Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تعاني فرنسا أزمة ماضيها الكولونيالي وتردداته

  "الإستعمارات: قصتنا" كتاب يرد على الأسئلة الراهنة وهو تتويج لأعمال فريق بحثي من أنحاء العالم

لوحة تمثل الإستعمار الفرنسي في أفريقيا (متحف الكولنيالية الفرنسية)

ملخص

  "الإستعمارات: قصتنا"  كتاب يرد على الأسئلة الراهنة وهو تتويج لأعمال فريق بحثي من أنحاء العالم

بدأ ماضي فرنسا الكولونيالي في القرن الـ16 مع فرض المملكة الفرنسية سيطرتها على حصن كوليني في البرازيل عام 1555، ثم امتدت هذه السيطرة لتشمل في ما بعد أراضي سان بيار وميكلون ومقاطعة الكيبيك الكندية، وصولاً إلى البحر الكاريبي وجزر الهند الغربية كالمارتينيك والغوادلوب ونيو أورليانز ولويزيانا الأميركية، وبونديشري وشاندرنارغور ويانام في الهند ولاريونيون وجزيرة دو فرانس وجزر الموريس والسيشل في المحيط الهندي. فضلاً عن بلدان أفريقية عديدة، وجزر واقعة في شمال وجنوب المحيط الهادئ وغيرها من الأماكن في العالم.  وفي هذا الشأن، ماضي فرنسا الكولونيالي صدر كتاب جماعي تحت إشراف المؤرخ الفرنسي المتخصص في الإمبراطوريات الاستعمارية والعولمة وأستاذ التاريخ في كينغز كوليدج في لندن وفي جامعة السوربون الأولى، بيار سينغارافيلو المسمى "الاستعمارات، قصتنا" (دار سوي في باريس 2023).

  جاء الكتاب تتويجاً لأعمال فريق بحثي مؤلف من أكثر من 250 باحثاً من جميع أنحاء العالم، قدموا لنا معارف جديدة عن الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وأشكالها المفاجئة أحياناً، وآثارها المدمرة، وحدودها التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة. من بين المؤرخين والروائيين والفنانين الذين شاركوا في الكتاب الجماعي، فدرسوا الاستعمار الفرنسي، ليس كمرحلة من ماضي فرنسا وحسب، بل أيضاً كجزء من حاضرها، آرتور آسيراف وغيوم بلان وميلاني لاموت وناديا يالا كيسوكيدي وماغالي بروسون وإيف فرونيت وغيرهم.

 يقع الكتاب في 720 صفحة غنية بالمعلومات والشروحات والتحليلات، وهو سيشكل حتماً مرجعاً مهماً في فهم تاريخ الاستعمار الفرنسي في العالم وفلسفته، بعد أن أبقى المؤرخون، ولفترة طويلة، المسألة الاستعمارية على هامش الدراسات الأكاديمية. فليس لدى المهتمين بتاريخ الاستعمار الفرنسي سوى مساهمة علمية واحدة خصصت من أصل 130 مساهمة لدراسة الاستعمار صدرت عام 1992 في كتاب عنوانه "أماكن الذاكرة"، نسق أبحاثه وأشرف عليها المؤرخ المعروف بيار نورا، علماً أنها تناولت حدثاً باريسياً بحتاً، عنيت المعرض الاستعماري الذي أقيم في باريس عام 1931. إلى جانب هذا الكتاب ثمة كتاب آخر صدر العام الماضي أعده كل من باسكال بلانشار ونيكولا بانسل وجيل بويتش ودومينيك توما وكريستيل تورا، بعنوان "جنس، عرق ومستعمرات"، قارب الدارسون فيه تاريخ الاستعمار من زاوية العنف الجنسي الذي شكل فرصة للتذكير بمحورية السؤال المتعلق بالجسد "المحلي" الأنثوي، بغية فهم العنصرية وتبيان كيف يمر الاستيلاء على الأراضي عبر الاستيلاء على الأجساد وتصنيفها عرقياً وتجريدها من إنسانيتها.

 هذا يعني أن ميدان دراسات تاريخ الكولونيالية الفرنسية وما بعدها ما زال بكراً، وأن تدريسها اليوم  في المدارس المتوسطة والثانويات والجامعات ما زال صعباً، مما يجعل الشباب الفرنسي غير قادر على فهم مرحلة مهمة من تاريخ بلده ومن تاريخ العالم.

الإستعمار بعيون مزدوجة

تدعونا الدراسات التي يؤلف مجموعها متن هذا الكتاب الموسوعي إلى النظر إلى الاستعمار الفرنسي بعيون المستعمِرين والمستعمَرين، في عصر تهيمن عليه أسئلة الهوية وصراعات الذاكرة، في استعادة واضحة، لتنوعات وتعقيدات الأوضاع الكولونيالية في أفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا والأميركتين، التي ولدت في الوقت عينه تاريخ غني وعنيف، منسوج من تبادلات لا تعد ولا تحصى، جعل من الفرنسيين ومن مستعمراتهم ما هم عليه اليوم. ترصد لنا بعض هذه الدراسات العلاقات الجدلية القائمة بين المستعمرين والمستعمرين المرتبطين ببعضهم بعضاً التي غيرت من أوضاع الجميع إلى الأبد، فجعلت التجارب المعيشية التي مر بها المستعمرون في كثير من النواحي جزءاً من تاريخ فرنسا. ولئن كان التساؤل عن الماضي الكولونيالي الفرنسي يبدأ دوماً من الحاضر، فإن سينغارافيلو أخذ على عاتقه العودة بالزمن للوراء، انطلاقاً من الأحداث الأكثر راهنية، وصولاً إلى عوالم ما قبل الاستعمار، فوضح لنا كيف أن الاستعمار أنتج أنساقاً معرفية وفكرية وتاريخية جديدة، مستهدفاً إعادة قراءة المنجز المعرفي الاستعماري خارج مقاربات الهامش، المجسدة في إنتلجينسيا أبناء المستعمرات القديمة من النخب المثقفة.

