Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمينة رشيد المفكرة المصرية التي اجتازت الأسوار

كتاب عنها يكشف مسيرتها النقدية والمعرفية ونضالها الذي أدى بها إلى السجن

المفكرة والناقدة المصرية الراحلة  أمينة رشيد (موقع كاتبات - صفحة فيسبوك)

غالباً ما تأتي كتب التكريم متسرعة لا يمنحها معنى سوى اسم المكرم، وفي ما عدا ذلك تتحول إلى نص يموج بالمدح والتبجيل حتى يتحول المكرم إلى أيقونة رومانسية، لكن سلمى مبارك أستاذة الأدب الفرنسي والناقدة في جامعة القاهرة أفلتت من هذا الشكل النمطي وقدمت بحثاً ممتعاً وعميقاً ومكثفاً عن أستاذة الأجيال، أمينة رشيد، وهي أيضاً أستاذتها مباشرة.

حين أرادت سلمى مبارك أن تقوم بتسجيل رسالة الدكتوراه عن الأدب والسينما عام 1994 وقعت ضجة كبيرة، فالحرس القديم كان لا يزال يرى التخصصات في شكل ضيق لا يسمح بمساحة للسينما. تمسكت سلمى بالموضوع، وبمساندة أمينة رشيد كمشرفة على الرسالة، وكان الأمر بمثابة نقطة مفصلية في تطور البحث العلمي في كلية الآداب، وهو ما أدى بعد ذلك إلى ظهور الدراسات البينية في جميع الأقسام. صدر كتاب "أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر" باللغة الفرنسية عن مشروع "مئة كاتب وكتاب" الذي يهدف إلى التعريف بأسماء عربية وفرنسية، أثرت الحوار بين ضفتي المتوسط في المجال البحثي والفكري، وهو مشروع شاركت فيه جائزة الملك فيصل في الرياض ومعهد العالم العربي في باريس، ثم صدرت الترجمة العربية عن دار المرايا في القاهرة (2023)، وهي ترجمة دقيقة وسلسلة أنجزتها داليا سعودي، وكتبت الباحثة والناقدة المعروفة سيزا قاسم مقدمة توضح السياق الفكري والمعرفي والسياسي الذي نشأ فيه جيل أمينة رشيد.

يضم الكتاب أربعة أقسام، يأتي القسم الأول بعنوان "الوساطة... مسار حياة"، وفيه تعرضت حفيدة إسماعيل صدقي باشا – أمينة - للرشق بالحجارة عام 1947 لأن جدها كان قد وقع على معاهدة صدقي - بيفن التي تزيد من تبعية مصر لإنجلترا. وتقول أمينة "كانت الصدمة الأولى التي أدركت على أثرها أن ثمة من يهاجمني، وأن من يهاجمني كان على حق" (41). كانت هذه الصدمة هي بداية تعرف أمينة إلى عالم مغاير، ومنذ تلك اللحظة لم تفارقها الأسئلة القلقة. وهي ربما اللحظة التي دفعتها إلى عبور الحدود الصارمة في ما بعد: طبقياً ولغوياً وفكرياً. بدعم من ماركسيتها والازدهار الفكري في عقد الستينيات سجلت أمينة رسالة الدكتوراه في باريس تحت إشراف الفيلسوف إتيامبل، أول من عمل على تفكيك المركزية الأوروبية في كتابه "دراسات في الأدب العالمي". كانت تلك سنوات التكوين التي لم تخلُ من النشاط السياسي والفكري. وعلى رغم توافر الظروف الجيدة التي تسمح لها بالبقاء في فرنسا، اختارت أمينة أن تعود إلى مصر. تقول "أدركت تماماً أن هذا التاريخ ليس تاريخي، وأن هذه الحياة ليست حياتي" (52). وفي مصر في عقد الثمانينيات، تبلور وجود أمينة كأكاديمية وناشطة سياسية، وكانت من مؤسسي لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية (1976 - 1996) إلى أن تم اعتقالها عام 1981 في الحملة الشهيرة التي شنها السادات.

الأدب المقارن

في القسم الثاني "باحثة الأدب المقارن ذات الرؤية" برعت سلمى مبارك في تكثيف رؤية أمينة رشيد في ما يتعلق بالأدب المقارن كمنهج وممارسة، وقامت بتضفير رؤى أمينة المتتالية كطالبة دكتوراه ثم ناشطة سياسية وأكاديمية وباحثة وناقدة في رؤية متكاملة تدل على ثراء مسار أمينة وفهم مبارك العميق لأهمية الخلفيات السياسية والمعرفية التي انطلقت منها أمينة. كانت المدرسة الفرنسية هي المتحكمة في مجال الأدب المقارن وعزز من وجودها كتاب محمد غنيمي هلال الذي صدر عام 1952، وهي مدرسة تنادي بالتأثر والتأثير (على غرار تأثير إليوت على صلاح عبدالصبور). وكان لا بد أن تخالف أمينة هذا التوجه الذي يرفع من شأن المصدر الغربي ويهمل "الآخر". ومن هنا اتجهت إلى التفكير في التماثل ونقاط الالتقاء وحياة الأجناس الأدبية وموتها، مع اعتبار مسار الحداثة ليس ذاك الذي طرحه الغرب، أي القرن التاسع عشر. وقد شكل "الآخر" محوراً أساسياً في فكر أمينة، فهي ليست ضد النموذج الإنساني الذي ينادي بالتعايش بين الثقافات، ولكنها أيضاً ليست مع الإعلاء من شأن الأنا (الغرب في هذه الحالة) والحط من شأن الآخر عبر نظرية التأثير والتأثر. فظروف الاحتلال والاستعمار والإمبريالية لا بد أن تؤخذ في الاعتبار، ولا بد أن يظهر حضورها في النص الأدبي قراءةً وتحليلاً.

اهتمت أمينة بمسألة لغة الأنا والآخر وبمفهوم الغيرية، بحيث أصبح للشرق صورة نمطية أحادية لدى الغرب، وهو ما ظهر في كتب الرحالة وأدب الرحلات. إلا أنها لاحظت في ما بعد التطور الذي لحق بالدراسات المقارنة بعدما انتقل المجال من وصف الصورة النمطية إلى تحليل العوامل التي أدت إلى تشكلها. ولم تكتفِ أمينة بهذه الرهانات النظرية، بل مارست رؤيتها منهجياً في مجال الرواية التي كانت تؤمن بأنها حيز للمعرفة، لأن التخييل قادر على كشف ما "لا يسمح التاريخ دوماً باستخلاصه" (90). والمسار، في المسار نفسه عملت أمينة على دراسة جنس السيرة الذاتية بوصفه دالاً على التاريخ، ومحكوماً به في الوقت نفسه. ولها مقال شهير عن السيرة الذاتية بعنوان "حيل السلطة في كتابة الذات"، صدر بالفرنسية في عام 2006.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يأتي القسم الثالث ليقدم نصوصاً مختارة من أعمال أمينة رشيد، أما الجزء الرابع والأخير فهو يقدم بعض ما كتب أو قيل عنها في مناسبات مختلفة: جان بيار دوبوست ورندة صبري وداليا السجيني وسيد البحراوي وسمر فاروق، وأخيراً المؤلفة ذاتها، سلمى مبارك. وما ختمت به مبارك هو جزء تخلت فيه عن النبرة الأكاديمية لتفصح عن مشاعر الفقد والخواء اللذين خلفتهما أمينة رشيد في حياتها. ولديها كل الحق في ذلك، فأمينة كما يبدو لي نموذج لن يتكرر، ليس فقط لاستحالة استعادة الظرف التاريخي والسياسي، لكن أيضاً بسبب دأبها الدائم والتزامها الصارم تجاه تحقيق اتساق بين الفكر والممارسة. فمثلاً عندما أدركت أن المدرسة الشكلانية الروسية التي تنادي بفصل النص تماماً عما يقع خارجه لا تفي بالغرض، وجدت ضالتها في باختين الذي اهتم بالزمان والمكان. وعندما قررت العودة إلى مصر جعلت من نفسها جسراً يصل بين الثقافة واللغة الفرنسية والثقافة واللغة العربية عبر البحث العلمي والترجمة والتفكير النقدي. وكما تقول المؤلفة "رحلة أمينة هي رحلة اجتياز دائم للأسوار، أسوار الذات والآخر، أسوار الثقافة والطبقة واللغة" (156).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة