Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زولا في منفى إنجليزي ذهبي بعد أن أغضب سلطات بلاده ببيانه العنيف "إني أتهم"

زوجته بعثت إليه عشيقته وأوسكار وايلد عانقه مع باقة زهر نكاية بالملكة فكتوريا

إميل زولا (1840 – 1902): منفى إنجليزي جيد (ويكيبيديا)

ملخص

سيمضي إميل زولا بقية أشهره في الريف الإنجليزي ولكن بخاصة في لندن معززاً مكرماً

في تلك الحقبة لم يكن الإنجليز يستسيغون كثيراً ما يصدره الفرنسيون من روايات وأشعار على رغم كل الجهود التي يبذلها هؤلاء لنيل إعجابهم ورضاهم، بشكل خاص لم يكن الناطقون بلغة وليم شكسبير يحبون أدب إميل زولا الذي كان يعد عند نهايات القرن الـ 19، الكاتب الأكثر فرنسية بامتياز، لا سيما بفضل الـ 20 جزءاً ونيف التي كانت تتألف منها سلسلة رواياته المترابطة "آل روغون - ماكار" التي بفضل أسلوبها الواقعي الذي سمي، للمناسبة" "طبيعياً"، حملت جديداً إلى عالم اللغة الأدبية سرعان ما تلقفه الكتاب الأميركيون على عكس حال أبناء عمومتهم الإنجليز وأحلوه في مكانة متقدمة، بل إن النيويوركيين منهم من أمثال ستيفن كرين وثيودور درايز بجلوه وحاكوه كاتبين على منواله روايات جعلت من إميل زولا معلماً في الرواية الأميركية، ومع هذا لم يقتنع الإنجليز بمكانة زولا وتفوقه حتى وإن كان بعض المتحمسين منهم قد اشتغل على ترجمة بعض أجزاء سلسلته إلى الإنجليزية، ولكن فجأة وربما من دون مقدمات، راحت أسهم زولا ترتفع في لندن وراح يصيب حظاً مباغتاً في "بورصة" الفكر ولكن، وللأسف! سيقول فرنسيون، ليس بفضل أدبه الروائي الكبير، بل بفضل نصوص له غير روائية وفي مقدمها بيانه السياسي الغاضب الذي سيعد وحتى اليوم علامة أساسية في تدخل المثقفين في الشؤون العامة في بلادهم. ونتحدث هنا طبعاً عن نصه الشهير "إني أتهم" الذي نشره يوم 13 يناير (كانون الثاني) 1898 في صحيفة "لورور"، وكان عبارة عن رسالة وجهها الكاتب المرموق إلى رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الحين فيليكس فور على شكل بيان يتهم فيه السلطات الفرنسية القضائية والسياسية وربما العسكرية أيضاً بإلحاق ظلم لا يغتفر بالضابط اليهودي ألفريد دريفوس، الذي اتهم ظلماً بالتجسس لحساب الألمان "وهو من تلك التهمة بريء، إذ إن تهمته الحقيقية تكمن في كونه يهودياً في بيئة باتت معادية للسامية تحت وصاية اليمين الفرنسي المتطرف" بحسب ما يحاول زولا شرحه للرئيس.

 

حكم جائر

وطبعاً لن نتوقف هنا عند الرسالة المفتوحة ولا عند المسألة التي تتناولها، فنحن وغيرنا سبق أن كتبنا عنها كثيراً وأشرنا دائماً إلى كونها، بصرف النظر عن مضمونها، افتتحت عصر نضالات سياسية ومواقف راح المثقفون الفرنسيون، وغير الفرنسيين يخوضونها، لا سيما في الحياة العامة ما أوصل كباراً من المثقفين الفرنسيين إلى أن يُعتبروا، تاريخياً، المحرك التاريخي الذي حرك معظم الانتفاضات الاجتماعية في القرن الـ 20، لكن ما يهمنا هنا هو الكيفية التي بها استقبل الإنجليز هذا النشاط الجديد لزولا. ففي اختصار كان واضحاً أن موقف الكاتب قد راقهم هم الذين سيقول منتقد لهم إنهم "يحبون كل ما يزرع الفوضى لدى جيرانهم إلى الشرق، لا سيما لدى الفرنسيين منهم"، وهكذا سينعكس ذلك الإعجاب بشكل عملي بعد أن حكمت السلطات الفرنسية على إميل زولا (1840 - 1902)، إذ حاكمته قضائياً بسبب تلك المقالة - البيان متهمة إياه بالمساس برئاسة الجمهورية والقيادة العسكرية بشكل لا يمكن التهاون معه، يومها حكم على زولا بالسجن، مدة عام، وبدفع غرامة مالية، وصحيح أن قيمة هذه الغرامة لم تكن شيئاً، فزولا كان حينها كاتباً ناجحاً، لكنه لم يكن ليريد أن ينصاع إلى حكم كان يعتبره جائراً، وكذلك لم يكن يريد أن يدخل السجن بأية حال من الأحوال، ولما كانت المحكمة قد منحته مهلة أيام قبل انطلاقها لتنفيذ الحكم، قرر أن يترك البلاد، وتحديداً متوجهاً إلى إنجلترا التي ما اختارها إلا لأنه تلقى أصداء إيجابية تتعلق بالموقف من مقالته، فوجدها مناسبة يتقرب بها إلى الجيران ويتابع شؤون ترجمة رواياته ونشرها ويجد أخيراً وسيلة للتفاهم معهم حتى وإن كان معروفاً بأنه لا يعرف من اللغة الإنجليزية سوى عبارات قليلة.

هارب في الظلام

وهكذا تحت جنح الليلة التالية مباشرة لصدور الحكم، وفي فترة المهلة الممنوحة له، تحرك من دون أن يصطحب معه أية ملابس أو أغراض شخصية أو أدوات تبرج، وفي ظلام الليل نحو العاصمة البريطانية لندن. غير أنه سرعان ما علم هناك لدى وصوله أن البوليس الفرنسي بدأ يبحث عنه وأرسل عسسه إلى العاصمة يسأل عنه، ففهم أنه لن يكون قادراً على البقاء في العاصمة، ولذلك انتقل من فوره إلى الريف الإنجليزي وهو واثق أن أحداً لن يتعرف إليه هناك، وكان تخمينه في محله، ومن هنا قرر أن يقيم في قرية صغيرة تدعى ويبريدج تقع إلى الجنوب قليلاً من المنطقة التي يوجد فيها اليوم مطار هيثرو غير بعيد من العاصمة، حتى وإن تميزت القرية بكونها غارقة في مجاهل الحياة الريفية التي تمكنه من الاختباء بعيداً من عيون العملاء الفرنسيين، وهكذا تمكن الكاتب الفرنسي من تمضية الصيف التالي كله في ذلك المكان المشهور بجمال طبيعته ونقاء هوائه وعدم تدخل سكانه القلائل بحياة من يعيش بينهم وكان ذلك أكثر ما يتمناه. وهكذا انصرف وقد راح يعتاد التنقل على دراجة هوائية حاملاً كاميراه ودفاتره وأقلامه، في مناطق مقاطعة ساري المحيطة بالقرية ملتقطاً عشرات الصور مدوناً مئات التفاصيل في محاولة منه، لم تبد ناجحة على أية حال، لكتابة رواية أو على الأقل ما يشبه الرواية عنونها منذ البداية "خصوبة". لكنه سيكون هو أول الرافضين لها على أية حال!

اقرأ المزيد

الحاجة إلى رفقة والعشيقة جاهزة

غير أن كاتبنا سرعان ما راح يسأم تلك الحياة الروتينية ويحن إلى الرفقة لا سيما حين عجز عن التفاهم بلغته الإنجليزية الركيكة مع من كان يلتقيهم من السكان المحليين، ويجدهم غير مهتمين به وغير مثيرين لاهتمامه على أية حال، وفي نهاية الأمر كان لا بد له، وقد راحت أخبار الوطن تؤكد له أن السلطات الفرنسية لا تزال تبحث عنه كي ينفذ العقوبة المزدوجة، أن يطلب من عشيقته جان أن توافيه إلى حيث يقيم مصطحبة معها ولديهما. وتقول الحكاية إن زوجته الوفية ألكسندرين كانت هي التي رتبت كل ما يتعلق بانضمام جان والولدين إلى "العزيز إميل" هي التي كانت قد اعتادت أن ترضخ في نهاية الأمر لهذا الواقع الجديد الذي جعلها واحدة من امرأتين في حياة زوجها، وهي كانت تعرف في المقابل، أنها، لا العشيقة، المؤتمنة على شؤون الزوج وأعماله وعلاقته بناشريه وبترويج كتبه، ومن هنا كان "من الطبيعي" لها أن تبقى في فرنسا لتسيير تلك الأمور كلها في وقت أرسلت العشيقة إلى إنجلترا لتخفف والولدان من وحدة الكاتب المنفي، ولكن الواقع سرعان ما يفيدنا بأن الحياة التي كان زولا قد بدأ يتمتع بها في إنجلترا لم تكن بائسة لا سيما بعد أن أحس أن الشرطة الفرنسية قد يئست من الإمساك به وبدأ هو يزور لندن بين الحين والآخر، بل يمضي فيها في كل مرة أياماً يتمتع خلالها بشهرته التي باتت كبيرة كمناضل ضد السلطات الفرنسية وضد الظلم وفي سبيل حرية التعبير، وهو أمر كان لا بد له أخيراً من أن ينعكس على استقبال الإنجليز لأدبه الروائي نفسه، ولو الآن على خطى الأميركيين على الأقل.

مع أوسكار وايلد

ومن هنا سيمضي إميل زولا بقية أشهره في الريف الإنجليزي، ولكن بخاصة في لندن معززاً مكرماً على رغم ما يقوله لنا المؤرخ الأدبي الإنجليزي مايكل روزين في كتاب له صدر منذ سنوات حول "اختفاء إميل زولا: الحب والأدب وقضية دريفوس"، من أن النظرة الفكتورية ظلت دائماً سلبية إلى "ما كان يرصد من تحرر أخلاقي في بعض فصول رواياته". وهو أمر لا شك قد فاقم منه تقرب أوسكار وايلد منه إلى درجة أنه حين التقاه هذا الأخير للمرة الأولى في لقاء عام في العاصمة عانقه بحرارة وقدم باقة ورد لامرأته. وفي المقابل، كان لافتاً كيف أن متحف "مدام توسو" قد صنع علناً تمثالاً من الشمع لـ"الزائر الكبير" ما زال معروضاً هناك إلى اليوم، وكتبت صحيفة "التايمز"، بحسب ما يذكر روزين في كتابه، أن "هذا الكاتب الفرنسي الكبير سيبقى مكرماً في كل مكان يتمتع فيه الناس بروح حرة".

المزيد من ثقافة