مع تكبيرات المؤذن، بدأ الناس يتوجهون إلى صلاة الجمعة، صعد الخطيب إلى المنبر ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وقال "أمّا بعد... فإنّ المشاركة في مسيرة العودة فرض عين، ومَن لم يشارك فإنّه آثم، إنّها واجب ديني قبل أن تكون واجباً وطنياً". بدأ صوته يعلو تدريجاً وأكمل حديثه "عندما تشارك قيادة الفصائل في التظاهرات على الحدود مع إسرائيل، فإن مشاركة عامة الناس تكون إلزامية، وسيحاسب أمام الله مَن لم يشارك فيها".
وبدأ المصلون يتذمرون من حديث الخطيب الذي شرع بالصراخ أكثر على المنبر، وهو يحضّ الرجال على المشاركة مع نسائهم في مسيرات العودة، من منطلق ديني، استجابةً لدعوات الله ورسوله والفصائل التي ترى وتحدد المصلحة العامة للناس.
وبعد مضي حوالى تسع دقائق من حديث الإمام المتواصل، غيّر الخطيب الحديث، قائلاً "في الضفة الغربية أشخاص يتبعون سياسة أميركا وإسرائيل، يمشون مع الغرب ضد نهج المقاومة، ويظهرون بشكلٍ لطيف بأنّهم دعاة الديمقراطية"، وأكمل حديثه على النهج ذاته، فغادر ثلاثة أشخاص المسجد.
عادة دينية
وفقاً للتعاليم الدينية الإسلامية، فإنّ يوم الجمعة له صلاة خاصة، يلقي فيها الأئمة خطبة للمصلين الوافدين إلى المساجد، وعادة ما تكون من جزأين، ويفصل بينهما دعاء الحاضرين للخطبة بشكل سري، ويختتمها الإمام بدعاء جهري، ثمّ يقوموا إلى الصلاة. في هذه الخطبة الدينية، من المفترض أنّ يتحدث الخطيب عن الإسلام والتذكير بأركانه وتعديل سلوك الناس وحضهم على اتباع الدين، بطرق تستقطب عقولهم (الترغيب أو الترهيب)، مع مراعاة الفوارق الواضحة بين المصلين (العمر والدرجة العلمية والتوجهات السياسية).
منبر سياسي
رصدت "اندبندنت عربية" مضمون هذه الخطبة وغيرها، وكيفية تقبل المصلين محتواها السياسي الممزوج بالحديث الديني، فخلصت النتائج إلى أن المصلّين نفروا بشكلٍ عام من طريقة الإمام ومضمون حديثه، الذي غلب عليه الطابع السياسي المؤطر حزبياً والظاهر عليه الانتماء إلى حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين.
لم تكن هذه خطبة الجمعة الوحيدة التي تحدث فيها الأئمة عن الحياة السياسية بشكلٍ حزبي وفصائلي، بل في معظم خطب أيام الجمعة يكون الموضوع سياسياً، وفي كلّ المساجد تقريباً، الأمر الذي علّق عليه يوسف فرحات، المدير العام للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بالقول إنهم مع حديث الخطيب في الحياة السياسية، على اعتبار أنها جزء من الدين ولا انفصال بينهما.
وعادة ما يتحدث الأئمة بشكل مستمر في السياسة، ويروّجون لانتماء كلّ منهم حزبياً، وما يحمله فصيله. وبالنسبة إلى ذلك، يشرح فرحات أنّ الأصل الحديث في السياسة الوطنية التي تمثل المصلحة العامة، وكثيراً ما نحذر الخطباء من حديث المصلحة الحزبية. ورصدت "اندبندنت عربية" آراء عدد من المصلين حول الخطبة، فكان ردّهم بالإجماع أنّ منابر المساجد تحولت إلى منابر حديث سياسي وترويج أفكار حزبية، بناء على انتماء الإمام من دون مراعاة لتنوع فئات المصلين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توزيع الخطباء على المساجد
وتتولى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مهمة توزيع الخطباء على المساجد، ويوضح فرحات أنّ عملية التوزيع تأتي بطريقة منهجية وعبر قواعد كثيرة، ولا ننظر إلى الانتماء السياسي أو العمر أو الدرجة العلمية.
وبحسب مصادر "اندبندنت عربية"، في قطاع غزّة 1060 مسجداً، تشرف خطابة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية على حوالى 800 مسجد منها، بينما بقية المساجد إمّا صغيرة لا تحتاج إلى خطبة الجمعة، أو تعمد المؤسسات الأهلية (جمعية الكتاب والسنة وجماعة الدعوة والتبليغ وغيرهما) إلى توفير خطباء لها، وجزء منها تابع لحركة الجهاد الإسلامي التي تتولى إرسال خطباء إلى مساجدها.
وتُقسّم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية المساجد التي تشرف عليها حسب الحجم والجمهور، إلى كبيرة ومتوسطة وصغيرة، فيلفت فرحات إلى أنهم يختارون للمسجد الكبير أعلم الخطباء خبرة وأكثرهم حذاقة ودراية وتمتع بفن الخطابة وقبولاً وتأثيراً في الجمهور. وإذا كانت الوزارة تشرف على موضوع الخطبة الذي سيلقيها الإمام أمام المصلين أم لا، يوضح فرحات أنّ شعارهم أنهم لا يلزمون الخطباء في عنوان محدّد إلاّ في حالات نادرة، كأن تكون هناك مناسبة دينية أو وطنية (حول القدس أو الجوانب الأمنية أو تعبئة حول قضية سياسية) بما يُمثّل المصلحة الوطنية للجميع.
سلطان أدبي
هذا الحديث إلى جانب قوله إنّهم ليسوا ضد أن تتطرّق الخطبة إلى مواضيع سياسية، يؤكد نظرية تحوّل منابر المساجد إلى بؤرة سياسية، لكنّ فرحات يبرّر ذلك بأنّ الإسلام لا يفصل الدين عن السياسة، وخطب النبي محمد في الناس على المنبر سياسياً، لكنه يذكر أنّهم يحاولون تفادي العراك الحزبي، قائلاً "عادة ما نعقد اجتماعات مع الخطباء ونحضهم على عدم إقحام النزاعات الحزبية في المنابر".
ويبدو من خلال من تابع الخطباء ومضمون خطبهم أنّهم لا يلتزمون بتوجيهات الوزارة، ويؤكّد فرحات ذلك، إذ إنهم يتلقون الكثير من الشكاوى على الخطباء بشكل مستمر، ويرجع سبب ذلك إلى أنّ معايير الجمهور في تقييم الخطيب تختلف من إنسان إلى آخر. وحول كيفية التصرف مع الخطيب الذي يحوّل الحديث على المنبر الديني إلى خطاب سياسي، يقول فرحات "نعمل على استدعاء الخطيب، والتفاهم معه، وإرشاده إلى ضرورة مناقشة أمور عامة تخصّ الجمهور، وفي حال أصرّ على الحديث السياسي الحزبي الخالي من المصلحة العامة، نستغني عنه".
وبالمتابعة، فإنّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لا تستطيع أن تفرض عقوبات على الخطباء كونهم يعملون كمتطوعين لديها، ويوضح فرحات أنه لا سلطان كبيراً للوزارة على الخطباء سوى الحث الأدبي والأخلاقي".