Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الدعم السريع"... هل خروقها لحقوق المدنيين "تفلتات" أم علة مهنية؟

لا يكف حميدتي عن تصوير جرائم قواته كظواهر سلبية إلى حد إنشاء لجنة لملاحقتها لكن استدراك تلك الأفعال يستحيل مهما حسنت النيات

تصور قوات الدعم السريع جرائم الحرب كتفلتات وظواهر سلبية (أ ف ب)

ملخص

لا نعرف كلمة صارت مضغة على فم حميدتي مثل "تفلتات" منذ دخل باب السياسة بعد ثورة 2018، ولا نعرف مع ذلك قوة مارست هذا التفلت بلا شفقة في حين واظب قائدها على إنكاره

إذا أغرت قوات "الدعم السريع" مكاسبها في ولاية دارفور خلال الأسبوع الماضي بالاستيلاء على كل السودان، كما صرح نائب القائد العام لهذه القوات عبدالرحيم دقلو، فيصح أن نسأل: ما هوية هذه القوات التي بدا أنها رتبت نفسها لحكم السودان؟

اقتصر فهمنا لهوية هذه القوات على سياستها، فخصومها يرونها حالة ارتزاق كاملة الدسم، بينما يعلق عليها آخرون ما تزعمه هي من خروجها لخلاص البلاد من الفلول (الإسلاميين أنصار نظام الإنقاذ) الذين حرضوا الجيش على حربها والقضاء عليها ليعودوا إلى الحكم، وقل أن تعثر على من يربط بين هويتها السياسة وهويتها كمؤسسة استثمارية عسكرية، ناهيك بربط أي من هاتين الهويتين بهويتها المهنية.

ونعني بالهوية المهنية عنصر الضبط والربط فيها الراكز في سلسلة قيادة من أعلى إلى أسفل. ولا أعرف تزكية للمهنية مثل تزكية جي أم كويتزي الروائي من جنوب أفريقيا في روايته "العصر الحديدي". قال فيها إنه لم يمنع النظام العنصري في جنوب أفريقيا أن يهلك "الرفاق" (وهو ما كان يطلق على الشباب الذين صارعوه بقوة) عن بكرة أبيهم، إلا أن قوات أمنه، مهما قلت عنها، استعصمت بالمهنية. فعصمتها مهنيتها دون ألا تبقى من الرفاق دياراً.

وليس كسب "الدعم السريع" في الميدان مع ذلك مما يتعزز به، فقد خالطه من التعديات ما قالت به "السودان ور مونيتر" إن كسبها من هجوماتها هو مزيد من النهب من مدن تعاني تردي اقتصادها ونظامها الصحي، وأهلك الجوع أهلها المروعين من انفراط متزايد للقانون. وكانت هذه المنقصة في أداء "الدعم السريع" المهني في مركز دائرة خطاب الفريق أول حميدتي في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. فحذر فيه جنده من التفلتات بالعدوان على حق المواطن والمساس بعرضه. وبدا وكأنه يرد على النقد الذي طال قواته عن احتلالها بيوت الناس، ونهبها أموالهم، والإساءة إلى عرضهم، ناهيك بالتطهير العرقي، مما وثقت له دوائر عالمية معنية بحقوق الإنسان والقانون الإنساني للحرب.

ولا نعرف كلمة صارت مضغة على فم حميدتي مثل "تفلتات" منذ دخل باب السياسة بعد ثورة 2018. ولا نعرف مع ذلك قوة مارست هذا التفلت بلا شفقة في حين واظب قائدها على إنكاره. ويسعى مع ذلك من وراء القانون لاستخلاص جنوده بفدية للمجني عليهم.

كانت حجة حميدتي دائماً أن قواته مقصودة بأطراف تريد أن تشينها في أعين الناس. فيصرف كل تهمة بالتفلت إلى هؤلاء المغرضين ممن أرادوا الإيقاع بينه وبين الشعب. وجاء بهذه الحجة في خطابه الأخير، فقال إن الفلول رتبوا منذ زمن طويل لدمغ قواته بالنهب والقتل والاغتصاب. فأطلقوا سراح كل المساجين بمعتادي إجرامهم في أول أيام الحرب ليعيثوا فساداً في الأرض وينسبوه لقواته. وزاد بقوله إنهم وقعوا على مخزن بأكمله مليء بملابس "الدعم السريع" طولاً وعرضاً لترتديه عناصر الفلول، فترتكب الموبقات، فينسبها الناس إليهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبلغ من نكد سمعة النهب والقتل والاغتصاب عن قواته أن أنشأ حميدتي في الـ28 من يونيو (حزيران) الماضي محكمة ميدانية لمحاسبة المتفلتين والظواهر السالبة بقيادة اللواء عصام صالح فضيل، وهو من ضباط القوات المسلحة المعارين لـ"الدعم السريع" وبقي فيه عاصياً أمرها بعودته إلى صفها. ولا يعرف المرء المتظلم من "الدعم السريع" كيف يحمل ظلامته للمحكمة بعد. ولم يصدر منها كذلك تقرير عن حصيلتها بعد. وأوثق ما سمعنا عنها هي مساعي فضيل لرأب الصدع بين "متفلتين" من جنده وجماعة من عرب الكبابيش بعد مقاتل بينهما. فقتل الدعامة (أي منسوبو "الدعم السريع") لواحد منهم رفض أن يتنازل لهم عن سيارته. وجلس عصام إلى الطرفين وتكفل عن "الدعم السريع" بدفع الديات عنهما. وورد أخيراً خبر غير مؤكد أن فضيل نفسه تعرض لمحنة خلال أداء واجبه.