في تقديمها للجزء الأول من الكتاب رأت نادية يالا كيسوكيدي أنه في مرحلة الاستقلال، ترك الاستعمار عبر نمط تفكيره وأدبياته ومنظوماته اللوجيستية بصماته ليس فقط على مستعمراته الفرنسية السابقة، بل على فرنسا نفسها. ولعل هذه البصمات، التي يأخذ الباحثون على عاتقهم مسألة تحديدها داخل فرنسا مع الآثار الاستعمارية التي لا تزال موجودة على سبيل المثال في مدينة شيربورغ، التي كانت ذات يوم مدينة إمبراطورية ذات ماض استعماري، جعل منها موقعها الاستراتيجي أحد "مفاتيح المملكة" على مر العصور، فأصبحت بفضل مينائها البحري وامتلاكها ترسانة من القوات البحرية منذ أيام لويس الـ16 ونابليون، نقطة انطلاق نحو المحيط الأطلسي حتى النصف الأول من القرن الـ20. أما في أميركا الشمالية فترك الاستعمار الفرنسي بصمته على أسماء الأماكن وأسماء أعراق مجموعات السكان الأميركيين الأصليين، من دون أن تنسى الدراسات مسألة استراتيجيات وسياسات الاستعمار وتحليل النص الكولونيالي الداعم مثلاً لاستخراج اليورانيوم في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، الذي من دونه لن تكون هناك طاقة نووية ولا كهرباء في المنازل الفرنسية، على حساب السرطان وأمراض الرئة في الغابون والنيجر.

ما بعد الكولونيالية

في هذا الكتاب ثمة أيضاً دراسات تناولت زمن ما بعد الاستعمار أو ما يعرف في العالم الأنكلوسكسوني بدراسات ما بعد الكولونيالية، الذي تظهر فيه فرنسا كبلد هجين متعدد الثقافات، يجد صعوبة في قبول أفول نجم إمبراطوريته الماضية، لا سيما بعد إقرارها عام 2001 قانوناً اعترف أن الاتجار بالبشر والعبودية هي جرائم ضد الإنسانية، مما سمح "ببناء مجتمع سياسي متجدد" متعدد الإثنيات حكت موسيقى الراب قصص مواطنيه الآتين من المستعمرات السابقة. كما درست بعض المقالات المصاعب كالفقر والازدراء العنصري ووحشية ظروف العمل التي يواجهها هؤلاء المستعمرون السابقون في فرنسا.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبلور هذه الدراسات مفهوم الهوية الوطنية، وتتطرق إلى مسألة دمج الإسلام في الجمهورية الفرنسية، كما تتطلع إلى إظهار مرتكزات المنظومة المركزية الفرنسية واستقرائها في نقدها لمصنفات دراسات ما بعد الكولونيالية، التي نظر إليها كخطابات تفكيكية للخطاب الاستعماري ونظرته المتعالية، وذلك في محاولة لتقويض سلطة الفكر الكولونيالي العاجز عن التخلص من فكر الإمبراطوريات وتمثلاتها للأنا والآخر، ولثقافة الاختلاف والغيرية.

يراجع هذا الكتاب إذاً الفعل الاستعماري الفرنسي في أفريقيا وآسيا وأميركا، وما صاحبه من أفكار وانعكاسات على الهوية الفرنسية للشباب المتحدر من حركات الهجرة بدءاً من القرن الـ21 وصولاً إلى القرن الـ15. تقدم لنا نصوصه المتجاورة مقاربات متعددة الأصوات، إن على صعيد المناهج والتفسيرات أو الانتماءات أو الرؤى. يجمعها على حد قول بيار سينغارافيلو موضوع واحد. لعل مضاعفة وجهات نظر كتابه، تمكننا من فهم منطق الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية والمناطق التي خضعت لحكمها منذ منتصف القرن الـ16 حتى القرن الـ20، حتى بلغت مساحتها في ذروة توسعها 13 مليون كم2.

إن كتاب بيار سينغارافيلو وفريق بحثه "التعددي" يذهب بقرائه أبعد من مواجهة الذكريات التعددية والمتنافرة في بعض الأحيان. يفتح كل نص من نصوصه طريقاً أمام القارئ. هو دعوة للسفر عبر الأزمنة والأمكنة. يمكن مقاربته كمدخل نحو تفكير أكثر عمقاً يتناول موضوع الاستعمار الفرنسي، الذي يقدمه لنا "كلحظة في التاريخ الطويل للمجتمعات الأفريقية والعربية والآسيوية وغرب الهند والأوقيانوسية والأوروبية"، مشدداً على ضرورة "إبطال السرد التاريخي السائد الذي يقدم الاستعمار الغربي باعتباره العبور الإلزامي للمجتمعات غير الغربية نحو الحداثة".  

اقرأ المزيد

المزيد من كتب