ملخص
انحصرت أبواب الرزق أمام النشء الأفريقي بعد خمول التنمية فيها في الهجرات إلى المدن للعمل في اقتصاد هامشي أو احترف السرقة طريقاً للعيش أو الالتحاق بالجماعات المتمردة
كتب أحدهم عن لقاء جمعه بجماعات من شباب الجنجويد في سوق القش بأم درمان، فاستأجر سريراً من وكالة ما فيه، ونام إلى جانب شاب منهم. ولما صحا وجد أنه بين آلاف منهم باتوا في السوق نفسه. وكلهم مشغول بالحديث في الصباح إلى قريب أو بلديات سبقه إلى الخرطوم ليعلمهم بوصوله ويؤمن الاتصال به. فسأل الرجل الفتى الجنجويدي عن القوم. فقال إنهم جاؤوا جميعاً من الغرب لأول من أمس من النيجر وتشاد ودارفور مستنفرين من "الدعم السريع"، ولبوا لأنهم رغبوا في نيل مثل ما غنمه زملاء سبقوه إلى الخرطوم من ذهب ومال وعادوا به إلى أهلهم. وقال الشاب إنه قادم من تمبكتو، منارة الثقافة الإسلامية في دولة مالي التاريخية والحالية، وأنه يحب بنت عمه، ولكن يحول المال القليل دون الزواج منها. فرأى في الاستنفار للخرطوم فرصة لتكوين نفسه وتحقيق حلمة في الزواج بمن أحب.
يدور الجدل في دوائر السودانيين حول هوية مثل شاب سوق القش ورفاقه ممن توافدوا من خارج السودان مصطفين مع "الدعم السريع" في معركة الخرطوم. فتجد من صرفهم كمرتزقة أجانب هم كل قوام قوى "الدعم السريع"، بينما يدفع آخرون عنهم هذه الصفة، أو يضعفونها، ويقولون إنهم سودانيون صرف. وهذا باب في التلاحي لن يغنينا عن النظر في مقاصد هذا الشاب ورفقته المستنفرين وسياسات الهجرة الأفريقية من ورائها، لمساسها بالحرب القائمة في الخرطوم. وهي الهجرة التي ارتبطت بحيثيات أوروبية حتى صح عندنا أنها مما تولي وجهها حصرياً شطر أوروبا. فحال تركيز الإعلام على عبور الأفارقة البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا دون فهم أفضل لمن يهاجر من الأفارقة؟ وكيف يهاجرون؟ وإلى أين؟ وعلى رغم أن أعداد المهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا تزايدت بوتائر كبيرة، فإنه لا يزال 80 في المئة منهم من هجرته لا تزال إلى أنحاء في داخل أفريقيا. ونتيجة لتركيزنا على الوجهة الأوروبية للهجرة الأفريقية صارت هجرة الأفريقيين في داخل أفريقيا نفسها موضوعاً متروكاً في مجال البحث. ويرى علماء الهجرة أن سردية الهجرة الأفريقية إلى أوروبا لا تخلو من توهم لا يقوم على دليل. فالأفارقة ليسوا حتى في غلبة المهاجرين إلى أوروبا، فلا يشكلون سوى 13 في المئة من حجم الهجرة الكلي للقارة.
وجاء شاب "سوق القش" إلى الخرطوم من مالي، وهي من دول الساحل الأفريقي الممتد من الأطلسي إلى البحر الأحمر. ومن أخوات مالي في الساحل بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، وأفريقيا الوسطى، وغينيا والأجزاء الشمالية، ومن بلدان على ساحل غينيا للمحيط لأطلسي مثل ساحل العاج، وغانا، وغينيا. ودول الساحل هي التي تعاقد معها الاتحاد الأوروبي فيما عرف بـ"عقد التطويق" (في عام 2015) للجم الهجرة منها، أو عبرها، إلى أوروبا عن الطريق الأوسط للبحر الأبيض المتوسط. ولم يكن الساحل في رادار أوروبا حتى أزعجتها الهجرة والإرهاب، فارتفع عدد المهاجرين الأفارقة إليها من 40 ألفاً في عام 2013 إلى 154 ألفاً في عام 2015 إلى 181 ألفاً في عام 2016. فطلب الاتحاد الأوروبي من هذه الدول وغيرها تمتين حدودها وضبطها، وانتقاء جماعات بذاتها للهجرة إلى أوروبا دون غيرها. وتلتزم أوروبا من جانبها الأخذ بهذه الدول نحو مدارج التنمية كي تتفتح سوق العمل أمام الشباب فيجفف الحافز للهجرة. وخصص الاتحاد الأوروبي صندوقاً بمبلغ قريب من ثلاثة مليارات دولار لهذا الغرض.
وفي رأي علماء الهجرة فإن الاتحاد الأوروبي في سعيه إلى تنمية أفريقيا لحل مشكلته مع المهاجرين إليه منها، كمن يجرم التنقل الأفريقي سعياً إلى الرزق. فجعله، بتصويره كخطر داهم على أوروبا وأفريقيا، وباءً عليهما معاً. فـ "أمنج" الاتحاد الأفريقي الهجرة، أي جعلها شاغلاً أمنياً دون غيرها. فإذا بني دونالد ترمب حائطاً صخرياً لصد الهجرة من طريق المكسيك، في قول أحدهم، فحائط الاتحاد الأوروبي كان من حكومات في القارة تحجر الهجرة نيابة عنه.
وكان لعقد التطويق الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي آثاره الضارة على دول الساحل وغيرها على رغم نجاحه في خفض نسبة الهجرة إلى شواطئ أوروبا بـ80 في المئة في عام 2017. فلا سد باب الهجرة إلى أوروبا كلياً، لكنه زعزع أوضاع الدول التي تعاقد معها. فضغط التطويق على الأفريقيين للهجرة نحو أوروبا لم ينقطع. فمهما بلغت دول أفريقيا من النمو فاقتصادها غير مرشح لاستيعاب أفواج شبابها الذين يطرقون باب العمل. فإغلاق باب الهجرة إلى أوروبا لن يزيد على مجرد كونه تجريد الأفارقة عن متنفس يفرجون به عن ضيق عيشهم. وهو المتنفس الذي أعان أوروبيين في عقود مجاعاتهم حين هاجروا إلى أميركا وأستراليا بين عامي 1850 و1914، بل وهاجر الأوروبيون داخل أوروبا نفسها طلباً للنجاة في الفترة نفسها. فكثيراً ما وجدت التباينات الاقتصادية والديموغرافية الهيكلية بين القارتين فلا منجاة لأوروبا من الهجرة الأفريقية.
وأدت خطة الاتحاد الأوروبي بالتعاقد إلى تطويق الهجرة الأفريقية إلى زعزعة الأوضاع في أفريقيا لا محالة. والارتباك الاقتصادي والسياسي للنيجر من أكثر مظاهر الزعزعة التي نجمت عن هذه الخطة. فالهجرة تاريخياً هي قوام اقتصاد الساحل الأفريقي والنيجر قبل أن تستشعر أوروبا الخطر من هجرة الأفارقة. فالهجرة، في قول أحدهم، ليست مشكلة أفريقيي الساحل الأفريقي. إنها اقتصادهم. فأغاديز في النيجر، وعليها شعب الطوارق، عاصمة قديمة للهجرة للطريق الوسيط من البحر الأبيض. فـ50 في المئة ممن وصلوا إلى إيطاليا في عام 2015 من المهاجرين الأفارقة مروا بأغاديز. فرزق أهلها من خدمة المهاجرين حتى ارتفعت وكالات تلك الخدمة عدداً من 15 في عام 2007 إلى 70 في عام 2013.
فتعاقد التطويق لم يحد كثيراً من باب الهجرة إلى أووربا فحسب، ولكنه دمر أيضاً سبل الهجرة الإقليمية في الساحل الأفريقي بتكليف الدولة الأفريقية المتعاقدة حجز حرية التنقل في المسارات التقليدية للهجرة داخل الساحل نفسه. ولما حطم التعاقد هذه الحيوات التقليدية في المعاش، التي تمثلت في خدمة المهاجرين، لم يخلق بدائل عنها للعيش. ونشأت إثر التطويق صناعتان وخيمتان: "صناعة" تهريب المهاجرين لأوروبا و"صناعة" ابتزازهم بواسطة الموكول إليهم منعهم من الهجرة إليها، ناهيك بسقوط الدولة القائمة بتطويق الهجرة في نظر مواطنيها ولسان حالهم يقول إنها إنما تخدم الاتحاد الأوروبي، لا نحن معشر المواطنين. وقد يكون ما يزلزل بالنيجر على أيامنا هو بعض ما جنته من التعاقد. وتنبأ أحدهم بأن حكومتها، متى التزمت بالتعاقد، ستتحداها شبكات بديلة ومسلحة منتفعة تاريخياً من هذه التجارة بزعامة رجال كبار ذوي نفوذ، وكل بطريقتها.
الساحل الأفريقي حالة انفجار سكاني. فمعدل زيادة السكان فيه تبلغ 3.5 في المئة. ويتضاعف سكانه كل 20 عاماً. ومنتظر أن يبلغ سكان تشاد وبوركينا فاسو ومالي والنيجر بين 170 مليوناً و260 مليوناً في عام 2050. وسيدخل 570 ألف شاب نيجري سوق العمل خلال 20 عاماً من يومنا. وبدأ شباب منطقة الساحل في طلب الوظيفة على طول الساحل وعرضه في سوق شحيحة. وأهم ما في ذلك أن من بين من يطلب الوظيفة اليوم، شباب البادية التي جف فيها النسل والضرع فطلب أطفالها التعليم ليدخلوا سوقاً للعمل تفادوها لعقود مكتفين بما كان عليه آباؤهم في طلب الرزق. وانحصرت أبواب الرزق أمام النشء الأفريقي، بعد خمول التنمية فيها، في الهجرات إلى المدن للعمل في اقتصاد هامشي، أو احترف السرقة، الجنجويدية، طريقاً للعيش، أو الالتحاق بالجماعات الثائرة أو المتمردة التي تدفع لهم أكثر مما يدفع لهم جيش بلدهم.
وشاب سوق قش أم درمان، سليل هذه السياسات الأوروبية الأفريقية حول الهجرة، أو هو ضحيتها. فرأينا أوروبا عقد التطويق مرعوبة من البرابرة عند بواباتها تصرخ "أوقف المركب"، وقد تنازلت عن مثاليتها كسادن للقيم الوضحاء. ورأينا الدولة الأفريقية، من الجانب الآخر، تفرغ نفسها لخدمة غير مواطنيها بالثمن وبغير وازع. وانسدت على مثال فتانا، أبواب الرزق الحلال المطمئنة، ليلبي استنفاراً للحرب في بلد غير بلده. فإما عاد منها وعرس بنت عمه و"فرح البنوت"، كما نقول، وإما مات وترملت. ومن المفارقة أن يكون من استنفره إلى هذه الهجرة الكأداء هو الفريق حمدان دقلو الذي كان طرفاً في عقد التطويق الذي عرف بـ"عملية الخرطوم". تكلفت قوات "دعمه السريع" بمقتضاها تعقب الأفارقة العابرين للسودان إلى أوروبا بالثمن بتكليف من نظام الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير.
وسمِّ هذا الشاب مرتزقاً ما شئت، ولكنه مرتزق ذو قضية. فهو الجاني في معركة الخرطوم بلا جدال. وهو، من الجانب الآخر، ضحية سياسات في الهجرة الأفريقية والحكم، تستصرخنا لوقفة استراتيجية عندها لنثقف هذه الحرب الكأداء.