Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

راقصة الأزمنة الآلية بينا بوش كما جسدها فيلم فيم فندرز

هل خدمت تقنية الأبعاد الثلاثة فناً شديد الحداثة وفيلماً أراد استعادة عاطفية "بينا"؟

بينا بوش في الفيلم (موقع الفيلم)

ملخص

هل خدمت تقنية الأبعاد الثلاثة فناً شديد الحداثة وفيلماً أراد استعادة عاطفية "بينا"؟

في عام 2011 وجد المخرج الألماني فيم فندرز أخيراً نفسه مذعناً للقدر ومضطراً إلى التخلي عن تردده، فانصرف حزيناً وبكل نشاط ومحبة إلى إنجاز الفيلم المنتظر عن سيدة الرقص الحديث في أوروبا نهايات القرن الـ20 بينا بوش، مستخدماً فيه تقنية الأبعاد الثلاثة التي جعلت نقاداً كثراً ينتقدونه، معتبرين تلك التقنية غير ذات معنى في فيلم هو أصلاً عن الجسد الذي تنحته الراقصات نحتاً لا يعود معه في حاجة إلى "تجسيد" تقني كما أكدوا، لكنهم في النهاية سكتوا عن هذا الأمر أمام قوة الفيلم وقدرته التعبيرية. ولقد حقق فندرز الفيلم بعد أن كان متردداً لفترة من الزمن، بل رفض فكرة استئناف العمل في هذا الفيلم، ولكن لماذا كان التردد؟ ولماذا الحزن؟ فسؤالان لم يكن لهما إلا جواب واحد، وهو أن بينا نفسها كانت رحلت عن عالمنا بعد أسابيع من بدء العمل على الفيلم الذي كان عليها أن تشرف على إخراجه بنفسها عن حياتها ومسيرتها الفنية بأسلوب يعتمد نوعاً من سيرة ذاتية على أساس أن يقوم فندرز بالجانب التقني، وهو على أية حال صاحب الفكرة الأساسية في المشروع، وكان هو الذي أقنع الراقصة الكبيرة ليس فقط بمشروع الفيلم الذي كانت ترددت طويلاً هي الأخرى قبل الخوض فيه، بل كذلك بأن يحمل كل لمسات ممكنة منها وصولاً إلى أن تقوم هي بروايته واختيار زوايا التصوير والتعليق على الأرشيف الكبير الذي بدأ جمعه وبات يشكل أساس الفيلم العتيد. حينها انتهى الأمر بموافقة بينا على خوض تلك المغامرة الفنية التي كان فندرز يراها كبيرة، وعقدت اجتماعات عمل مثمرة وطويلة بين الفنانين. ولكن ما إن انطلق العمل وبدأ تصوير جلسات مع بينا حتى رحلت عن عالمنا، فقرر فندرز أن ليس في إمكانه متابعة العمل على رغم غنى المواد المصورة التي تتوافر له.

حين يخضع الفنان للضغوط

ولكن الضغوط راحت تنهمر على صاحب "عاصفة على برلين" و"أليس في المدينة" وغيرهما من روائع سينما الموجة السينمائية الألمانية الجديدة، بينما كان هو يقول إنه ما من أحد يمكنه الآن أن يكمل الفيلم كما تصورته الراحلة. غير أن عناده لم يطل لحسن الحظ وقرر أخيراً ليس فقط أن يخضع للضغوط، بل أن يجعل من الفيلم تكريماً كبيراً لفنانة كبيرة بصرف النظر عن الفكرة الأولى التي باتت تبدو مستحيلة التحقق الآن. وهكذا ولد الفيلم الجديد مختلفاً عن تصوره الأول، ولم يعد فيم فندرز يرى نفسه مجرد "مستشار تقني" للفيلم كما كان يقول لشريكته الراحلة. بل بات الفيلم فيلمه حتى وإن كان استخدم المواد نفسها التي كانت جمعت من مدن في العالم عديدة كانت بينا مرت بها وقدمت فيها عروضها التي بوأتها مكانتها العالمية في فن يعتبر عادة من أصعب الفنون، ولكن من أقدرها على جعل ما يصور منه تحفاً فنية في حد ذاتها. وتلك "التحف" هي التي ركز عليها فندرز جهوده، لكنه عرف كذلك كيف يستخدم الحوارات المصورة التي جمعته خلال الإعداد للعمل مع شريكته الراحلة. وهو إذ أضاف مشاهد العروض ومنها ما صور بتقنيات هواة، مما أضفى على العمل في النهاية سحر توثيق لم يكن متوقعاً، كانت النتيجة فيلماً حيوياً صفق له متفرجو دورة عام 2011 من مهرجان برلين، إذ كان عرضه الأول، تصفيقاً حاداً عجزت الجائزة التي منحها المحكمون للفيلم في ختام تلك الدورة المهرجانية عن إيفائه حقه.

