Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية الملكة الفرنسية في 21 لوحة كأنها مشاهد سينمائية

نصف مليون دولار لنحو 300 متر مربع روى فيها روبنز سيرة ماريا

مشهد تتويج ماريا بريشة روبنز (غيتي)

في مثل هذه الأيام تماماً قبل 400 سنة أي في ربيع العام 1621، تلقى الرسام بيتر بول روبنز عرضاً كان من الصعب عليه رفضه، خصوصاً أنه كان يتألف من مشروعين لا شك أن ثانيهما كان أكثر إغراء له من أولهما بكثير، ما كان من شأنه أن يرغمه على قبول الأول طمعاً في أن يكون الثاني من نصيبه. المشروع الأول يقضي برسمه 21 لوحة ضخمة تصور مراحل متتالية من حياة الملكة الفرنسية ماري دي مديتشي، زوجة ثم أرملة هنري الرابع وأم لويس الـ13 التي أضحت وصية على عرشه قبل أن يشب عن الطوق فيتخذها عدوة معلنة له، أما المشروع الثاني الذي كان يجب أن يلي الأول فيقضي برسم مجموعة أخرى من لوحات تتابع حياة الملك هنري الرابع نفسه.

خديعة!

وفي نهاية الأمر، لم يحقق روبنز (1577 – 1640) سوى المشروع الأول وبعض اللوحات القليلة للثاني، ما جعله حزيناً طوال سنوات أخرى من حياته، معتبراً أن القصر الملكي الفرنسي قد خدعه، مع أن الحقيقة التاريخية تقول لنا إن الكاردينال ريشيليو مستشار لويس الـ13 هو الذي أوقف المشروع الثاني لأسباب تتعلق بتبدل الأوضاع السياسية، لكننا نحن لن نتوقف هنا طويلاً عند هذه الحكاية التاريخية، بالنظر إلى أن ما يهمنا هنا هو اللوحات التي تألف منها المشروع الأول، الذي سيعرف بـ"حلقات حياة ماريا دي مديتشي". إذ حتى وإن كان روبنز قد حقق هذا المشروع على مضض، فإن النتيجة التي يمكن اليوم مشاهدتها في قاعة خاصة في متحف "اللوفر" تبدو مدهشة في جميع المقاييس، بل تبدو مؤيدة لرأي كثر من المؤرخين والنقاد ممن يرون في هذه اللوحات واحدة من "أعظم المجموعات الفنية وأضخمها في تاريخ البشرية". ولا تصعب موافقتهم على هذا الحكم. فالواقع أن المُشاهد يجد نفسه هنا أمام سلسلة مدهشة من لوحات أنجزها الفنان خلال الوقت المتفق عليه وهو عامان فقط، تتراوح مساحة كل واحدة منها بين 12 متراً مربعاً ونحو 24 متراً، ما يجعل المجموع يصل إلى 292 متراً مربعاً للمجموعة كلها، ويجعلنا أمام أضخم لوحة في التاريخ خصصت لشخص واحد. وكما قلنا أعلاه، لم يكن هذا الأمر ليثير اهتمام روبنز لولا أنه كان يطمع في إنجاز مشروع "هنري الرابع" الذي لن ينفذه أبداً.

نصف مليون دولار!

ومع ذلك، لا شك أن النتيجة كانت مُرضية بالنسبة إليه من الناحية المادية قبل أي شيء آخر، إذ تقول المعلومات التاريخية إنه نال في النهاية 24 ألف غيلدر مقابل العمل ككل، ما يساوي بسعر الدولار لأيامنا هذه نحو نصف مليون دولار، وهو رقم نعرف أن أي فنان أوروبي لم ينله في حياته مقابل عمل فني! ولكن الأهم من هذا هو النجاحات الفنية التي حققها روبنز من خلال هذا العمل. وتنطلق أساساً من تمكنه من أن يجعل للملكة التي تفتقر أصلاً إلى أية آية من آيات الجمال أو الأنوثة، ملامح أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مقبولة، وذلك من خلال إغراق اللوحات بأبعاد رمزية وأسطورية ومناظر طبيعية خلابة ومشاهد احتفالية صاخبة، بحيث تضيع الملامح الحقيقية لماريا دي مديتشي وسط كل ذلك، في وقت تكاد كل لوحة تتحول فيه إلى نوع من كناية أو تورية تحكي حكاية خاصة في حد ذاتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل اللافت في الأمر، هو أن الفنان قد افتتح السلسلة التي كان من المفترض أن تكون مخصصة لقاعة ضخمة في قصر اللوكسمبورغ (الذي هو اليوم مقر مجلس الشيوخ الفرنسي)، المبني حديثاً آنذاك، بثلاث لوحات تحمل من العناوين ما يشرح موضوعاتها، "مصائر ماريا دي مديتشي" و"مولد الأميرة" و"تربية الأميرة"، قبل أن يصل إلى لوحة يمكن اعتبارها محورية وتفتتح مرحلة تالية هي المهمة من سيرة ماريا، لوحة تحمل عنوان "تقديم صورة الأميرة إلى هنري الرابع".

تجميل صورة ملكة

وفي هذه اللوحة، يعرض الرسام من خلال شخصيات رمزية صورة كان هو قد رسمها للأميرة في بعثة أرسل بها لذلك الغرض، على الملك هنري الرابع لكي يتم القبول بها كعروس له. ويقبل الملك طبعاً لتلي تلك اللوحة مجموعة تصور العرس الذي تم الاحتفال به بشكل حل فيه دوق توسكانيا الأكبر محل الملك، ما يعني أن هذا الأخير لم ير عروسه حتى كان لقاؤه الأول بها في ليون بعد أن وصلت إلى فرنسا بحراً ونزلت في مرسيليا، حيث أقيم احتفال استقبالي فخم لها قبل أن تنتقل إلى ليون حيث كانت المرة الأولى التي تلتقي بها الملك. وكان ذلك في العام 1600، لتبدأ حياتهما الزوجية التي لن تدوم على أية حال سوى عشر سنوات، إذ سيتم اغتيال هنري الرابع عام 1610 ليعلن ابنه الأكبر ملكاً وهو في الثامنة من عمره على أن تكون ماريا وصية على العرش حتى يبلغ الـ13. ومن هنا تبدأ مجموعة جديدة من الرسوم تصور المرحلة التي تسلمت فيها ماريا سلطاتها، وتشمل لوحة رائعة تصور تتويجها وأخرى تصور "مآثرها" السياسية والصراعات التي شهدتها تلك الحقبة من التاريخ الأوروبي. غير أن ذلك لم يستمر طويلاً، إذ في العام 1606 بلغ لويس الـ13 السن القانونية التي تخوله الصعود على العرش عملياً. فكان أول إجراء يتخذه خلع أمه بقوة عن الوصاية ووضعها في الإقامة الجبرية في بلوا.

وجهة نظر الملكة

ولا شك أن اللوحات التي تمثل هذه الأحداث الأخيرة التي كانت صعبة على ماريا، إنما حُققت انطلاقاً من نظرة ماريا نفسها إلى تلك الأحداث. ومهما يكن فإن نظرتها لم تكن استفزازية خصوصاً أن نوعاً من سلام، وإن متوتر، سرعان ما حل بعد أربع سنوات من نفيها، بينها والملك الذي سمح لها بالعودة إلى العاصمة لتعيش في قصر لوكسمبورغ الملكي، الذي راحت هي تهتم شخصياً بإنجازه وتزيينه جاعلة فيه تلك القاعتين الكبيرتين، اللتين كان من الواضح أنها ستكرسهما لمشروعيها الفنيين اللذين داعبا مخيلتها، وسينجز روبنز كما نعرف الآن أولهما ويمنع من تحقيق الثاني. ومع ذلك سيتوقف روبنز عند هذه المرحلة من حكاية الملكة، ولكن ليضيف ثلاثة بورتريهات لها ولعائلتها تعلق الآن، ولكن خارج إطار السلسلة. علماً أن افتتاح السلسلة الأساسية واختتامها يمكن أن يعتبرا خارج السلسلة أيضاً، وهما الأولى "مصائر ماريا دي مديتشي" التي سبق أن ذكرناها، والثانية "انتصار الحقيقة" التي تحمل عادة الرقم 21 كخاتمة للسلسلة، وتصور بكل بساطة لقاء الصلح بين ماريا وابنها وقد أضحى ملكاً، ولا بد أن نشير هنا إلى أن هاتين اللوحتين تنحيان باتجاه التعبير من خلال عناصر إغريقية، فيما ينطبع باقي اللوحات بطابع من "الروكوكو" الفرنسي، لن يفوت رسامين فرنسيين تاليين مثل فرانسوا بوشيه وأنطوان واتو أن يحاكوه، خطوة بخطوة أحياناً في لوحات أو مجموعات لهم.

مجد إضافي

مهما يكن، تبقى مجموعة روبنز هذه فريدة من نوعها في تاريخ الفن بعدما كانت قد أضافت إلى مكانته وشهرته أضعافاً مضاعفة، ستنسيه إلى حد ما خيبة أمله، إذ ستؤكد مكانته، لا سيما من خلال إضفائه على صاحبة المشروع مكانة وأبهة نادرتين في تاريخ أية ملكة فرنسية من قبل ماريا أو من بعدها. غير أن روبنز في الفترة التي أنجز فيها المشروع لم يكن في حاجة حقيقية إلى تلك الإضافة المضاعفة لمكانته. فهو كان ومنذ زمن طويل، يُعد من كبار الرسامين الأوروبيين ويقترب من الـ50 من عمره. فهو المولود عام 1577 في كولونيا الألمانية ابناً لوالدين أتياها من آنفر في البلاد الواطئة (القسم الذي يعرف اليوم ببلجيكا)، كانت قد مضت عليه سنوات طويلة وهو يتجول في أوروبا، ويرسم مبتكراً موضوعات مدهشة بألوان رائعة وخطوط بديعة وشخصيات يستقي بعضها من حياة عاطفية انقسمت بين حبيبتين امرأتين، غالباً ما رسمهما كما رسم نفسه وأطفاله والحياة اليومية وأساطير القدماء، ناهيك عن غوصه في الألعاب السياسية والدبلوماسية حتى كانت سنوات هدوئه وراحته الأخيرة التي ستنتهي برحيله عام 1640 متوجاً كواحد من أكبر الرسامين في تاريخ الفن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة