Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تبلغ السرعة القصوى للمجتمع المصري "الصفر"

أشرف العشماوي يمارس الإسقاط التاريخي مازجاً بين التوثيق والتخييل

لوحة للرسام المصري نذير طنبولي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

أشرف العشماوي يمارس الإسقاط التاريخي مازجاً بين التوثيق والتخييل

منذ منتصف القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين، حاول الكثير من التنويرين، أمثال محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، وغيرهم؛ نقل المجتمع المصري إلى الحداثة، لكن موروثاً ثقافياً قائماً على الاستبداد وإقصاء الآخر، حال دون ذلك. وعلى رغم صيرورة الزمن والتاريخ لم يتجه المجتمع نحو تبني الديمقراطية والتعددية، بل ظل ساكناً عند النقطة ذاتها، معلناً أن "السرعة القصوى صفر"، وهذا هو العنوان الذي اختاره الكاتب المصري أشرف العشماوي لروايته الأحدث، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2023 – القاهرة، التي تناولت القضية نفسها. ورصدت أحداثاً تاريخية وقعت منذ بداية الأربعينيات حتى نكسة عام 1967، تلك الحقبة التي لم تسفر عن أي تطور سياسي حقيقي، على رغم ما شهدته من تحولات كبرى، كان أبرزها انتهاء الملكية، وبداية العهد الجمهوري.

لم يستثمر الكاتب التاريخ بهدف استخلاص العبر وحسب، وإنما سعى لإبراز التفاعل بين هزائم الماضي ومشكلات الحاضر، وإضاءة المعتم، وكشف المسكوت عنه، وممارسة الإسقاط التاريخي عبر بناء يمزج بين التوثيق والتخييل. فشرع رحلته السردية من فضاءات الصدمة، التي عانت فيها كلتا الشخصيتين المحوريتين، أزمات عصفت بهما. فبينما اضطر شكري تاج الدين ابن الطبقة الأرستقراطية، للجوء إلى وكر إحدى العصابات، في صحراء العباسية، كان أخوه التوأم فهمي يعيش قهراً آخر في المعتقل، بلا جريرة ولا ذنب. ومن هذه النقطة سلك الكاتب تقنيات الاسترجاع والتذكر، عائداً إلى ماضي الشخصيتين، ومتتبعاً الأحداث الخطيرة، التي أودت بهما إلى ما آلا إليه.

أصوات متعددة

قرر العشماوي أن ينسج رواية بوليفونية، منح عبرها صوت السرد لأربعة شخوص. وأتاح لكل شخصية التعبير عن نفسها عبر ضمير المتكلم. وحرص على ديمقراطية الطرح، محاولاً الوقوف على مسافة واحدة من أبطاله كلهم، على رغم تنوع أيديولوجياتهم، وانتماءاتهم السياسية. فبينما كان شكري تاج الدين منتمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، كان فهمي شخصية حالمة، يعتنق أفكاراً جعلت أخوه وخاله يحسبونه على الشيوعية. كذلك عمد الكاتب إلى التهجين، فتنوعت لغة الخطاب السردي، بما يتسق مع طبيعة وثقافة الشخوص. فبينما كانت لغة شكري، وفهمي، وأمينة، معبرة عن طبقتهم الارستقراطية، وعن ثقافتهم، وانتماءاتهم السياسية، جاءت لغة أعضاء العصابة معبرة أيضاً عن طبقتهم، وثقافتهم. أما التقابل فكان وسيلة الكاتب لتمرير رؤى حول أفكار جماعة الإخوان المسلمين، لا سيما وأنه وضع ما قام به أعضاؤها، من استغلال "حبشي القبطي"، وعدم إعطائه حقه والكيد له، في مقابل ما قام به المصريون البسطاء من جيرانه المسلمين، الذين اعتنوا به.

وبين ما أبرزه العشماوي من تناقضات النفس والعالم، كان كل من شكري وفهمي، المثال الأوضح لهذه التناقضات. فعلى رغم كونهما تؤاماً، لم يشبه أحدهما الآخر، لا سيما من الناحية النفسية والأيديولوجية، وكان اختلافهما الصارخ نواة صراع، احتدم بينهما، وبات أكثر تعقيداً وضراوة في عوالمهما الداخلية، نتيجة ما يجمعهما من مشاعر حب فطرية. لذا تعمقت أزمة فهمي "وكيل النيابة" نتيجة انقسامه بين رفض سلوك أخيه وقبوله، بين تلقائية الالتصاق به والاضطرار إلى الابتعاد عنه، بين رغبتين متناقضتين لديه، الأولى في إدانته، والثانية في حمايته. كذلك حصلت شخصية أمينة على نصيب كبير من الصراع الداخلي بين ما تريده، وما آل إليه واقعها، بين حبها لشكري، ورفضها البقاء على هامش حياته، ما جعلها تشي به لدى السفارة المصرية في جنيف. وتبتعد عنه عائدة إلى مصر، من دون أن تطلب الطلاق. أما شكري فانقسم بين رغبته في ترك الجماعة، وعدم قدرته على التحلل منها، بين التزامه بقوانين الطاعة العمياء، وصوته الداخلي المتمرد.

صراعات سياسية

إلى جانب الصراعات التي اندلعت بين الشخوص، وفي عوالمها الداخلية، برز الصراع الأكبر، الذي هيمن على تلك الحقبة، ونقله الكاتب من فضاء التاريخ، إلى فضاء السرد. وهو صراع التيارات السياسية، في محاولاتها الوصول إلى الحكم، تارة مع الملك، وكذلك في ما بينها، لا سيما بين الإخوان المسلمين من جهة، وتنظيم الضباط الأحرار من جهة أخرى.

وقد سمح ما رصده الكاتب من صراعات سياسية، بطرح قضايا شائكة، ومسائل جدلية، حول شخصية الملك فاروق، وتراجع شعبيته، وموقفه من حركة الضباط الأحرار. وكذلك قضية حريق القاهرة، وحقيقة عضوية الرئيس جمال عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين. وأتاح ما اعتمده من تعدد الرواة، وتباين الرؤى؛ إبراز الغاية الحقيقية للمرشد، ملامح فكر الجماعة، أكاذيبهم، احتكارهم للجنة، واستثمارهم للمظلومية التي تشعر بها الطبقات الدنيا، واختزال تلك الطبقات للقيمة، في إطلاق اللحية والتمسح بالدين. وقد تطرق العشماوي عبر ما ساقه من أحداث، إلى تناول دور الجناح العسكري للجماعة، ولجوئها للسلاح، وقيامها بتصفية بعض الرموز، من بينهم النقراشي باشا، والقاضي أحمد الخازندار، وغيرهم، إضافة إلى أحلامها في الوصول للسلطة، ومصادر تمويلها المبهمة، وغير المعروفة "سؤال أكبر يشغلني، كيف تهبط نقود كثيرة على مجموعة من الأغبياء محدودي التفكير؟" (ص145). ووثق محاولات مؤسسها في توسيع انتشار الجماعة في الدول العربية، وتصدي الحكام العرب لهذه المحاولات.

تحولات كبرى

لم يكتف الكاتب بما مرره ضمناً من إدانات لجماعة الإخوان المسلمين، وإنما بدت هذه الإدانات مرة أخرى للحكم الجمهوري آنذاك، عبر ما رصده من أحداث أعقبت نجاح حركة الضباط الأحرار. وعكست انطفاء مصر التي كانت باريس الشرق، وتحول خيوط اللعبة من الإنجليز إلى الأميركان، وكذلك تحول الشعب من الولاء للملك، إلى الولاء للضباط الأحرار، وانتكاسة الحياة السياسية حد أن خرجت الحشود تطالب بسقوط الديمقراطية، وإلغاء الحريات، ومناشدة عبد الناصر للضرب بيد من حديد! وما تبع ذلك من الزج بالأبرياء والمعارضين في المعتقلات والسجون، وتعرضهم لمختلف أنواع المهانة والتعذيب. كذلك رصد ملامح مناخ فاسد أسفر فساده عن نكسة ثقيلة عام 1967.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت هذه الأحداث وتلك الصراعات، إضافة إلى ما اُستهلت به فصول الرواية من بيانات، أذاعتها الإذاعة المصرية بالفعل؛ ذراع الحقيقة التي عمد الكاتب عبرها لدعم واقعية النص، بعد أن أشار على عتباته الأولى، إلى أنه مستوحى من أحداث واقعية. كذلك كانت تلك الاستهلالات وسيلته لتبيان أثر الإعلام في توجيه وعي الجماهير، وأحادية الرؤية التي بلغت حد التضليل، في ظل نظام سياسي حرص على وئد التعدد والحريات منذ اللحظة الأولى "حسبت عدد الطيارات اللي أحمد سعيد قال إننا أسقطناها من يوم خمسة يونيو لغاية النهاردة لقيت إنها ضعف عدد طيارات مصر وإسرائيل مع بعض" (ص420).

شخوص مضطربة

الاضطراب ثيمة رئيسة تشاركتها غالبية الشخوص، فبدت متضعضعة، غير مكتملة، مشحونة بالتوتر والأسئلة المصيرية. وعاشت كوارث ومنعطفات خطيرة، عززت تمزقها، فاضطر رشدي إلى دراسة لم يرغب بها، نزولاً على رغبة الجماعة. وأُجبر على أداء أدوار لا تلائم شخصيته. وأُحيل للتقاعد شاباً. وأُرغم على عدم قبول الوزارة. واضطر للعيش في وكر النشالين، ثم للهروب بأوراق مزورة إلى سويسرا. كذلك طُرد فهمي من وظيفته. وزُج به بريئاً في المعتقل. وفقد زوجته وابنته. وكانت النكسة الضربة القاضية، التي هزمت روحه كغيره من ملايين المصريين. أما أمينة فجنت الكوارث والمنعطفات نفسها، نتيجة زواجها من شكري، وحياتها التي تمحورت حوله، حتى باتت مجرد ظل له. وفقدت في سبيله نفسها، وهو المصير الذي أنبأت به أحلامها، ومهدت له، حين كانت ترى فتاة ميتة تشبهها تخرج من بين ضلوعها، تنقر جسدها طيور بنية ضخمة، فتحدث برأسها وقلبها ثقوباً واسعة... هذا الدور التمهيدي لعبته أيضاً أحلام فهمي، بهروب حيوانات الحديقة من أقفاصها، وتعرضه للدهس من الفيل، في حين لم تتوقف القرود، التي يطعمها شكري عن الصياح، والتصفيق، تأييداً لما يدور حولها. ولم يقترب منها الفيل أبداً. وقد تنبأ هذا الحلم بمصير فهمي في المعتقل، وبما شهدته مصر من اضطرابات، لعبت جماعة الإخوان المسلمين دوراً رئيساً فيها، ولم يدفع ثمنها سوى الشعب.

وأضفت الأزمات والمصائر التي جنتها الشخوص، مسحة من الحزن والأسى على النسيج الروائي، غير أن الكاتب حاول خلخلة حالة التراجيديا، عبر ما دفع به من لمحات ساخرة "سكت الصول وكأنه يقلب فكرة ما في رأسه، وبعدها سألني بدهشة فاقت في كبرها طول أذنيه: أومال الحمار يبقى مين يا سي فهمي؟ سادت لحظات من الصمت المنطوي على ضحكات مكتومة، حتى انفجرت إحداها رغماً عني وجلجلت أخريات هنا وهناك" (ص380). كما مرر العديد من الرؤى، التي تنذر بخطورة ترك الرؤوس فارغة، فيسهل حشوها بالغث والرديء، في حين تقي الثقافة، والتفكير، وقراءة التاريخ، من مصائر مظلمة جناها السابقون.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة