Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السينما البديلة بين استقلال الإنتاج والمواضيع

أخدت على عاتقها الالتحام بالواقع ونفي الخيال ومن أبرز مخرجيها مارون بغدادي وجوسلين صعب ورندا الشهال

لقطة من فيلم "طيارة من ورق" للمخرجة الراحلة رندة الشهال (مواقع التواصل)

ملخص

 السينما المستقلة في العالم العربي عبارة عن أفلام لا تسعى إلى تأريخ الوقائع، بل تعمل على تضمين بعض من هذه الوقائع على صورة ظلال داخل الأفلام.

قد يكون لبنان البلد الوحيد الذي يطلق على "السينما المستقلة" كلمة "البديلة"، فقد برزت أهمية هذا النوع من السينما هناك منذ نهاية ستينيات القرن الـ 20، وتعتبر أسماء كمارون بغدادي وبرهان علوية ورندة الشهال وجان شمعون وجوسلين صعب، من رواد للسينما المستقلة في العالم العربي، وذلك بسبب القفزة النوعية التي حققتها أفلامهم في سبيل خلق سينما عربية أكثر حداثة وتجريباً، سينما أخدت على عاتقها الالتحام بالواقع ونفي الخيال لبرهة من الزمن والإعلاء من الشأن السياسي على حساب الجمالي، مما يجعلها اليوم وثيقة بصرية مهمة تكشف أهوال وفظائع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، فالصورة السينمائية وإن كانت في بعض أنماطها تنزع صوب التوثيق فإنها تبقى قاصرة على التأريخ، لأن جوهرها تخييلي.

وإذا كان المؤرخ الفرنسي مارك فيرو (1924-2021) يعتبر الفيلم وثيقة تاريخية، فلأنه ينطلق في تحليلاته من أفلام فرنسية شبه واقعية تفتقر إلى الخيال، بل إنها أشبه بروبورتاغات روائية جعلته يؤمن بأهمية الفيلم كشاهد على حدث أو واقعة.

البحث عن واقع بديل

والسينما المستقلة في العالم العربي عبارة عن أفلام لا تسعى إلى تأريخ الوقائع، بل تعمل على تضمين بعض من هذه الوقائع على صورة ظلال داخل الأفلام، أي أن الموضوع / الحدث حين يتموقع في السينما فإنه يكون عبارة عن أثر جمالي مؤثر في الحبكة من الناحية الدرامية، فالمخرج ليس هاجسه التأريخ كما هو شأن المؤرخ، ولذلك يسبغ كثير من النقاد في العالم على المخرج السينمائي هذه الوظيفة التي تتجاوز في مجملها تكوينه الشخصي.

إن الواقع في السينما اللبنانية البديلة ليس موضوعاً أو حتى علامة جمالية، بقدر ما هو مختبر بصري لتجريب القصص والحكايات وتكثيف البوح البصري، وبهذه الطريقة تغدو السينما أداة لإدانة الواقع سياسياً والثورة على مجمل الأفكار البالية التي أفضت بالبلد في حروب أهلية مميتة لم يندمل جرحها إلى حدود اليوم، وما يميز السينما المستقلة أنها كتبت تاريخاً مضاداً للتاريخ الذي تتفنن السلطة في كتابته، تاريخ بصري مضمخ بحكايات واقعية تظهر قهراً وتصدعاً، ونجحت السينما اللبنانية في أن تكون سينما ملتحمة بالواقع وأكثر وعياً ونضجاً بميكانيزماته وعوالمه.

 

 

وعلى رغم قهر الواقع وبساطة الكاميرات وضعف الإنتاج، عمل فرسان السينما اللبنانية على خلق واقع بديل لسينماهم، وذلك من خلال الثورة جمالياً على الأشكال والقوالب وتحطيم الأفكار المسبقة عن كيفية صناعة السينما العربية.

وما فعله رواد السينما البديلة في لبنان أنهم ثاروا على الواقع ووضعوا واقعاً آخر بنوا عليه أفلامهم، بل للمرة الأولى في تاريخ السينما العربية نراها تدخل في اشتباك حقيقي مع السلطة، ليس من أجل الصراخ والبكاء، وكما هو الأمر بعض التجارب الأدبية التي برزت في السياق التاريخي نفسه.

لقد استوعبت هذه الأسماء كيف يمكن للسينما أن تغير الواقع وتضع مكانه واقعاً جديداً يستوعبه الناس، فإذا كانت سينما جوسلين صعب تسعى جاهدة إلى ترميم القصص والحكايات داخل بيروت، فإن نظيرتها رندة الشهال في "طيارة من ورق" تحاول وضع قهر الاحتلال في إطار نص تخييلي يخفي بعضاً من مآزق الواقع وأهواله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد ظلت كاميرا السينما البديلة متنقلة توثق الأجساد والمشاعر والرغبات، ليس بطريقة التقارير وإنما في وضعها داخل قالب سينمائي مجدد، و"البديل" في السينما اللبنانية يتمثل في البحث عن واقع آخر يستطيع المخرجون من خلاله تأسيس سينما جديدة ثائرة على الواقع القائم، وبهذه الطريقة تصبح السينما وسيلة من وسائل المقاومة ونمط من أنماط التفكير الذي يحول الفيلم إلى مختبر فكري لطرق مواضيع تتعلق بالسياسة والذاكرة والتاريخ.

والحقيقة أن فعل التفكير الذي تحرض عليه السينما البديلة نابع من كونها سينما أيديولوجية ملتزمة بقضايا الوطن، بخاصة وأن بعض فيلموغرافيتها لا تهتم بالنواحي الفنية والجمالية بقدر ما توسع أفق الصورة ودلالتها لتنخرط في كل ما هو سياسي ـ اجتماعي.

ضبابية المفهوم

يرتبك المرء حين يسمع عبارة السينما المستقلة، فهذا الأمر يدعوه أولاً إلى التفكير عن هذا الذي نعنيه بالاستقلال، فهل له علاقة بسوسيولوجيا إنتاج سينمائي متفلت من المؤسسات الرسمية، أم له علاقة باستقلال المواضيع وبقائها على حدود الالتزام؟

 

 

إن الاستقلال من ناحية الإنتاج يعطي للمخرج إمكانات كبيرة للإبداع والابتكار من طريق الحصول على دعم أجنبي يحرر صوره من رقابة الصالات وقهر القوانين الزجرية وبنودها الصارمة، بطريقة تكبل بها السينما ويصبح هاجس الإبداع وحرية التفكير مغيبين داخل الفيلم.

لقد صنع الدعم الأجنبي سيرة جديدة للسينما العربية وجعلها تتبوأ مكانة مميزة داخل مهرجانات العالم، بل إنه حرر مواضيعها وجعلها تدخل في سجال حقيقي من أمور تتعلق بالسياسة والدين والفساد والقهر، كما أتاح لها إمكان الاشتباك مع قضايا فكرية تتعلق بالذاكرة والفضاء والتاريخ والجسد.

وحين نتحدث عن الرقابة نكون أمام رقابة التقليد الذي يحاول تكريس مفهوم الأخلاق، وكل هذا في وقت ينضح به الواقع من تحولات تستدعي تدخل السينما للاشتباك مع هذه التحولات والعمل على فهمها ووضعها داخل إطار بصري معين، وعلى رغم الانتقادات التي وجهت للسينما اللبنانية البديلة على أساس أن مخرجيها صنعوا فيلماً واحداً يهجس بالأيديولوجيا، إلا أن المتأمل في فيلموغرافيتها سيكتشف حجم الاجتهاد البصري والخلق الإبداعي الذي عملت عليه هذه الأسماء السينمائية، محاولة خلق نموذج سينمائي له علاقة بالمرحلة المزرية التي عاشوها.

من الوثائقي إلى الروائي

وهناك كثير من الدارسين للسينما في العالم العربي يعتبرون أن البديل له علاقة بالجانب الموضوعي المرتبط بفعل الإبداع، على أساس أن السينما العربية ينبغي في مرحلة من تاريخها أن تجدد مواضيعها وطريقة معالجتها والتسلح أكثر بتقنيات جديدة تسعفها على التقاط شذراته ونتوءاته من الواقع، إذ إن الفريق الذي يعتمد على هذا الطرح ينسى أن السينما البديلة، كانت نتيجة لسياق تاريخي وسياسي بعينه، إذ لولا ظهور بعض الوقائع المحرضة على التقاط الكاميرا لكان الوضع مختلفاً.

وثمة سمة جمالية مميزة تظلل سيرة الأفلام البديلة أو المستقلة، وهي أنها عملت على تكسير الأجناس البصرية بين الروائي والوثائقي، إذ نجد كثيراً من أفلام جوسلين صعب وجان شمعون، ويصعب القبض على الوثائقي والروائي فيها لسلاسة السرد وتقاطعاته مع مفردات ومفاهيم كانت تلوح في المشهد السينمائي.

المزيد من سينما