Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريشيليو... "الكاردينال الجسر" بين الأرض والسماء

رجل إصلاح الملكية الفرنسية المختلف من حوله بين السياسة والقداسة تنبأ له البابا بولس الخامس بأنه سيضحى محتالاً كبيراً فصار أقدر وزير أوروبي خلال ألف عام

صورة ثلاثية للكاردينال ريشيليو تعود للعام 1642 (ناشيونال غاليري في لندن)

حين أعلن اسم الكاتب اللبناني الأصل الفرنسي الجنسية أمين معلوف، أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية (الخالدين)، الأيام القليلة الماضية، تذكر الجميع اسم الرجل الذي وقف بقوة وراء الملك الفرنسي لويس الثالث عشر، وحفزه على إنشائها لتكون محفلاً للحفاظ على اللغة الفرنسية وآدابها وعلومها.

لم يكن هذا الرجل سوى الكاردينال ريشيليو، ذلك الوزير الفرنسي، والأسقف، الذي مثل يوماً ما جسراً واصلاً بين السياسة والدين، أو ربما حسب قول البعض، طريقاً من الأرض إلى السماء.

اعتبر ريشيليو أهم وزير أوروبي ظهر في القارة العجوز طوال ألف سنة، وقد بلغ مكانة لم يبلغها أحد قبله في بلاط الدولة الفرنسية، واستمر حائزاً النفوذ والحضور حتى في لحظات مرضه الأخيرة، حين كان الملك نفسه هو من يشرف على تمريضه.

اعتبر كثير من الفرنسيين والأوروبيين ريشيليو رجلاً شريراً، وأكثر منهم رأوا فيه مثالاً للأمانة والتفاني في خدمة البلاد.

حين اقترب منه الكاهن ليعرفه قبل تسليم روحه، سأله، "هل صفحت عن جميع أعدائك؟".

أجابه بصوت خافت، "لم يكن لي قط أعداء إلا أعداء فرنسا".

ما هي قصة هذا النبيل الذي جمع  بين الدين والدنيا، اللاهوت والسياسة، وكيف استطاع أن يترك كل هذا الإرث الكبير من الجدل حوله حتى بعد قرابة أربعة قرون على رحيله؟

الفتى أرماند يحتال على البابا

في أسرة من أسر النبلاء الفرنسيين ولد الفتى أرماند جان دو بليسيس دي ريشيليو، فوالدته ابنة محام في برلمان باريس، أما أبوه  فهو السنيور دي ريشيليو، المدبر الأكبر لبيت الملك في عهد هنري  الرابع.

على رغم اعتلال صحته في وقت مبكر، إلا أن النبوغ صاحبه منذ البدايات، وكانت وفاة والده في سن مبكر، سبباً في تحوله من عالم السياسة إلى دراسة اللاهوت ليضحى قساً في وقت مبكر.

في الحادية والعشرين من عمره قام الملك هنري الرابع بالتوصية لاختيار أرماند أسقفاً لمدينة "لوسون"، غير أنه كان في واقع الأمر أصغر بعامين من السن القانونية التي يتوجب بلوغها للتكريس الأسقفي.

سارع أرماند الذكي إلى عاصمة الكثلكة ومقر البابا في روما، وهناك ألقى أمام البابا بولس الخامس خطاباً فصيحاً جميلاً باللغة اللاتينية أعجبه كثيراً، وحمله على أن يسلم له شارة الأسقفية.

لاحقاً وبعد أن تحقق له الأمر، اعترف أرماند للبابا بتدليسه وكذبه بشأن عمره الحقيقي، وطلب الصفح والمغفرة، فامتثل البابا في نهاية الأمر بعد أن قال، "إن هذا الفتى سيضحى محتالاً كبيراً يوماً ما".

بدأ الأسقف الصغير العمر حياته بجد واجتهاد بالغين، ولم يتخذ مرتبته الكهنوتية السامية كمنصب شرفي يدعوه للعطالة أو البطالة، بل فرغ لأداء واجباته بمثابرة.

