز إلى الاتصال بعوالم أو كائنات خارقة.

وفي بعض التظاهرات والاحتجاجات، قد يلجأ المحتجون إلى اللثام أو القناع للتظاهر بشكل مجهول أو للمحافظة على خصوصيتهم.

هناك بعض الرياضات المثيرة والاستعراضات المجازفة مثل سباقات الدراجات النارية التي يستخدم فيها المتسابقون أقنعة أو لثماً لحمايتهم وإضفاء سرية على هويتهم.

إلى جانب ارتباط وسيلة التخفي هذه بكثير من زعماء وأعضاء المجموعات المسلحة في العالم، تاريخياً يشتهر السفاكون (منفذو أحكام الإعدام) بارتداء أقنعة للحفاظ على هويتهم والحؤول دون تعرف أفراد المجتمع عليهم وذلك خوفاً من الثأر وتجنب العار وارتباطهم بالسلبية والقسوة ولفت الأنظار إليهم عندما يكونون في الأماكن العامة.

وبالمثل، يحاول المهاجمون في عالم الإنترنت أو القراصنة الإلكترونيون الحفاظ على هوياتهم مصانة من التعقب والتتبع، لاجئين إلى هويات مستخدمين مجهولة، لكن درجة التورية هنا أعلى من مجرد ساتر سطحي، حيث تتطلب حجب عنوان الجهاز الذي يستخدمونه وإلغاء تفعيل خاصية تحديد الموقع الجغرافي لهم. ناهيك عن ملايين المستخدمين الذين يتحصنون في حروبهم الرقمية وسجالاتهم الافتراضية وراء ملفات شخصية بأسماء مستعارة وصور خلبية.

شخصية الملثم في الخيال

يحتوي الموروث الشعبي العربي، على عدد من الشخصيات القصصية والأدبية التي وصفت بأنها كانت ترتدي قناعاً أو لثاماً، منها قصص "الجني"، حيث يتم كثيراً تصوير الجني على أنه كائن خارق بوجه مخيف يغطيه بلثام. وفي بعض نسخ قصص ألف ليلة وليلة الشهيرة، كانت شهرزاد توصف بالمرأة الشجاعة الذكية التي حاولت إبقاء شخصيتها غامضة بارتداء لثام حريري. كما تتحدث القصص الشعبية عن كثير من الفارسات والفرسان الأقوياء والمجهولين الذين يرتدون أقنعة ولثماً أثناء أداء مهامهم البطولية، ولصوص أخيار يحجبون هوياتهم بينما ينهبون كنوز الأثرياء ويعيدون الحقوق إلى أصحابها الفقراء.

بالمثل، تشتهر الثقافة الغربية بأبطال مقنّعين مثل زورو Zorro الشخصية الأدبية الخيالية على هيئة فارس معروف بقناعه وحصانه يستخدم سيفه للدفاع عن العدالة ومكافحة الظلم في منطقة كاليفورنيا خلال الفترة الاستعمارية الإسبانية في القرن التاسع عشر. أنشئت هذه الشخصية بواسطة الكاتب الأميركي جونستون مكولي، وحققت شهرتها في مجال الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والمسرحيات الغنائية والكتب.

على صعيد القصص المصورة والسينما تشتهر شخصية باتمان Batman أو الرجل الوطواط، بروس واين، الذي يرتدي عباءته المميزة وقناعه ليتمكن من محاربة الجريمة في مدينة غوثام بكل أريحية.

البطل السينمائي الثوري المقنع الآخر الذي انطلق من عالم القصص المصورة هو "ڨي" من حكاية "ڨي رمز الثأر" V for Vendetta الذي يقاتل ضد النظام القمعي.

في الشاشة الصغيرة تميز مسلسل "بيت المال" La Casa de Papel الإسباني الشهير بشخصيات سارقيه الذين يرتدون زي الحماية الأحمر وقناع سيلفادور دالي في مهمتهم للسطو على المصلحة الملكية لطباعة الأوراق المالية.

وهكذا نجد أن هذا العنصر الذي يستر الوجه، هو بحد ذاته رمز متعدد الأوجه، قادر على الارتباط بالتخفي والغموض والتعبير عن الفن والهويات الثقافية والتقاليد في آن معاً. أتمنى أن تكون هذه الجولة قد مكنتكم من رؤية ما وراء هذه الحُجب واكتشاف قصص وأسرار تساعد في "إماطة اللثام" عن قطعة القماش الغامضة والمثيرة هذه.

المزيد من تحقيقات ومطولات