وغير خافٍ أن ما ترتكبه "الدعم السريع" في حق الناس وعرضهم هو علة في بنيته كجيش خلاء (في مقابل جيش الكلية الحربية في عرف السودانيين) على رغم مساعي "الدعم السريع" الدائبة لتصويره كاستثناء موجب للمؤاخذة. فالعلة في هوية "الدعم السريع" كجيش لم يتخلق بمهنية القتال الذي ربما أجاده حركات ومصابرة. فليس دونه وحق الناس عاصم من مهنية. فليس منهم من يحرص على الترقي في المهنة ومسؤولياتها بقسم أمام دستور ووطن تحت قيادة آمرة ناهية لا كقيادة حميدتي التي لا تلقي الأعذار عما يرتكبه منسوبوها فحسب، بل وتفديهم متى تورطوا في عيب أيضاً.

وعليه ينتهز صفوفه كل مغامر ممن يعرف بلورد الحرب.

ومن ضمن هؤلاء المغامرين حسين برشم عبود (أبو شنب) الذي ذاع ذكره متصلاً بهجوم "الدعم السريع" بقيادته على بلدة ود عشانا بشرق ولاية كردفان في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وكان حسين قد جاء من السعودية، حيث عمل في أمن الشركات، وهو ممن يقرضون الشعر مثل قوله في حبيبته:

فطينا (فاطمة) الدنيا خينيه (خائنة) أبت تسمح لينا

وهجوم ود عشانا هو الذي حيته قيادة "الدعم السريع" ببيان لها بوصفه المدخل للهجوم على ميناء كوستي النهري والبري على النيل الأبيض، والمدخل لولاية الجزيرة، فالخرطوم. وصمتت عن نهبه للبلدة وقتل بعض أهلها. فقال شاهد عيان إن جنود برشم دخلوا البيوت وكسروا المتاجر فإما سلمتهم مالك أو قتلوك. وقتلوا بالفعل جماعة من المدنيين، ثم سرقوا تليفونات وثلاجات وشاشات التلفزيون وكسروا الدكاكين. وقال إنهم "انتهوا من الأخضر واليابس". ولم تصمت قيادة "الدعم السريع" عن هذا التفلت الدموي الذي تم باسمها، أو تحت قيادتها، فحسب، بل لم تفتقد برشم حين لم يواصل حملته إلى كوستي وغادر إلى أهله في غرب كردفان.

وكان اقتحام "الدعم السريع" على بلدة العيلفون القريبة من الخرطوم في السادس من أكتوبر الماضي تفلتاً صريحاً بدلائله. وكان على قيادة ذلك الاقتحام أبو عاقلة محمد أحمد كيكل. وله سمعة سبقت في التهريب. ونشط في منبر على "فيسبوك" يعنى بقضايا أهله في شرق السودان. وغازل قوى الحرية والتغيير لما كنت في الحكم، ولم يجد سبيلاً لها. فكون مع آخرين جماعة مسلحة هي "درع الوطن" تحتج على المكاسب التي نالتها دارفور باتفاق جوبا في 2021 في حين انحرم منها أهله، ثم جرى إغراؤه بالانضمام لـ"الدعم السريع"، ففعل.

فما دخل "الدعم السريع" العيلفون حتى طردوا أهلها من بيوتهم، ونهبوا السيارات والذهب واستباحوا ما في البقالات، واغتصبوا نساءً. وقال شاهد عيان إنهم لم يمهلوه وقتاً، فخرج من بيته بجلابية متسخة وجهاز تليفون وكيس أدوية، وأنه عاد لبيته ليأخذ بعض أوراقه فرموه على الأرض وضربوا الرصاص من حوله. ومن أحزن ما قاله إن العيلفون بلد قديم تقطعت أسبابه بأصوله القبلية أو في القرى. وهي المواضع الآمنة التي قصدها من سبق لـ"الدعم السريع" طردهم من منازلهم في الخرطوم. فضربوا في الأرض لا يعرفون إلى أين.

وظهر كيكل في فيديو بعدها بأيام يستعرض ما لا يقل عن 100 سيارة في حوش كبير. وقال إنها سيارات "أهلنا ناس العيلفون". ووجه من حوله ليصوروا أرقام اللوحات واحدة بعد أخرى ليتعرف عليها أهلها ويبلغوا في الغد لتسلمها. وزاد بقوله إن تلك هي "الظواهر السالبة". ومع ذلك لم تصدر من "الدعم السريع"، وهو يحتفي باحتلال العيلفون، عبارة واحدة عن جريمة حربها فيها بطرد المدنيين من دورهم.

لا يكف "الدعم السريع" عن تصوير جرائم حربه كتفلتات وظواهر سالبة لحد إنشاء لجنة لملاحقتها، لكن ما دخله من هذه الجهة مما لا يتداوى في قول السودانيين، أي إنه فاقد المهنية، وهي مما لا ينصلح بلجنة، فما دخله مما يستحيل استدراكه مهما حسنت النيات؟!

المزيد من آراء