في الوقت ذاته أدرك أرماند أن التملق هو الطريق لبلوغ الغايات السياسية، فلم يترك أي فرصة لتملق كل صاحب نفوذ، ويسخر أي مقتدر سياسي من أجل أن يحقق ما يصبو إليه.

كان على كهنة المقاطعة الساكن فيها "بواتو" أن يختاروا لها مندوباً في ما يسمى "مجلس الطبقات"، ولعلهم ساعتها لم يجدوا من هو أفضل من أرماند.

استطاع التأثير في كل من في المجلس، لا سيما ماريا ميديتشي، والدة الملك لويس الثالث عشر، بوجهه الرزين، وقوامه الفارع الممشوق، وقدرته القانونية على تفهم الموضوعات تفهماً واضحاً وعرضها عرضاً مقنعاً، ولهذا تم اختياره مرشداً روحياً للأميرة الإسبانية "آنا"، التي ستضحى زوجة الملك المستقبلية.

كان من الطبيعي أن يجد أرماند طريقه إلى المراتب العليا في الدولة يوماً بعد يوم، ليصل عام 1622 إلى مرتبة الوزير الأول، أي رئيس وزراء بلاط الملك هنري الثالث عشر الذي اختاره لهذا المنصب وهو في السابعة والثلاثين.

ريشيلو ومواقف متقلبة من الدين

لعل أول علامة استفهام تقابل القارئ هي تلك المتعلقة بالمساحة التي يمكن أن تتقاطع فيها إيمانيات ريشليو، بوصفه أسقفاً، ولاحقاً كاردينالاً، أي أميراً من أمراء الكنيسة على الأرض، وبين عالم السياسة المعروف بمكره ودسائسه.

بدا واضحاً أن ذكاء ريشيلو قد ساعده في بلورة وضع متميز بين المطلق الديني والنسبي السياسي، فمن جهة قبل في غير نقاش عقائد الكنيسة، بل وربما ذهب إلى أبعد من ذلك في ما يخص الطقوس والعبادات، تلك التي كان ينظر إليها من قبل البروتستانت على أنها ضرب من ضروب الخرافات، وقد تعجب كثيرون كيف أن رجلاً يمتلك هذا القدر من الحكمة والحصافة السياسية، أن ينحو مثل هذا النحو.

غير أنه ومن جهة ثانية فقد كان على الدوام رافضاً لما ذهب إليه البعض من مؤيدي سيادة البابا المطلقة، القائلين بأن للبابوات كامل السيادة على الملوك.

بدت مواقف ريشيليو محيرة للكرسي الرسولي في روما، سيما بعد أن حافظ على ما يسمى "الحريات الغالية للكنيسة الفرنسية ضد روما"، بل إنه أخضع الكنيسة للدولة في الأمور الزمنية بالقوة نفسها التي أخضعها بها أي إنجليزي، بل وصل به الأمر حد الإقدام على نفي "الأب كوسان"، الذي تدخل في السياسة بوصفه كاهن الاعتراف الملكي.

كان رأي ريشيلو العجيب، هو أن أي دين من الأديان يجب ألا يختلط بشؤون الدولة.

بلغ ريشيليو من البراغماتية السياسية، أنه أدخل فرنسا في تحالفات مع دول كاثوليكية، وأخرى بروتستانتية، فقد رأى أن مصالح فرنسا العظمى، يجب أن ترتقي فوق أي خلافات عقائدية.

يعن للمرء أن يتساءل، كيف كانت علاقة الكاردينال ريشيليو مع الملك لويس الثالث عشر؟

المؤكد أن الملك، بحسب المؤرخين الفرنسيين، قد وجد في شخص الكاردينال ريشيليو ما افتقده في نفسه، لا سيما صفات الذكاء الموضوعي، ووضوح الهدف والرؤية وصلابة الغايات، عطفاً على مرونة الوسائط.

