Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد زلزال المغرب... ما الذي تعنيه مراكش للمؤرخين الأميركيين؟

كانت مركزاً لإمبراطوريتين في شمال أفريقيا اعتنتا بالفنون والهندسة المعمارية

كلمة "المغرب" مشتقة من تحويل اشتقاقي لكلمة "مراكش" (أ ف ب)

ملخص

في مواجهة التوسع العثماني في القرن الـ16، كانت المملكة المغربية، ومقرها مراكش، المنطقة الوحيدة في العالم الناطقة بالعربية التي حافظت على استقلالها عن السيطرة التركية

على رغم التعاطف الأميركي الرسمي والشعبي إزاء زلزال المغرب، إلا أن الاهتمام التاريخي والثقافي بمدينة مراكش كان محور اهتمام المؤرخين وعلماء الآثار الأميركيين والغربيين بصفة عامة، الذين ينظرون بعناية خاصة إلى تلك المدينة التاريخية بتراثها وتقاليدها الحرفية العريقة ونسيجها الحضري ومواقعها المعمارية، إذ دمر الزلزال الأخير أجزاء منها. فما الذي تعكسه هذه الأهمية للمدينة التي تأسست عام 1070 ميلادية؟ ولماذا يساور القلق بعضهم من أن إعادة بناء المدينة بعد كارثة الزلزال يعتمد على المجتمعات الريفية الفقيرة التي يقطنها الحرفيون الأكثر مهارة، التي أصبحت الآن أكثر ضعفاً بسبب الكارثة؟

مراكش هي المغرب

وسط المشاهد المؤلمة للزلزال الذي ضرب المغرب بالقرب من مدينة مراكش، ومع الأنباء المتتالية حول ارتفاع أعداد القتلى إلى آلاف، استحوذت المأساة على اهتمام رسمي وشعبي في الولايات المتحدة عبر تغطية إعلامية موسعة لما حدث في أول بلد عربي يقيم علاقة دبلوماسية بأميركا في نهاية القرن الـ18. غير أن المباني والآثار ذات الأهمية التاريخية الكبرى التي تعرضت للخطر، ومن بينها مئذنة مسجد الكتبية، الذي يعود تاريخه للقرن الـ12 ويعد رمزاً للمدينة، كانت بمثابة صدمة عميقة للمؤرخين وعلماء الآثار الأميركيين بسبب المخاوف من فقدان بعض كنوز المدينة المشهورة عالمياً.

وبالنسبة إلى كثير من الباحثين والمؤرخين مثل روبرت جون مؤلف كتاب الشرق الأوسط وأفريقيا، فإن مراكش هي المغرب حتى أن كلمة "المغرب" مشتقة من تحويل اشتقاقي لكلمة "مراكش"، وظلت هذه المدينة التاريخية، التي أسسها المرابطون عام 1070 مركزاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً لفترة طويلة، وكان تأثيرها واضحاً في جميع أنحاء العالم الإسلامي الغربي، من شمال أفريقيا إلى الأندلس، وهو ما تجسده المعالم الأثرية الرائعة التي يعود تاريخها لتلك الفترة، بما في ذلك القصبة والأسوار والأبواب الأثرية والحدائق.

أهمية مراكش

لكن الباحثة في الكلية المجدلية بجامعة كامبريدج أميرة بنيسون تصف أهمية مراكش التاريخية بأنها كانت مركزاً لاثنين من أهم الإمبراطوريات في شمال أفريقيا (المرابطون والموحدون)، وهما أهم سلالتين أمازيغيتين في الغرب الإسلامي خلال العصور الوسطى، إذ سيطروا على المنطقة التي شملت جنوب إسبانيا والبرتغال والمغرب والجزائر وتونس منذ أن خرج المرابطون من الصحراء في خمسينيات القرن العاشر، لاحتلال مناطق شاسعة ووقف التقدم المسيحي في أيبيريا، ثم استبدلوا بعد قرن من الزمان بمنافسيهم الموحدين. وعلى رغم أنه كان ينظر إليهم في كثير من الأحيان على أنهما رجال قبائل فظين وغير متسامحين دينياً قوضوا الثقافة الأندلسية الرفيعة، إلا أن القرنين الـ11 والـ13 كانا حاسمين في أسلمة المغرب، واندماجه في المجال الثقافي الإسلامي. وظهر المغرب كلاعب رئيس في غرب البحر المتوسط، وكان كثير من هذا بسبب هذه الإمبراطوريات البربرية المهملة في كثير من الأحيان.

ويشير الأستاذ في جامعة "ماريا أوتوريداد دي مالقة" ماركوس كوباليدا إلى أنه خلال العصر المرابطي احتلت الفنون وبخاصة الهندسة المعمارية مكانة بارزة في قضايا الأمبراطورية، وتزايدت أهمية هذه الحقيقة منذ ولادة الحركة الموحدية في عشرينيات القرن الـ12، إذ وجد أمراء المرابطين في البرامج المعمارية، طريقة مباشرة لتشكيل أفكارهم السياسية والدينية ضد الموحدين ونشرها عبر أراضيهم. وعلى سبيل المثال قدم المرابطون الخط المتصل في الغرب عبر استخدامه في قبة الباروديين بمراكش، وكان لأمراء المرابطين دور مهم كمجددين للبرامج الفنية الإسلامية الغربية، التي استخدموها كوسيلة لإحياء الذكرى ورمزاً لأفكارهم السياسية والدينية.

وفي حين وصفت بعض المصادر المرابطين بأنهم "بسطاء" و"أميون"، لكن شواهد تراثهم المعماري والفني تشير إلى خلاف ذلك، إذ شيدوا قبة متناسبة بشكل أنيق تعرف باسم قبة الباروديين، وأنشأوا المنبر الخشبي المتقن الموجود الآن في متحف قصر البديع، أما الموحدون فشيدوا مئذنة الكتبية، النصب التذكاري المميز لمراكش.

تراث المدينة

وبحسب الأستاذة في تاريخ الفن بجامعة ساوث ميثوديست الأميركية آبيي ستوكستيل، فإن المدينة القديمة التي تعرف باسم المدينة، وهي الجزء المسور الذي يعود تاريخه للعصور الوسطى، تمتد أهميتها الثقافية إلى ما هو أبعد من التحف والحلي التي تباع للسياح. فهي لا تعد فقط أحد مواقع التراث العالمي لليونيسكو منذ عام 1985 لتميزها بمبان يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الـ11، ولكن أيضاً لأن الموقع يشمل عديداً من ورش الحرفيين التي تصنع بلاط السيراميك والجص المنحوت والأعمال الخشبية المعقدة التي تزين المدينة، وبسببها حافظ عديد من ورش العمل على الأساليب التقليدية لقرون عدة، ونقلت مجموعة المهارات عبر الأجيال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستند جزء من طلب المغرب للحصول على وضع مراكش في "يونيسكو" إلى أن هذه التقاليد الحرفية هي تراث ثقافي غير مادي، إذ تصفها الأمم المتحدة بأنها المعرفة أو المهارات التي تنقل شفهياً وليس بشكل مكتوب. ومنذ ذلك الحين أصبح تصنيف "يونسكو" بمثابة اعتراف تاريخي بتقاليد المجتمعات الفقيرة والريفية التي غالباً ما تستبعد من النقاشات الأكبر حول تاريخ الفن، على رغم أن هذه المجتمعات بالتحديد هي التي حافظت على التراث المعماري لمراكش لأجيال عدة. لكن المشكلة الآن تتمثل في أن الزلزال دمر ورش العمل ومساكن كثيرين في المدينة، وأصبحت هذه المجتمعات الفقيرة والريفية هي الأكثر ضعفاً في الوقت الذي ستكون فيه مهاراتهم مطلوبة بشدة للمساعدة في إعادة بناء المدينة بعد هذه الكارثة.

موقع حركات الاستقلال

أسهمت أصول المدينة كعاصمة أمازيغية في جعل مراكش مركز الهوية الوطنية المغربية المعاصرة المتجذرة في الفخر والاستقلال منذ قرون. وفي حين أن مدن شمال أفريقيا الأخرى لها جذور في التقاليد العربية أو الرومانية، يمكن لمراكش أن تدعي أنها مغربية بشكل واضح. ففي مواجهة التوسع العثماني في القرن الـ16، كانت المملكة المغربية ومقرها مراكش المنطقة الوحيدة في العالم الناطقة بالعربية التي حافظت على استقلالها عن السيطرة التركية.

على رغم أن الفرنسيين والإسبان كانوا يتنافسون على الحكم الاستعماري للبلاد، إلا أن حركات الاستقلال المغربية في القرن الـ20 كانت تتمركز إلى حد كبير خارج مراكش، وكانت المدينة عرضة للثورة لدرجة أن الإدارة الفرنسية نقلت العاصمة الاستعمارية شمالاً إلى الرباط.

تاريخ مخفي

ومع ذلك فإن استعادة ماضي المدينة المهم هو بمثابة قراءة ما بين السطور بالنظر إلى ندرة نسخ التقاليد الشفهية لمؤسسي المدينة بأمانة، وغالباً ما كانت المصادر المكتوبة متناثرة وغير منشورة، أما المصادر الموجودة فكانت في معظمها مكتوبة بواسطة غرباء أو زوار للمدينة.

وعلى رغم أن العثمانيين كانوا ممتازين في حفظ السجلات، مما مكن الباحثين من استكشاف أرشيفات مركزية واسعة النطاق في كل جزء من العالم العربي، إلا أن المغرب لم يخضع للسيطرة العثمانية وظلت أرشيفاته مشتتة وتعاني نقص التمويل، ومن ثم كان على المؤرخين أن يعملوا بشكل غير مباشر للكشف عن تفاصيل ملموسة، معتمدين على أبحاث الآثار والأنثروبولوجي لتكملة التقاليد الشفهية.

غير أن التقاليد الحرفية كانت نقطة أساسية في الجهود الاستعمارية الفرنسية في مراكش، إذ أنشأت فرنسا مدارس حرفية في المدينة لتوثيق أساليبهم والحفاظ عليها ظاهرياً، ومن خلال القيام بذلك خلقت الحماية الفرنسية التي حكمت البلاد من عام 1912 إلى عام 1956، نوعاً من الحنين إلى الماضي داخل المدينة، وفقاً لآشلي ميللر من جامعة ميتشغان، إذ خلطت بين الأشخاص العصريين الذين عاشوا هناك بالفعل، وبين ماضي المدينة في العصور الوسطى.

أدى هذا إلى خلق شكل من أشكال الفصل الاقتصادي والاجتماعي، إذ عزل الحرفيون وعائلاتهم في البلدة القديمة، بينما احتل المغتربون والسياح الأكثر ثراء المدينة الجديدة خارج أسوار العصور الوسطى.

الحفاظ على الماضي

وفي الوقت نفسه فإن هذه التقاليد الحرفية هي أيضاً التي مكنت من الحفاظ على عديد من المواقع وترميمها في مراكش وما حولها التي تجتذب الآن آلاف السياح كل عام. وعلى سبيل المثال خضع مسجد القصباء، وهو المسجد الثاني الرئيس في المدينة بعد الكتبية، الذي بني في الأصل بين عامي 1185 و1189، لعمليات ترميم متتالية في القرنين الـ17 والـ21 بعد أن أدى عدم الاستقرار السياسي إلى إهماله، وفي كلتا الحالتين وظف حرفيون محليون لتجديد جدران المسجد الجصية وأعمال بلاط الفسيفساء.

وكان الحرفيون أيضاً سفراء مهمين لمكانة المغرب في المجال الأوسع للفن الإسلامي، إذ قاموا ببناء فناء كجزء من تجديد متحف متروبوليتان للفنون لعام 2011 لمعارضهم الإسلامية باستخدام تقنيات ومواد من القرن الـ14.

ومع التدمير الجزئي لمدينة مراكش القديمة سيواجه عديد من هؤلاء الحرفيين وورش العمل خيارات صعبة في ما يتعلق بمستقبلهم، بخاصة بعدما أدت عمليات التحسين على مدى العقد الماضي إلى إخراج عديد من السكان من منازل أجدادهم، فيما ظلت ورش عمل عدة تعمل بهوامش ربح ضئيلة للغاية، بحيث لا تتمكن من دفع تعويضات عن الأضرار والاحتفاظ بالسيطرة على ممتلكاتهم.

إعادة بناء التراث غير المادي

وبعدما تصدعت أجزاء من أسوار المدينة في الزلزال، وفقد مسجد يعود تاريخه للقرن الـ18 في الساحة الرئيسة مئذنته، كما انهار موقع تينمال التاريخي الذي يعود تاريخه للقرن الـ12 في جبال الأطلس، لا يزال يجري إحصاء الخسائر الناجمة عن الزلزال، ومن المرجح أن تكون الأضرار المادية واسعة النطاق، ومع ذلك فإن تاريخ المكان ومرونته يلعبان دوراً أساسياً في أي انتعاش.

وبحسب ستوكستيل سيكون دور التراث غير المادي لمراكش من فنانيها وحرفييها هو إعادة البناء بعد هذه الكارثة، وفي خضم الروايات عن الخلفاء والسلاطين والفلاسفة والشعراء قد يكون من السهل نسيان الأشخاص الذين بنوا هذه الأماكن ما لم تذكر أسماؤهم في النصوص التاريخية، لكن هؤلاء الفنانون والحرفيون سيحتاجون إلى الدعم للحفاظ على تاريخ مراكش، والإبقاء على الماضي ليكتشفه المؤرخون في المستقبل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات