Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نبوءة علمية معلنة ترفض أحدث تجربة نووية عن المادة المضادة

الجاذبية السلبية رسمها علماء باريس ولندن وربما تسير أوروبا إلى الوقوع في فخها

أنبوب السقوط الحر للذرات الهيدروجين تعلوه مصيدة الليزر في وحدة آلفا- جي (مركز سيرن الأوروبي للفيزياء النووية)

ملخص

التجربة الأحدث لمركز سيرن الأوروبي أثبتت خضوع المادة المضادة لقوانين الجاذبية فسقطت باتجاهها كأنها مادة عادية، ولكن ثمة تحد معروف بإجراء تلك التجربة مع "تجاور" المادة والمادة المضادة أثناء سقوطهما معاً باتجاه الأرض، مع رهان على تفرد المادة المضادة بجاذبية سلبية.

"إنها التجربة التي انتظرها علماء الفيزياء والذرة سنوات طويلة وقد تحققت أخيراً، وحسمت جدالاً علمياً مديداً عن المادة المضادة Anti-Matter وتأثيرها بالجاذبية، بمعنى أنها تخضع لها كأنها مادة تقليدية". ليست الكلمات السابقة اقتباس مباشر عن أي مصدر إعلامي، لكنها تلخص بالإجمال معظم ما ظهر في وسائط الإعلام العلمي عن التجربة التي أنجزتها وحدة "آلفا- جي" Alpha- g ، اختصاراً لعبارة Antihydrogen Laser Physics Apparatus- g، تحت إشراف "المنظمة الأوروبي للبحوث النووية" Centre European pour la Recherche Nucleaire، اختصاراً "سيرن" CERN. ونشرت مجلة "نايتشر" نتائج التجربة في الـ27 من سبتمبر (أيلول) 2023. [انظر في موقع "اندبندنت عربية" مقالة عنها عنوانها "فك شيفرة أحد أكبر ألغاز الفيزياء في العالم"].

لكن، هناك ظلال أخرى ونقاشات ملتهبة مناقضة.

وفي منحى مغاير، أعادت التجربة نفسها للضوء آراء علمية مناقضة لما توصلت إليه، برزت منذ عام 2012. وبرسم هواة الخيال العلمي وتوقعاته و"تنبؤاته"، إذ بدت تجربة "آلفا- جي" كأنها تسير حرفياً على طريق تحقيق نبوءة شائعة مناقضة لها. وربما يدهش أولئك الهواة إذا عرفوا أن القسم العلمي في صحيفة "ليبراسيون" توقع منذ عام 2019، أن تنجح تجربة "آلفا- جي" في إثبات خضوع كتلة المادة المضادة لقوانين الجاذبية كالمادة العادية، ثم يحصل احتجاج علمي عليها، مما يؤدي إلى إعادتها مع إضافات معينة، فيثبت نقيض ما برهنته التجربة الأولى، ويتبين أن الكتلة المضادة تمتلك جاذبية سلبية Anti Gravity أو جاذبية سلبية Negative Gravity!

مادة مضادة وجاذبية مضادة؟ ربما وربما

إذاً، لقد تحقق جزء من تلك النبوءة التي استندت إلى جدال علمي تكثف في 2012 على يد اثنين من المتخصصين في الفيزياء النووية بجامعة "باريس سيد" الفرنسية، بمساندة نظير لهما من جامعة أكسفورد. وفي الجامعة الباريسية، وضع البروفيسوران غابرييل شاردان وزميله أورليان بنوا- ليفي نظرية متكاملة عن كون مملوء بمادة مضادة تمتلك جاذبية مضادة، فيما رسم البروفيسور في جامعة أكسفورد، جايمي فارنس، صورة نظرية عن خصائص الكتلة المضادة بحد ذاتها. ومنذها، انطلق جدال علمي متفجر لا يبدو أن تجربة "آلفا- جي" نجحت في وضع حد له، على رغم أنها حسمت أشياء كثيرة فيه.

لكن، ما المادة المضادة؟ ما الجاذبية السلبية؟

لنحاول التبسيط، على رغم كل الخلل الممكن. وفق تصور شائع، تتكون المادة العادية من نواة تحتوي على بروتونات لها شحنة كهربائية إيجابية ونيوترونات لها شحنة كهربائية محايدة، تدور حولها إلكترونات محملة بشحنات كهربائية سلبية.

في المادة المضادة، تكون معظم الأشياء على العكس من ذلك. ومثلاً، تحمل الإلكترونات المضادة شحنة كهربائية إيجابية، وتمتلك البروتونات شحنة سلبية. ويشبه بعضهم العلاقة بين الطرفين باغتراف قبضة من رمل، فتتكون حفرة مساوية لقبضة الرمل ومعاكسة لها. واستطراداً، إذا تصادم الطرفان، تبدد وجود القبضة وانتهى وجود الحفرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ليس التشبيه جزافاً. إذ ان تصادم مادة مع مادة مضادة، يؤدي إلى تبددهما  معاً مع توليد كمية هائلة من الطاقة. ويعطي ذلك الأمر لمحة عن الصعوبات الجمة التي ترافق الاشتغال العلمي على المادة المضادة.

ويزيد الأمر تعقيداً مع تذكر أنه رغم كل اليقين العلمي عن وجود المادة المضادة، إلا أنهم لا يعثروا عليها أبداً. وبموجب نظرية "الانفجار العظيم" المتوافقة مع نظرية النسبية لدى آلبرت آينشتاين، فقد ابتدأ الكون بتفجر أطلق طاقة لا متناهية، أخذت تبرد تدريجياً، مع تحول كميات من الطاقة إلى مادة، بموجب المعادلة المعروفة لآينشتاين. وكذلك يفترض أن ذلك الأمر أدى إلى تكون مادة مضادة بكمية تساوي المادة العادية.

ولعل أحد أشد ألغاز الفزياء وعورة يتمثل في عدم عثور العلماء على المادة المضادة أبداً، على رغم توقعهم وجود "كون" كامل منها، أو كميات تساوي المادة التي نراها في كل أرجاء الكون المعروف للبشر.

مصادم هادرون الكبير الفائق الالتماع

بالتالي، لا وجود للمادة المضادة بشكل أساسي، لكن العلماء يستولدون كميات منها ضمن تجارب علمية مضنية على الذرات وأنويتها، على غرار التصادمات النووية المصغرة إلى حدود ميكروسكوبية التي تجري في "مصادم هادرون الكبير" Large Hadron Collider . وتتشابه تلك التصادمات مع التفجيرات الذرية، لكنها ميكروسكوبية ومضبوطة بحقول كهرومغناطيسية جبارة.

واستطراداً، يولد "مصادم هادرون الكبير الفائق الالتماع" اختصاراً "آتش أل- أل آتش سي"  HL- LHC الذي أطلق في عام 2018 كتطوير لـ"مصادم هادرون الكبير"، تصادمات ذرية  ميكروسكوبية بكميات تفوق المصادم السابق بـ10 مرات في الأقل. وأسهم ذلك في تمكين العلماء من تجربة "آلفا- جي" عن المادة المضادة وكتلتها.  

وتوضيحاً، تختلف خصائص كتلة المادة العادية عن نقيضتها المُضادة، بالأحرى، يتركز الاختلاف الذي يشمل أموراً اخرى، في ثلاثة خصائص أولها القصور الذاتي Inertia Mass بمعنى أنه إذا دفعت الكتلة من قوة ما فإنها تسير معها في المادة العادية لكنها تنفر وتبتعد في الكتلة المضادة. وتتكنّى الثانية بالوازنة Weight Mass التي نقيسها بالميزان وتتفاعل مع الجاذبية، فيصل جسم بوزن كيلوغرام على الأرض إلى وزن بضعة غرامات على القمر الضعيف الجاذبية. وقد أثبتت تجربة "آلفا- جي" بنجاح مدوٍّ، أن تلك الخاصية في المادة المضادة تتصرف إجمالاً مع حقل الجاذبية بنفس طريقة نظيرتها المناقضة لها في المادة العادية.

وأخيراً، ثمة خلاف هائل حول الخاصة الثالثة، أي الكتلة الفاعلة Active Mass التي تكوّن حقل جاذبية حولها فيكون إيجابياً ويشد الأشياء إليه في المادة العادية لكنه يكون سلبياً وينبذ ويبعد الأجسام عنه في الكتلة المضادة. وتشكل الكتلة الفاعلة للمادة المضادة بالضبط موضع خلاف علمي واسع.

لقد وصل التطابق في تصرف الخصائص الثلاثة لدى المادتين المضادة والعادية، إلى 75 في المئة ما اعتُبِر كافياً لدحض فكرة الجاذبية السلبية التي يفترض وجودها أنها ستُنَفّر المادة المضادة من حقل الجاذبية العادي، وفق جيفري هانغست، الأستاذ الأكاديمي في جامعة آرهوس الذي قاد فريق "آلفا- جي" المكوّن من 71 متخصصاً.

لكن، ثمة رأي آخر في ذلك الاستنتاج.

وفي مقالتها عن تلك التجربة، أفردت مجلة "ساينس" الناطقة بلسان "الجمعية الأميركية لتقدم العلوم"، مساحة كبيرة للقاء مع البروفيسور الفرنسي غابرييل شاردان المناصر لفكرة الجاذبية السلبية في المادة المضادة. ولم يتردد شاردان وعلماء آخرين شملتهم تلك المقالة، عن إبداء تحفظ إيجابي حيال تلك التجربة. وأقر بوضوح أن تجربة "آلفا- جي" تدحض التنظيرات العلمية المتداولة منذ عقود عن وجود جاذبية سلبية عامة، بمعنى أن تكون موازية ومناقضة للجاذبية العامة التي درسها نيوتن وآينشتاين. في المقابل، أصر شاردان على أن التجربة الأوروبية لا تدحض مقولاته، مع بنوا- ليفي وفارنس، عن وجود جاذبية سلبية في كتلة المادة المضادة.

وليس ذلك الاعترض بالأمر اليسير. إذ إن الجاذبية السلبية التي يشير شاردان إليها، إذا ثبتت، ستغير نظرة العلم إلى أشد المواضيع الخلافية سخونة من قبيل المادة المظلمة التي تعمل على تثبيت أرجاء الكون والجاذبية المظلمة التي تعمل على تمدده والمباعدة بين أرجائه.

وأيد شاردان، لكن مع بتحفظ كبير، عالم الفيزياء النظرية في "جامعة بلومنغتون" بولاية إنديانا الأميركية، بمعنى أن تجربة "آلفا- جي" حسمت في مناح كثيرة في شأن الجاذبية السلبية المضادة، لكنها لم تقطع بشأن أمور أخرى مما يفرض وجوب الخوض في تجارب أخرى في شأنها.

نبوءة شائعة تحققت وأخفقت

إذاً، حققت كلمات شاردان جزءاً آخر من تلك النبوءة العلمية المعروفة والشائعة، أي حدوث اعتراض علمي على تجربة "آلفا- جي" في شأن المادة المضادة والجاذبية السلبية.

ثمة استطراد مستند إلى مزيج من المتابعة والخيال العلمي.

ثمة علماء كثر يرددون منذ سنوات أن التحدي الحقيقي يكمن في حسم مسألة وجود جاذبية سلبية في المادة المضادة. ويعتقد بعضهم أن حسم الأمر يتوجب أن تسقط ذرات المادة المضادة "بالترافق مع" ذرات من المادة العادية. إذا سقط الطرفان بالسرعة نفسها، تكون كتلة الجاذبية لديهما هي نفسها، وتنتفي مقولة الجاذبية السلبية. وفي حال حدوث العكس، وعلى الأرجح حدوث تأخر بسيط هين في سرعة سقوط المادة المضادة، يضحي ذلك إثباتاً على وجود كتلة جاذبية سلبية تسببتت في تنابذ بين الطرفين، وبالتالي، اختلاف سرعة السقوط تحت تأثير الجاذبية بين المادة والمادة المضادة.

ووفق تعليق ورد في نهاية مقالة "ساينس" عن تجربة "آلفا- جي"، يكفي إثبات وجود جاذبية سلبية في المادة المضادة، لإطلاق سيول نظرية وتجريبية تشمل محاور أساسية تشغل الفيزياء النووية والفلكية المعاصرة، خصوصاً المادة والجاذبية المظلمتين Dark Matter Dark Engergy. وتحتاج تلك الأمور إلى نقاشات مستقلة وواسعة.

 لقد شاغبت الكلمات السابقة كثيراً على تجربة "آلفا- جي"، مما يوجب توضيح جانب آخر عن تناول الإعلام العلمي بصورة عامة وغير دقيقة، لتلك التجربة.

وبصورة إجمالية، نالت "آلفا- جي" مقداراً كبيراً ومستحقاً من التقدير العلمي المتوقع، وحظيت باهتمام وتقدير مرتفعين في الإعلام العلمي، وبالأحرى أنها تستحق أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة.

ويكفي الإشارة إلى أن المجتمع العلمي انتظر بتشوق تلك التجربة منذ عام 2018 حينما أطلق مركز "سيرن" جهاز "مصادم الهدرونات الكبير الفائق للالتماع"، ومنذها، تركز العمل على ثلاثة تجارب كبرى في وحدات ذلك الجهاز، أحدها "آلفا- جي".

باختصار، تضمنت التجربة إسقاط حفنة من ذرات الهيدروجين- المضاد (والأرجح أن اختياره جاء بسبب كونه أبسط المواد المعروفة) في فراغ أنبوب طوله متران، مع قياس سرعة هبوطه تحت تأثير حقل جاذبية الأرض. وكذلك توجب عزل ذرات الهيدروجين المضاد في قفص مغناطيسي تطوقه حزم من أشعة الليزر، إضافة إلى إحاطة أنبوب السقوط المفرغ بأقصى برودة ممكنة بهدف استبعاد تدخل معظم التفاعلات وأشكال الطاقة عن الذرات الساقطة باتجاه الأرض.

إذاً، لماذا المشاغبة التي خاضت فيها هذه المقالة؟

قبل أية إجابة، الأرجح أنه يتوجب إحناء الرأس والعقل والقلب أمام كل إنجاز علمي تحققه حضارة الإنسان في مسار سعيها إلى التعرف على ألغاز الكون وقوانينه ومساراته. ولقد سارت المقالة رأساً في اتجاه محاولة رسم ملامح تفكير نقدي في شأن إنجاز علمي تحقق بجهود ومعارف تفوق الخيال. ولا يبرر ذلك سوى أن التفكير النقدي جزء أصيل ومكين من التفكير العلمي. ألم تعن قوانين إسحاق نيوتن عن الفيزياء الميكانيكية، توجيه نقد علمي عميق لقوانين راسخة وضعت استناداً إلى فيزياء أرسطو وغيره؟ أليس شائعاً تماماً أن نسبية آلبرت إينشتاين حملت نقداً متعمقاً لقوانين نيوتن ونظرياته؟ 

المزيد من علوم