ملخص
تحتفل شركة "غوغل" في سبتمبر (أيلول) الجاري بمرور 25 عاماً على تأسيسها، ولا يقف عملاق البحث عند نهاية ربع قرن وحسب بل أمام مستقبل ربما تقلب فيه مجدداً طريقة عمل الإنترنت رأساً على عقب
تأسست شركة "غوغل" قبل 25 عاماً مضت آخذة على عاتقها مهمة بسيطة ومستحيلة في آن، تتمثل في "تنظيم المعلومات الواردة من مختلف أنحاء العالم وتسهيل الوصول إليها والاستفادة منها على النطاق العالمي".
وعلى مدى الأعوام التالية أفضت محاولتها إنجاز الهدف المذكور إلى تغيير العالم جذرياً، وربما تعيد الكرة قريباً جداً، وقد شهد عملاق محركات البحث الإلكترونية تغيرات عميقة منذ أعلن توليه تلك المهمة، حين تحول من مرأب صغير [في مينلو بارك في كاليفورنيا] إلى مجمع "غوغل بليكس" الضخم في ماونتن فيو في كاليفورنيا، وكذلك تخلى عن أسس أخرى جوهرية على شاكلة شعاره الشهير "لا تكن شريراً" don't be evil، ولكنه لم ينس أبداً التزامه بتنظيم المعلومات حول العالم حتى في ظل تغير المعلومات والتنظيم وتعاظمهما.
بدأت مسيرة "غوغل" عام 1995 في "جامعة ستانفورد" الأميركية عندما كان الطالب سيرغي برين يرافق لاري بيغ في جولة في أرجاء المكان، إذ كان يعتزم متابعة دراسته العليا هناك، وآنذاك كانت شبكة الإنترنت في حال من الفوضى، وكانت تفيض فعلاً بصفحات كثيرة، غير أن فرص العثور على المعلومات عبرها كانت ضئيلة، ومن غرفتي نومهما في السكن الجامعي طور بيغ وبرين نظاماً منوطاً به مهمة تنظيم المواقع على الشبكة العنكبوتية اعتماداً على الروابط (لينك): سُمي النظام "بيغ رانك" PageRank، ومحرك البحث "باك راب" Backrub.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبطبيعة الحال لم يكن "غوغل" محرك البحث الأول، إذ خاضت شركات عدة أخرى محاولة تنظيم الشبكة العنكبوتية، وقبل ظهور محركات البحث الإلكترونية وحتى مع انطلاقتها كان على المستخدمين أن يبحثوا في ما يسمى دلائل مواقع الويب من قبيل "ياهو" Yahoo التي أدرجت مواقع إلكترونية رسمية في دليل بدلاً من السماح للناس بالبحث فيها مباشرة، وبعد ذلك أُنشئت محركات البحث الأولى ومن بينها "ألتا فيستا" AltaVista الذي تأسس قبل عام من تطوير "غوغل"، وسرعان ما استأثر بشعبية واسعة معتمداً إلى حد كبير على الحجم المهول من مواقع إلكترونية أدرجها ضمن قائمة مفهرسة في محركه الإلكتروني للبحث، بيد أنه لم يبل حسناً في استخدام ذلك الفهرس لتقديم إجابات مفيدة عن استفسارات المستخدمين.
وتمثل الإنجاز الذي حققه "باك راب" في عدم لجوء "غوغل" إلى تصنيف الصفحات الإلكترونية بحسب عدد مرات استخدام كلمة معينة مثلاً، وخلافاً لذلك وجه نظره إلى الروابط على افتراض أن الصفحة التي جرى ربطها بروابط أكثر مقارنة مع الصفحات الأخرى كانت ربما تكتسي أهمية أكبر وتتسم بمزيد من الموثوقية، وبدا أداء محرك البحث أفضل من الاسم الذي يحمله والذي تغير بعد فترة وجيزة إلى "غوغل"، وكانت هذه التسمية في حد ذاتها انعكاساً لمهمته المركزية، فهي تهجئة خاطئة لكلمة [مصطلح حسابي] "غوغول" googol ومعناها في الأساس الرقم 1 متبوعاً بـ 100 صفر، والمقصود منه التعبير عن الكم المهول من البيانات الموجودة أصلاً على الإنترنت.
وباسمها الجديد تطورت الشركة بخطى سريعة، وبحلول عام 2002 تحولت مفردة "غوغل" إلى كلمة تدل على فعل في اللغة، فسجلت استخدامها الأول على شاشة التلفزيون في سلسلة "بافي ذا فامباير سلاير" Buffy The Vampire Slayer، ودخلت القاموس اللغوي في وقت لاحق من العام عينه، وسرعان ما احتلت مكانة محورية في وعي الرأي العام.
نمت "غوغل" حتى صارت عملاقاً في تكنولوجيا الحوسبة، إذ صنعت هواتف وأجهزة منزلية إضافة إلى إطلاق منتجات مثل الخرائط والاستحواذ على منتجات أخرى مثل "يوتيوب"، ولقد طورت مشروعاً إعلانياً ضخماً، علماً أن "غوغل" من المنظور المالي عبارة عن سوق إعلانات مرفق بمحرك بحث، عمل على توحيد الإنفاق التسويقي عبر الإنترنت، وهكذا تغيرت شبكة الإنترنت لتعكس هذا الواقع الجديد، وشيئاً فشيئاً أصبحت مواقع الويب أقل أهمية بصفتها وجهات مقصودة وأكثر أهمية في ما يتصل بالمعلومات التي تمد بها محركات البحث، وكذلك كان على منشئي مواقع الويب تلك إيجاد سبل للظهور أمام "غوغل" إذا ما أرادوا الاحتفاظ بشهرتهم، مما قاد إلى ظهور متخصصين يعملون في سبيل تعزيز ذلك الحضور الرقمي.
وسرعان ما تخطى "غوغل" كونه مجرد وسيلة للوصول إلى الإنترنت، بل أصبح الإنترنت نفسه، ويعتبر محركه الإلكتروني للبحث الموقع الأكثر شعبية على الإنترنت. (يحتل المرتبة الثانية موقع "يوتيوب" الذي اشتراه "غوغل" عام 2006).
ومع ذلك فحتى بعدما أصبح "غوغل" البوابة إلى بقية الإنترنت، تفادى إلى حد كبير الجدال في شأن طريقة تنظيم معلوماته، وربما واجه "فيسبوك" و"تويتر" انتقادات مستمرة في شأن المحتوى الذي يسلطان الضوء عليه، وكذلك "غوغل" أحياناً، ولكنه تجاوز معظم تلك الانتقادات.
ويعزى ذلك جزئياً إلى الاهتمام الدقيق الذي يوليه "غوغل" للعنصر الكامن وراء شهرته في المقام الأول، أي خوارزميته، فتراه يغير في طريقة عمل محرك البحث آلاف المرات سنوياً طارحاً تعديلات كبيرة وصغيرة بغية الحؤول دون إساءة الاستخدام وتحسين النتائج، ويكون التحقق من هذه التغييرات من طريق تقييمات يضعها مراجعون من البشر، وصحيح أن التغيرات كانت غامضة إلى حد كبير، بيد أنها بقيت في الغالب بعيدة من أي فضيحة.
وخلال الأعوام الأخيرة حولت "غوغل" تركيزها إلى نوع جديد من الخوارزميات وهو "الذكاء الاصطناعي"، وأعادت الشركة توجيه نفسها لتتبنى استراتيجية "الذكاء الاصطناعي أولاً"، على أمل أن يقود هذا النهج إلى إيجاد طرائق جديدة لتنظيم مختلف أنواع المعلومات للعالم، ففي البداية بدت وتيرة هذا العمل هادئة نسبياً، ومرد ذلك في جزء منه وجود شكل من المعاهدة بين الشركات تقتضي عدم إصدار أية منتجات جديدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي قبل التأكد من أنها آمنة حقاً، وفي جزء آخر إلى أن هذه التكنولوجيا بدت غريبة وغير مثيرة للاهتمام وشديدة التعقيد، بيد أن إصدار "تشات جي بي تي" ChatGPT بواسطة شركة "أوبن أي آي" OpenAI أواخر العام الماضي قلب هذه الحال رأساً على عقب، والآن تبذل "غوغل" جهوداً مضنية كي تؤكد أنها فعلاً تمضي قدماً في الاشتغال على الذكاء الاصطناعي، إذ أعلنت طرح روبوت الدردشة الخاص بها "بارد" Bard، فضلاً عن دمج الذكاء الاصطناعي في البحث الإلكتروني، وهكذا ستسعى إلى تقديم إجابات مفصلة عن أسئلة معقدة متوسلة الذكاء الاصطناعي لإيجاز المعلومات ووجهات النظر.
ولكن هذا التطور سيكون محل خلاف وجدال، فأولاً ينجز "غوغل" المطلوب مستعيناً بمعلومات استحصل عليها من مختلف أنحاء الشبكة العنكبوتية، ومعلوم أنه يستعين دائماً بهذه الوجهة وأنها ليست المرة الأولى التي تجلب عليه شكاوى ومآخذ، فـ "المقتطفات المميزة" التي يعرضها "غوغل" تعني أنه سيعرض مقاطع من صفحات الشبكة من دون أن يضطر المستخدمون إلى النقر عليها، وقد حاجت السلطات في أوروبا وكندا بأن على "غوغل" دفع "ضريبة مشاركة الروابط" دعماً للناشرين الذين يشكلون مصدر معلوماته، بيد أن الذكاء الاصطناعي يأخذ هذا التوجه إلى مستوى جديد، ويتمثل الخطر في أن يصبح الناشرون مجرد منتجين لمعلومات تدريب الذكاء الاصطناعي التي تظهر للمستخدمين على "غوغل".
ولا تقف الجهات المنتجة لتلك المعلومات مكتوفة اليدين بل تتصدى لهذا الواقع، ففي الولايات المتحدة مثلاً شهدت المحاكم دعاوى قضائية تفيد بأن أخذ المعلومات واستخدامها في تغذية نظام اصطناعي ذكي يعد انتهاكاً لحقوق الملكية الفكرية، علماً أن النتيجة التي ستؤول إليها تلك الإجراءات القانونية ستحدد مستقبل كل من "غوغل" وقسم كبير من بقية مواقع الشبكة، ولكن ثمة تناقضاً واضحاً مع الروابط الإلكترونية التي كانت تدعم "غوغل" في بدايته، فتعاون محرك البحث ومواقع الويب معاً، إذ تقدم الأخيرة المعلومات فيما يوفر "غوغل" التنظيم بطريقة تعود بالنفع على الجهتين، وبينما يقف "غوغل" على أعتاب ثورة بحث أخرى، فإن هذا المشروع ذا المنفعة المتبادلة يتهدده خطر الانهيار.
وتحتفل شركة "غوغل" الشهر الجاري بمرور 25 عاماً على تأسيسها، وفي الحقيقة تتبدى أهمية هذا الشهر والاحتفال بذكرى إطلاق محرك البحث في أكثر من وجه، ولا تقف "غوغل" عند نهاية ربع قرن وحسب، بل أمام مستقبل ربما تقلب فيه مجدداً طريقة عمل الإنترنت رأساً على عقب.
© The Independent