قبل لويس الثالث عشر إرشادات ريشيليو تجاه ثلاث من القضايا المهمة والمثيرة للغاية في تاريخ فرنسا في ذلك الوقت وهي، إخضاع الهيجونوت وهم الفرنسيون البروتستانت، والنبلاء، وإسبانيا.

كتب ريشيليو في مذكراته ذات مرة، "إن قدرة الملك العظيم على أن يسمح بأن يُخدم (أي يفوض غيره بالسلطات)، ليست أقل من صفات الملك العظيم شأناً".

والشاهد أن النفس البشرية التي لا تقبل غير الأفضل منها، كانت حاضرة وبقوة في عقل وقلب لويس الثالث عشر، الذي لم يكن متفقاً مع ريشيلو في جميع الحالات، بل كان أحياناً يوبخه، بل ويغار منه على الدوام وربما فكر غير مرة في أن يطرده، لكنه دائماً ما تراجع عن هذه الفكرة، فقد كان من الصعب الحصول على رجل مطلق السلطة في فرنسا دينياً ودنيوياً مثل ريشيليو، بل ونفاذ الكلمة في عموم القارة الأوروبية، وفوق كل هذا كان قادراً أن يتحصل له على قدر من الضرائب، يفوق ما كان الملك تقليدياً يحصل عليه من قبل.

عرف الكاردينال مبكراً أن "المال أصل كل الشرور"، كما يقول الإنجيل، غير أنه استطاع ببصيرة نافذة أن يسخر أموال الضرائب لبناء الجيوش والأسطول، فقد اعتبر دوماً أن الحق لا يجد آذاناً صاغية إلا إذا تكلم بالمدفع.

أصلح ريشيلو الموانئ الفرنسية وحصنها، وأنشأ الترسانات ومخازن الذخيرة في الثغور، وبنى خمساً وثمانين سفينة، وأسس مدارس لمرشدي السفن، ودرب أفواج الجنود البحريين، و100 فوج من المشاة، و300 جندي من الخيالة، ورد النظام إلى الجيش.

بفضل هذه القوات البحرية التي بث فيها ريشيليو الحياة من جديد تصدى لفوضى العلاقات الخارجية التي تسببت فيها ماري دي ميدتشي، والدة هنري الثالث، وعاد إلى سياسة هنري الرابع، ووجه  كل قواته لهدف واحد وهو تحرير فرنسا من نطاق القوة الهابسبورغية، أي العائلة الملكية الحاكمة في النمسا وإيطاليا  وإسبانيا.

هل كان ريشيليو رجل الإصلاح في فرنسا بالفعل؟

ريشيليو وإصلاح النظام الفرنسي

يذهب غالبية المؤرخين الفرنسيين إلى القول بأن فترة ما قبل نشوء وارتقاء الكاردينال ريشيليو، كرئيس وزراء للملك لويس الثالث عشر، كانت تعج بالفوضى الداخلية والخارجية، غير أن وجود الرجل – الكاردينال، أحدث نقلة إصلاحية كبرى في كيان الدولة الفرنسية ودولابها الذي كاد أن يهترئ.

لم تكن الدولة من قبل ريشيليو إلا أمة إقطاعية إلى حد كبير، وفي حضور نبلاء أقوياء، ومجموعة متنوعة من القوانين في مختلف المناطق.

كانت هناك مؤامرات قائمة وقادمة ضد الملك من جيوش النبلاء الخاصة، الذين بلغ بهم الأمر حد التحالف مع قوى أجنبية.

أفسح حضور ريشيليو الطريق لدولة فرنسية مركزية، لم يخضع فيها النبلاء فحسب لسلطة الدولة، بل وضع المؤسسة الدينية الرومانية الكاثوليكية على أهميتها، ضمن صالح ومصالح الأمة الفرنسية.

بدت سياسة ريشيليو الخارجية على درجة فائقة من الأهمية، فقد ساعدت في كبح نفوذ آل هابسبورغ في عموم أوروبا، وبحلول 1648، أي موعد توقيع أهم معاهدة في تاريخ أوروبا، اتفاقية  ويستفاليا، وجدت فرنسا ذاتها في وضع أفضل بكثير من أي قوة أخرى، لا سيما مع دخول الإمبراطورية الرومانية المقدسة فترة من التراجع.

والشاهد أن ما فعله ريشيليو، لم يقدر له أن يجني ثماره في حياته، ولم تتبد ملامحه في زمن لويس الثالث عشر، إنما أينعت ثماره في أوان "الملك الشمس" أو "لويس الرابع عشر"، الذي مضى على نهج ريشيليو على رغم غيابه عن الحياة، إذ استمر في إنشاء نظام ملكي مطلق، إضافة إلى قيامه بسن سياسات قمع الطبقة الأرستقراطية التي قويت شوكتها، كما دمر بقية خلايا البروتستانت الفرنسيين، أو الهيجونوت.

استثمر لويس الرابع عشر، الذي ارتقى لاحقاً إلى مصاف القديسين في الدولة الفرنسية، والكنيسة الرومانية، نجاح بلاده خلال حرب الثلاثين عاماً لتأسيس هيمنة فرنسية في أوروبا بأجمعها.

مهدت أفكار ريشيليو وسياساته الطريق لأن يصبح لويس الرابع عشر أقوى ملوك فرنسا، بل وربما واحداً من أقوى ملوك أوروبا في ذلك الوقت، إن لم يكن الأقوى بامتياز خلال أواخر القرن السابع عشر دفعة واحدة.

ريشيليو المختلف عليه تاريخيا

هل كان ريشيليو ديكتاتوراً مستبداً، لا سيما أن جذوره الدوغمائية، ربما دفعته رغماً عنه لأن يكون رجل "الذهنية الواحدة"، وقد عاصر في زمنه "محاكم التفتيش"، إذ التبس السياسي بالديني دفعة واحدة؟

الشاهد أن الجواب على علامة الاستفهام المتقدة، حيرت المؤرخين الفرنسيين بخاصة والأوروبيين عامة، وأثارت جدلاً كبيراً بينهم، فذهب قسم منهم إلى اعتباره رجلاً وطنياً بامتياز، ومؤيداً بالمطلق للنظام الملكي، فيما نظر إليه فريق آخر على أنه رجل سلطة متعطش للدماء.

والثابت من الحقائق التاريخية التي لازمت هذا الرجل الكاردينال، أنه مارس أشكالاً متنوعة من الاستبداد السياسي، الذي لازمه استخدام كبير للقوة في كثير من الأحايين.

قام ريشيليو بمراقبة الصحافة، وإنشاء شبكة كبيرة من الجواسيس الداخليين، كما منع مناقشة الأمور السياسية في المجالس العامة، أو ما عرف وقتها بـ"برلمان باريس"، وكل من تجرأ عليه أو تآمر على الدولة في عهده، تعرض للمحاكمة ومن ثم الإعدام.

في شهادته عن زمن ريشيليو وحقبته السياسية، يكتب المؤرخ الفيلسوف الكندي "جون رالستون" يقول، "إن ريشيليو وعن حق هو أب الدولة القومية الفرنسية الحديثة، وواضع لبنات سلطتها المركزية، عطفاً على تأسيسه لأول جهاز خدمة سرية في البلاط الملكي، وبهذا يكون سابقاً لنابليون بونابرت في هذا الإطار".

وفي كل الأحوال، فإنه على رغم الإصلاحات كافة التي قام بها ريشيليو، وقدرته الفائقة في الحفاظ على عرش البلاد من الأخطار، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن الشعب الفرنسي، أو تجنباً للتعميم الخاطئ معظمه، قد كره ريشيليو لكثرة الضرائب التي فرضها عليهم، وعدم الالتفات إلى مصالح الشعب بقدر اهتمامه بأحوال البلاط الملكي، ما جعل الشعب يشعر بضائقة اقتصادية بدأت تختمر لتنفجر لاحقاً في شكل الثورة الفرنسية.

لم تكن سنوات ريشيليو في القصر سخاء رخاء مرة واحدة، بل  تعرض خلالها لكثير من المؤامرات التي كادت أن تقوده إلى  التهلكة، فقد دبرت الملكة الأم دي ميدتشي، والملكة الزوجة آن، مؤامرة للتخلص منه، غير أن الأخيرة خوفاً من بطشه بها، أخبرته بخيوطها، ما أفاده في القضاء على المؤامرة في مهدها واعتقال القائمين عليها وإعدام بعضهم، ولعل المثير في المشهد أنه أقنع زوجة الملك لويس الثالث عشر بأنه كان على علم بأبعاد المؤامرة، وهو أمر غير صحيح، فقط لم يكن في حاجة لأن تحمله  الملكة معروفاً أو صنيعاً طيباً يمكنه أن يحجم قراراته الفوقية عند لحظة بعينها.

وعلى رغم اعتباره الكاردينال الداهية في تاريخ فرنسا، إلا أن ذلك لم يختصم من كونه أكفاً رجل دولة في عصره.

هل آمن ريشيليو بنفسه أكثر من إيمانه بالملك؟

المؤكد أن ريشيليو، بحسب رؤى مفكرين فرنسيين، أرسى أشنع وأخطر طغيان استرق دولة ربما في التاريخ كله، وهو أمر بالفعل نادر الحدوث، فقد بلغ من اعتداده بنفسه أن الملكة "آن" زوجة لويس الثالث عشر، دخلت عليه ذات مرة في زيارة مفاجئة، وساعتها كان من الواجب حسب البروتوكول أن يقف احتراماً لها، لكن ريشيليو ظل جالساً في محله.

يقول الرواة، إن ريشيليو كان شديد الإيمان بفكرة القبضة الحديدية التي يتوجب أن تحكم الدولة من خلالها، ومن هنا فقد بدت منطلقاته بعيدة كل البعد من معاملة الناس باللين والرحمة، وهو في سبيل المصلحة العليا للدولة من الممكن أن يفعل أي شيء، ويتخذ أي وسيلة إن كانت تحقق هذه المصلحة.

على أن شخصاً بعينه، أديباً من كبار أدباء فرنسا، ربما كان السبب المباشر في رسم صورة للكاردينال في نفوس الفرنسيين والأوروبيين أول الأمر، وفي صفحات التاريخ العالمي ثانية... من هو وما قصته؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ألكسندر دوما وقصة الفرسان الثلاثة

أحد أسماء الأدب الفرنسي التي خلدها التاريخ، هو اسم الكاتب الروائي الفرنسي الشهير ألكسندر دوما، (1802-1870)، الذي يعد أحد أكثر المؤلفين الفرنسيين شهرة على الإطلاق.

تعد روايته "الفرسان الثلاثة"، درة التاج في أدبه الفخيم الرحب، وفيها صور مآلات فرنسا في زمن لويس الثالث عشر، كما بسط مساحة واسعة للكاردينال ريشيليو، اعتبره فيها "حاكماً حقيقياً فعلياً لا يرحم أحداً داخل فرنسا بنوع خاص".

هل يعني ذلك أن ألكسندر دوما هو السبب وراء رسم صورة "ريشيليو الشرير في عيون القدامى والمحدثين معاً عبر التاريخ"؟

مؤكد أن ما سطره ألكسندر دوما، بشكل عام، قد رسخ في أذهان الفرنسيين عامة تلك الصورة، وإن ينسى المرء فإنه لا ينسى ما قاله الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك"، في ذكرى مرور 200 عام على مولد دوما، " نحن معك يا ألكسندر... نمتطي صهوات خيولنا، نزور كل ساحات فرنسا ونحن نحلم ثم نحلم".

استطاع دوما أن يرسم صورة مثيرة وربما خطيرة لريشيليو، من خلال المواجهات التي دارت بين فرسان النبيل الفرنسي "دي تريفيل" الثلاثة "آتوس، وبرتوس، وآراميس" الذين سينضم لهم لاحقاً الفتي الجاكسوني، دارتنيان.

رسم دوما صورة للخير الذي يفعله الفرسان الثلاثة الذين يؤمنون بأن: "الكل للواحد والواحد للكل"، في مواجهة رجالات الكاردينال ريشيليو، الذين اعتبرهم رموزاً للشر، وغالباً ما كانت الاشتباكات والمبارزات التي تدور في شوارع باريس بين الجانبين تنتهي لصالح الفرسان الثلاثة بالضد من ريشيليو وجماعته.

في "الفرسان الثلاثة"، يكشف دوما ما كان من شأن ملكة فرنسا "آن" في علاقتها الغرامية بالإنجليزي دوق بكنغهام، وكيف أن ريشيليو كان يريد فضحها لحقده عليها لرفضها تحرشاته الجنسية، وكذلك للبدء بحرب بين فرنسا وإنجلترا، ويقاتل دارتنيان ورفاقه رجال ريشيليو في فرنسا وإنجلترا، ويواجهون جاسوسة حسناء بالغة الخطورة، كانت تعمل لصالح ريشيليو.

الرأس المتدحرجة والنهايات المؤلمة

بعد مرض طويل الأمد (الدرن)، توفي ريشيليو في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1642، عن عمر 57 سنة، وقد بلغ من اهتمام لويس الثالث عشر به أنه باشر تمريضه بنفسه.

كان خبر وفاة الكاردينال ريشيليو فاعلاً ومؤثراً في عموم أوروبا، ما حدا بالبابا الروماني للقول، "إن هذا الرجل سيكون عنده كثير من التبريرات التي يجب أن يسعى لإقناع ربه بها عند السؤال"، في إشارة لا تغفلها العين للأخطاء التي ارتكبها الأسقف رجل القداسة، في وسط عالم السياسة المليء بالدسائس والمؤامرات.

تم تحنيط جثة الكاردينال بوقار شديد كما يتوجب مع رجل دولة ودين في الوقت ذاته، ودفن في كنيسة جامعة السوربون كما تقتضي اللوائح الخاصة برجال الكهنوت في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

لاقى خبر موت ريشيليو ابتهاجاً غامراً لدى الشارع الفرنسي، وخرج كثيرون للاحتفال بتلك اللحظات، غير أن موعداً حزيناً كان ينتظر الكاردينال بعد 150 عاماً من وفاته.

عند قيام الثورة الفرنسية وفي صباح الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1793، اقتحم المتظاهرون كنيسة السوربون وخربوا كل ما كان يمت بصلة للنظام الملكي.

في هذه الأوقات وضعوا أيديهم على قبر ريشيليو، وأخرجوا جثته المحنطة، وقاموا بقطع رأسه، وتقاذفوه بينهم كالكرة، بينما لجأ البعض الآخر لإلقاء ما تبقى من الجثة في نهر السين.

على مدى عقود تنقل الرأس بين أيدي عديد من الأشخاص،  وعرض على عدد من أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية، بل وقدم لأحد الرسامين، الذي اهتم برسم لوحة تقريبية لوجه ريشيليو انطلاقا منها.

غير أنه عقب تدخل نابليون الثالث عام 1866، عاد رأس الكاردينال إلى مقره القديم في جنازة رسمية، وإن استخرج لاحقاً خلال عمليات ترميم جرت في هذه الكنيسة في أواخر القرن التاسع عشر، لتلتقط له بعض الصور قبل أن يعاد من جديد إلى مكانه.

ويبقى التساؤل، هل هو حكم القدر أن يظل ما تبقى من ريشيليو حائراً حتى بعد موته؟

المزيد من تقارير