شهادات عاطفية

غير أن اللافت حقاً في الفيلم كله هو تلك المشاهد التي لم تكن في الحسبان التي اشتغل فندرز عليها استلهاماً من رحيل بينا، وبالتعاون مع عدد من كبار الراقصات والراقصين الذين عملوا معها في عدد كبير من عروضها في مدن أوروبية وغير أوروبية متعددة، إذ طلب أن يستعيد كل منهم، وغالباً بمفرده، واحدة من الرقصات الشهيرة التي أداها بكوريغرافيا بينا بوش. ثم راح يصور تلك الرقصات كلاً منها على حدة في أماكن خارجية وتوحي بفنية المكان نفسه، حيناً في برلين وحيناً في لندن أو باريس أو نيويورك. لقد قدمت تلك الرقصات في الفيلم لتكون عموده الفقري في نهاية الأمر إنما مصحوبة بنوع من التحية التي كان كل راقص يعبر عنها بتصويره علاقته بمعلمته الكبيرة التي قال معظم الراقصين إنها بدلت حياتهم بفنها. والحقيقة أن تلك المشاهد كانت لحظات مؤثرة حقيقية اشتغل عليها فندرز بأكثر مما فعل بالنسبة إلى أي قسم آخر من أقسام الفيلم. وليقول لاحقاً إنه إنما يعتبر تلك المشاهد مساهمته الأساسية الحقيقية في فيلم يدين كله ومن أوله إلى آخره لتلك الفنانة. "هنا، في هذه اللقطات، قال فندرز: حاولت أن أرد الدين الذي لبينا على راقصيها من خلال تفاعلهم مع فنها كجزء من ذكريات تجمعها بهم، ولكن كذلك من خلال ما تركته لديهم من انطباعات صادقة عبروا عنها، ولكني في الوقت نفسه حاولت أن أرد لهذه الفنانة دوراً كبيراً لعبته في حياتي مستغلاً هنا فرصة أنها لو كانت حية، لما كانت سمحت بأن تضم مشاهد تكريمية من ذلك النوع العاطفي توجد في فيلم من إخراجها!".

ضد العاطفة ولكن

ولعله كان يثني بهذا القول على ما قد يبدو أن كثيراً من مشاهد الرقص المستخدمة في الفيلم إنما تعكس أسلوب بوش الذي كانت هي تعتمده في نوع من التعبير عن برودة عصرنا وخلوه من العواطف في نوع من الإدانة له. وهو نوع التعبير الذي كثيراً ما أخذ عليها من نقاد تساءلوا في زمنها عن ذلك الجبروت الميكانيكي الذي يهيمن على فن الرقص لديها بعيداً من الرومانطيقية والشاعرية اللتين كثيراً ما ميزتا فن الرقص قبلها. ومن البديهي القول إن ما شاء فندرز أن يضيفه هنا إنما هو التأكيد بالصورة والانفعالات التي اكتشف وجودها لدى كبار راقصيها، على أن العاطفة كانت موجودة ليس بالضرورة في سياق الرقصات التي كانت بينا تبتكرها وإنما في ما تتركه من أثر ليس لدى الجمهور وحده، بل لدى الراقصين أيضاً. ما يعني أن ما غاص فيه فندرز هنا إنما هو البعد الجدلي - الاجتماعي غير راغب في فرضه على معلمة الرقص الكبيرة من خارج السياق المباشر لما تقوله عروضها، وإنما من خلال ما يعتمل في ثنايا تلك العروض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رومانطيقية غير متوقعة

مهما يكن، كل هذا بدا في الفيلم مؤثراً ومتخماً برومانطيقية غير متوقعة. ولم يفت فندرز أن يولفه في القطع النهائي للفيلم، كما قدم لاحقاً للجمهور، بالتقاطع مع لقطات قديمة وأكثر جدة لبينا تظهرها وكأنها تستمع إلى ما يقال عنها. مما أضفى على الفيلم، إلى وثائقيته الحقيقية، نوعاً من تفسير وإضافات خلاقة اعتبرها كثر من النقاد واحدة من التكريمات الكبرى التي تمكن فنان من التعبير عنها في ما يتعلق بزميل له. كما اعتبر الفيلم الذي حمل عنواناً في منتهى البساطة والدلالة، هو "بينا" ليس فقط انطلاقاً من الاسم العلم لبينا بوش نفسها، بل انطلاقاً من ذلك الاسم الذي، ودائماً بناء على طلبها بل حتى على إلحاحها، كان الجميع صغاراً وكباراً مبتدئين أو مخضرمين ينادونها به. أما فندرز فسيقول دائماً إنه ما استمتع في حياته وهو يشتغل على فيلم له قدر استمتاعه بالاشتغال على هذا الفيلم. وما انهمرت دموعه وهو يشاهد النسخة المكتملة الأولى من هذا الفيلم بقدر ما انهمرت وهو يشاهد "بينا". وتساءل عما إذا كان يمكنه في المستقبل أن يعيد الكرة في أفلام سيرة من هذا النوع بعدما حقق مع فارق يزيد على ربع قرن، فيلماً سابقاً في هذا المجال عن نيكولاس راي، مخرج "جوني غيتار" الأميركي الكبير، "وانتهى بنا الأمر إلى أن نصبح من أعز الأصدقاء ولو للفترة القصيرة التي انقضت بين إنجاز الفيلم ورحيله". ثم حقق أخيراً "بينا" التي "انتهى بها الأمر أن تصبح ملهمتي" وحتى بعد رحيلها كما ختم قائلاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة